تفنيد الشبهات المثارة حول المرأة في الإسلام

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-05 - 1444/03/09

اقتباس

تفنيد الشبهات المثارة حول المرأة في الإسلام

 

عبدالرحمن الطوخي

 

لقد أرْسَل الله - جلَّ جلالُه - رسولَه وأهل الأرْض أحوجُ إلى رسالته من حاجتهم إلى غيْث السماء، فحاجتُهم إلى رسالتِه فوقَ جميعِ الحاجات، فلا نعيمَ ولا لذَّة، ولا حياةَ للقُلوب إلاَّ بأنْ تعرفَ ربَّها وخالقَها وفاطرَها بأسمائه وصِفاته وأفعاله، ويكون أحبَّ إليها مما سواه، ومِن المحال أن تستقلَّ العقولُ البشريَّة بمعرِفة ذلك وإدراكه على التفصيل، فاقتضتْ رحمةُ العزيز الرحيم أنْ بعَثَ الرسل به معرِّفين، وإليه داعين، ولمَن أجابهم مبشرِّين، ولمَن خالفَهم منذرين، وأجابوا عن كثيرٍ من التساؤلات، وأزالَ الله على أيديهم التناقضاتِ والشبهات، ومع ذلك فما زال بيْننا مَن يُثير الشُّبَه، ويضرب أدلَّة الشَّرْع بعضها مع بعض، وما دَرَى شقيُّ قومه أنَّ نفسه أتعب، لا أرْضًا قطَع ولا ظهرًا أبقَى، فإنَّ ما جاء مِن عندِ الله لا يدخله التناقض، وإنما التناقض مِن قصور فَهْم الإنسان، وعدم نضوجِ فِكره.

 

وتُثار بين الفَيْنة والأخرى شُبهات، تُشكِّك الناس في دِينهم، وتزعزع معتقدَهم في خالقهم، وهي في الحقيقة أوْهى من خيْط العنكبوت.

 

وأنا أستعين الله تعالى في تقويضِ دعائمها، والردِّ عليها، وليحذر المرء مِن إيراد الشُّبه على قلبه، فإنَّ الشبه خطَّافة، والقلوب ضعيفة، لا سيَّما مع قلَّة البضاعة يتشرَّب القلبُ هذه الشبهَ فيكون قلبه كالإسفنجة تتشرب ما يوضع فيها، واللهَ نسأله التوفيقَ والسداد، ونعوذ به مِن الزيغ والضلال.

 

شُبُهات حول النُّصوص القرآنية:

دأب بعضُ الناس ذكرانًا وإناثًا على الاحتجاج ببعض النصوص وترديدها؛ لكي يدللَ بمفهومه الخاطئ على أنَّ الذكور أفضل من الإناث، وجعلوا مِن بعض الآيات دليلاً يحتج به على تدنِّي رتبة الأنثى في كلِّ أمر عن شقيقها الذكر، واستدلُّوا مِن القرآن بما يأتي:

 

المبحث الأول: دفْع الشُّبهة حولَ قوله - تعالى -: ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ ﴾ [النحل: 57]:

لا بدَّ أن نعلم أنَّ الآية لها نظائرُ في القرآن العظيم في سورة النحل، والصافات، والإسراء، والطُّور، وهذه السُّور مكية، جاءتْ لتصحيح عقائد الناس، وقد نزلتْ لتحاور الناس وتناقشهم، ومن ثَمَّ تحملهم على التوحيد؛ لذا فقد ركَّزَتِ السورة على أمر واحد، وهو تنزيه الله عن اتِّخاذ الولد أصلاً، ثم تنزيهه عن اتِّخاذ البنات أصلاً، فهذه الآية لا تنتقص الأُنثى كما يبدو مِن أوَّل الأمر، وإنما تخاطب العربَ على حسب معتقداتهم المبدئية، وعلى قدْرِ عُقولهم المتأثِّرة بالجاهلية، وتبين حالهم العجيبة، فما داموا يأنفون مِن البنات، ويكرهونهن، فكيف ينسبونهنَّ لله، ويتَّخذون لأنفسهم البنين؟! وأيُّ قِسْمة هذه؟!

 

لأنَّ هؤلاء القوم لا يُحسِنون إعمالَ الفِكر في مُعْتَقَداتهم، وإلا لكانوا حين جَعَلوا لله بنوةً ألا يجعلوا له بنوةَ الإناث، وهم يعدُّون الإناث مكروهاتٍ مستضعفاتٍ - كما يقول الطاهر بن عاشور[1].

 

المبحث الثاني دفع الشبهة حول قوله - تعالى -: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى ﴾ [آل عمران: 36]:

يُردِّد بعضُ الناس هذه الآية على أنَّها الحُكم الذي لا يقبل المداولة، على تمييز الذَّكر وارْتفاعه على الأنثى دون قيْد أو شرْط، مع أنَّ تفسيرها الصحيح يُعطي معنى مغايرًا لما يستدلُّون به.

 

هذه الآية الكريمة جاءتْ في معرِض الحديث عن مريمَ وأمِّها، وكيف وضعتْ مريم.

 

قال الإمام الشوكانيُّ في تفسيره: قوله ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ ﴾ [آل عمران: 36] قرأ أبو بكر، وابن عامر بضَمِّ التاء، فيكون مِن جملة كلامها، ويكون متصلاً بما قبله، وفيه معنى التسليم لله، والخضوع، والتنزيه له أنْ يخفَى عليه شيء، وقرأ الجمهور: ﴿ وَضَعَتْ ﴾، بسكون التَّاء، فيكون من كلامِ الله سبحانه على جِهة التعظيمِ لِمَا وضعتْه، والتفخيم لشأنه، والتجليل لها حيثُ وقَع منها التحسُّر، والتحزُّن، مع أنَّ هذه الأنثى التي وضعتْها سيجعلها الله وابنَها آيةً للعالمين، وعِبْرة للمعتبرين، ويختصُّها بما لم يختصَّ به أحدًا، وقرأ ابن عباس: ﴿ بِمَا وَضَعْتِ ﴾ بكسر التاء على أنَّه خِطاب من الله سبحانه لها؛ أي: إنك لا تَعْلمين قدْرَ هذا الموهوب، وما عَلِم الله فيه من الأمور التي تتقاصَر عنها الأفهام، وتتضافَر عندَها العقول.

 

قوله: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ﴾؛ أي: وليس الذكر الذي طلبت، كالأنثى التي وضعت، فإنَّ غاية ما أرادتْ مِن كونه ذكرًا أن يكون نذرًا خادمًا للكَنيسة، وأمر هذه الأُنْثى عظيم، وشأنها فخيم، وهذه الجُملة اعتراضيَّة مبيِّنة لِمَا في الجملة الأولى من تعظيمِ الموضوع، ورفْع شأنه، وعلوِّ منزلته، واللام في (الذَّكر)، و(الأنثى) للعهد، هذا على قراءة الجمهور، وعلى قراءةِ ابن عباس، وأمَّا على قراءةِ أبي بكر، وابن عامر، فيكون قوله: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ﴾ مِن جملة كلامها، ومِن تمام تحسُّرها، وتحزُّنها؛ أي: ليس الذكر الذي أردتُ أن يكون خادمًا، ويصلح للنذر كالأُنثى التي لا تَصْلُح لذلك[2].

 

ولَمَّا كانت الأنثى لا تصلح لخِدمة الكنيسة لما يعتريها من الحيض، ولأنَّها لا تصلح لصُحْبة الرهبان.

 

ومِن هنا يتبيَّن أنَّ قولَه - تعالى -: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى ﴾ إمَّا:

1- من كلام الربِّ - عزَّ وجلَّ - على قراءةِ الجمهور؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَضَعَتْ ﴾، ويكون المعنى ليس الذَّكر الذي طلبتْ كالأنثى التي وضعتْ؛ فتكون الآية مثبِتة لمجرَّد المغايرة والفرْق بيْن كلٍّ مِن الذكر والأنثى، ولم تتعرَّض لتفضيل أحدٍ منهما على الآخر.

 

2- مِن كلام امرأة عمران على القراءةِ الأُخرى (وضعتُ)، فتكون الآية إخبارًا عن قول مريم، فلم تأتِ الآية لتقرير واقع، وإثبات حقيقة، ولم تقصد أمُّ مريم الانتقاصَ مِن شأن الأنثى؛ وإنَّما قالتْ ذلك لتبيِّن أنَّ وظيفة الذَّكَر مختلفةٌ عن وظيفة الأنثى؛ وما يصلح له لا يصلح لها.

 

المبحث الثالث: دفْع الشبهة حولَ قوله - تعالى -: ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ [البقرة: 228]:

لقد جاءتِ الآية في مَعْرض الحديث عن أحكامِ الطلاق، ثم رسمتِ الآية طبيعةَ العلاقة الزوجية بيْن الرجل والمرأة، ومِن خلال كلمات قليلات بيَّنتِ الآية مسؤوليةَ كلِّ واحد منهما تجاهَ الآخر، وإلى جانب ذلك للرجل عليهنَّ درجة، وللهِ الخلق والأمر، فللنِّساءِ مِن الحقوق مثلُ الذي عليهنَّ مِن الواجبات، ولكن تباينتْ آراء المفسِّرين في معنى الدَّرجة، واختلفتْ أقوالهم:

فقرَّر أغلبُ المفسِّرين أنَّ "الدرجة" غير مقيَّدة بالطلاق، وقرَّروا أنها حُكمٌ عام يُنظِّم العلاقة بيْن الرجل وزوجته.

 

وذهَب آخرون إلى أنها ليستْ مُطلقةَ الدلالة، إنما هي مقيَّدة بحقِّ الرجل في الطلاق والمراجعة؛ مراعاةً لسياق الآيات.

 

ومِن أجْمَل ما ورَد في بيان معنى "الدرَجة" قولُ ابن عبَّاس - رضي لله عنهما - الذي أخرَجه الطبريُّ: ما أحبُّ أن أستنظفَ جميعَ حقي عليها؛ لأنَّ الله - تعالى ذكره - يقول: ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ [البقرة: 228].

 

ثم قال - بعد حكاية الأقوال في هذه الآية -: وأَوْلى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قالَه ابنُ عبَّاس، وهو أنَّ الدرجة التي ذكَر الله - تعالى ذِكرُه - في هذا الموضِع: الصفح مِن الرجل لامرأته عن بعضِ الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كلِّ الواجب لها عليه؛ وذلك أنَّ اللَّهَ - تعَالى ذِكْرُه - قالَ: ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ [البقرة: 228] عُقَيْبَ قَوله: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228]، فَأَخْبَرَ - تعالَى ذِكْرُه - أَنَّ على الرَّجُلِ مِنْ تَرْكِ ضِرارِها فِي مُرَاجَعَتِهِ إِيَّاها في أَقْرَائِهَا الثَّلاَثَة، وفِي غَيْرِ ذلكَ مِن أُمُورِها وَحُقُوقِهَا، مِثْلَ الَّذِي له عليها مِن ترْك ضرارِه في كِتْمانها إيَّاه ما خَلَق الله في أرحامهنَّ، وغير ذلك مِن حُقوقِه[3].

 

ونقَل القرطبي معناه قائلاً: "الدرجة إشارةٌ إلى حضِّ الرجال على حُسنِ العِشرة، والتوسُّع للنساء في المالِ والخلق؛ أي: إنَّ الأفضل ينبغي أن يتحامَل على نفسه"؛ ثم قال القرطبيُّ: قال ابن عطية بعدَ أنْ ساق قول ابن عباس: "وهذا قولٌ حسن بارع"[4].

 

ومِن هنا يتبيَّن أنَّ الدرجة جاءتْ لصالح المرأة، ومراعاتها، فهي تكليفٌ للرجل، وتشريفٌ للمرأة، والذي ينبغي أن يترجَّح في دلالة الآية هو ما يؤيِّده السياقُ العام الذي جاءتْ فيه الآية، وهو أنَّ هذه الدَّرَجة للرجل هي درجةُ القوامة التي جعَلَها الله للرجل دون المرأة.

 

وهي لصالِح كلٍّ منهما، وهي تكليفٌ للرجل، وتحميلُ المسؤولية له، وإراحةٌ للمرأة من عناءِ هذه المسؤولية.

 

شُبُهات حول الأحاديث النبوية:

إنَّ ممَّا يُثير عجبَك، ويشد اهتمامَك، ما تراه من بعض القوم، ممَّن ابتلاهم الله بلُوثةٍ فكرية وعقْليَّة، قد ذهبتْ بعقولهم كلَّ مذهب، وراحوا يطعنون في أحاديثَ ثابتة، بحُجَّة أنها لا توافق عقولَهم المريضة، وتأباها نفوسُهم الهذيلة، فليحمدِ المرءُ منَّا ربَّه أنْ عافاه ممَّا ابتلى به غيرَه، ويسأله الثباتَ على دِينه حتى يلقاه.

 

المبحث الأول: شبهة شؤم المرأة:

يُدندِنُ بعضُ الناس مِن بني جِلدتنا، ويزعم بعضُ الشرذمة الذين لا خَلاقَ لهم: أنَّ الإسلام عاقَ المرأة وأهانها، ووصفها بالشُّؤم، ويَنفثُون سمومَهم في هذه الأحاديث، ويَذكُرون حديثَ الحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما الشؤم في ثلاثة: في الفَرَس والمرأة والدار))، ويسلك بعضُ الجاهلين إلى موقفين لا ثالثَ لهما، إمَّا التضعيف، أو الدعوة لغربلةِ الصحاح والسنن، ممَّا علق بها من أحاديثَ ضعيفة وموضوعة، ألاَ شاهتِ الوجوه، وأُخمدت الألسن، وللهِ الأمر من قبلُ ومن بعدُ.

 

وإليك الجواب عن الشبهة:

الحديث أخرَجه الشيخانِ مِن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: ((إنما الشؤم في ثلاثة: في الفَرَس والمرأة والدار))، وكذلك أخرجه الشيخان مِن حديثِ سهْل بن سعد - رضي الله عنه - بلفظ: ((إنْ كان في شيءٍ ففي المرأة والفَرَس والمَسْكن))، وبوَّب عليهما البخاريُّ باب: ما يُذكر مِن شؤم الفَرَس.

 

قال الحافظُ في الفتح (6/60): "قوله "باب ما يُذكر من شؤم الفرَس"؛ أي: هل هو على عمومِه أم مخصوص ببعض الخَيْل، وهل هو على ظاهره أم مُؤَّول... وقد أشار بإيراد حديثِ سهل بعدَ حديث ابن عمر إلى أنَّ الحصر الذي في حديثِ ابن عمر ليس على ظاهرِه، وبترجمة الباب الذي بعدَه، وهي "الخيل لثلاثة" إلى أنَّ الشؤم مخصوص ببعض الخيل دون بعض، وكل ذلك مِن لطيف نظرِه، ودقيقِ فِكْره".

 

وليس في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما الشؤم في ثلاثة)) إثباتٌ الطيرة، بدليلِ لفْظ حديث سهل: ((إنْ كان في شيءٍ، ففي المرأة والفرَس والدار))، ولكنَّه عنَى أنَّ الشؤم لو كان جائزًا لكان في هذه الأشياء الثلاثة؛ لطولِ ملازمتها، ولكونِها أكثرَ ما يَتطيَّر به الناس.

 

وقد اختلف العلماءُ في فَهْم هذه الأحاديث والتوفيق بينها وبيْن أحاديث النهي عن التطيُّر:

فمِنهم مَن حملها على ظاهرها، ورأى أنَّ هذا مستثنى من الطيرة؛ أي: الطيرة منهيٌ عنها إلا أن يكون له دارٌ يكره سُكَّناها، أو امرأة يَكْره صحبتها، أو فرس أو خادم، فليفارقِ الجميع بالبيع ونحوه، وطلاق المرأة.

 

وقال آخرون: شُؤم الدار ضِيقها، وسوء جِيرانها وأذاهم، وشؤم المرأة عدمُ ولادتها، وسلاطةُ لسانها، وتعرُّضها للريب، وشؤم الفَرَس ألا يُغْزَى عليها، وقيل: حِرانُها وغلاءُ ثمنها، وشؤم الخادِم: سوء خُلُقه، وقلَّة تعهده لمَّا فُوِّض إليه[5].

 

قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "وقالتْ طائفةٌ أخرى: الشؤمُ في هذه الثلاثة إنَّما يَلْحَق مَن تشاءم بها وتطيَّر بها، فيكون شُؤمها عليه ومَن توكَّل على الله ولم يَتشاءَم ولم يتطيَّر، لم تكن مشؤومةً عليه، قالوا: ويدلُّ عليه حديثُ أنس: ((الطِّيَرة على مَن تَطيَّر))، وقد يجعل الله - سبحانه - تَطيُّرَ العبْد وتشاؤُمَه سببًا لحلولِ المكروه به، كما يجعل الثِّقةَ والتوكُّلَ عليه وإفرادَه بالخوف والرجاء مِن أعظمِ الأسباب التي يَدفَع بها الشرَّ المتطيَّر به.

 

وسرُّ هذا: أنَّ الطيرة إنما تتضمَّن الشرك بالله تعالى، والخوف من غيره، وعدمَ التوكل عليه، والثقة به، فكان صاحبُها غرَضًا لسهام الشر والبلاء، فيتسرَّع نفوذها فيه؛ لأنَّه لم يتدرَّع من التوحيد والتوكل بجُنَّة واقية، وكلُّ مَن خاف شيئًا غير الله سُلِّط عليه، كما أنَّ مَن أحبَّ مع الله غيره عُذِّب به، ومَن رجَا مع الله غيرَه خُذِل مِن جهته، وهذه أمور تجرِبتُها تكفي عن أدلَّتها، والنفس لا بدَّ أن تتطيَّر، ولكن المؤمِن القوي الإيمان يدْفَعُ موجبَ تطيره بالتوكل على الله، فإنَّ مَن توكل على الله وحْده كفاه مِن غيره؛ قال - تعالى -:﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 98 - 100]؛ ولهذا قال ابنُ مسعود: "وما منَّا إلا - يعني: مَن يقارب التطيُّر - ولكن الله يذهبه بالتوكُّل".

 

قالوا: فالشؤم الذي في الدار والمرأة والفرَس قد يكون مخصوصًا بمن تشاءم بها وتطيَّر، وأمَّا مَن توكل على الله وخافَه وحْدَه، ولم يتطيَّرْ ولم يتشاءمْ، فإنَّ الفرَس والمرأة والدار لا يكون شؤمًا في حقِّه"[6].

 

والصحيح أنَّ الطِّيَرة مذمومةٌ كلها، وأنه ليس شيءٌ مِن النساء أو الدُّور أو الدواب تضرُّ أو تنفع إلاَّ بإذن الله، فهو سبحانه خالقُ الخير والشر، وقد يَبتلي العبدَ بامرأة سيِّئة الخلق، أو دار يكثر فيها العطَب، فيُشرَع للعبد التخلُّص مِن ذلك؛ فرارًا مِن قَدَرِ الله إلى قَدَر الله، وحذرًا من الوقوع في التشاؤم المذموم.

 

المبحث الثاني: شبهة نقصان عقل المرأة ودِينها:

قلَّ أنْ تجدَ رجُلاً أو امرأة إلا ويحفظ هذه العِبارة: "المرأة ناقِصة عقل ودين"، ويلوي عنقَ النص؛ ليطعنَ به النساء، ويَصِم الإسلامَ بظلم المرأة، ويَصدُق فيه قول القائل:

وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحًا

وَآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ
 

ولمناقشة هذا القول نقول:

عن أبي سعيدٍ الخُدري - رضي الله عنه - قال: خرَج رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أضْحَى، أو فِطر - إلى المصلَّى فمرَّ على النساء، فقال: ((يا معشرَ النساء، تَصدقْنَ، فإني أريتكنَّ أكثرَ أهل النار))، فقلن: وبِمَ يا رسول الله؟ قال: ((تُكثِرْنَ اللعْنَ وتَكفُرْنَ العشير، ما رأيتُ مِن ناقصاتِ عقل ودِين أذهبَ للُبِّ الرجل الحازم مِن إحداكنَّ!)) قلن: وما نُقصان دِيننا وعقلنا يا رسولَ الله؟ قال: ((أليسَ شهادةُ المرأة مثل نِصف شهادة الرجل؟)) قلْنَ: بلى، قال: ((فذلك مِن نقصان عقْلِها، أليس إذا حاضتْ لم تُصلِّ ولم تَصُمْ؟)) قلْنَ: بلى، قال: ((فذلك مِن نقصان دِينها))[7].

 

بَيَّن - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ نقصان عقلها من جِهة ضعْف حفظها، وأنَّ شهادتها تُجْبَر بشهادة امرأةٍ أخرى؛ وذلك لضبط الشهادة، بسبب أنَّها قد تنسَى، فتَزيد في الشهادة أو تنقصها، كما قال سبحانه: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ [البقرة: 282].

 

أولاً: لا يُمكن فَهْم هذا الحديث وعزْله عن آية الدَّيْن التي تتضمَّن نصابَ الشهادة، والفَهْم الخاطئ يوقِع المتعالِمين في الأغلوطات، وفي كثيرٍ من الورطات.

 

ثانيًا: جاء لفظ الإمام مسلم "قيام امرأة جزلة منهنَّ"؛ لتناقش رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والجزلة هي صاحبةُ العقل الوافِر، والرأي السَّديد، فيكف تكون امرأة ناقصة عقل؟!

ثالثًا: الحديث سِيق في التعجب من النساء وقدرتهنَّ على التأثير، فلو كان نقصًا لكان الرجلُ به أحقَّ، وبوصْفِه أجدر الأولى حذفها

 

قال الإمام العيني: "فإنْ قلت: أليس ذلك ذمًّا لهن، قلت: لا، وإنَّما هو على معنى التعجُّب، فإنهنَّ مع اتصافهنَّ بهذه الحالة يفعلْنَ بالرجل الحازِم كذا وكذا"[8].

 

رابعًا: أنَّ نقصان العقل والدِّين فَسَّره رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث فيقتصر عليه، ولا يتعدَّى عليه، وأعْلى مراتب تفسيرِ الحديث، الحديثُ نفسه.

 

وأمَّا نُقصان دِينها؛ فلأنَّها في حالة الحيْض والنِّفاس تدَعُ الصلاة، تدع الصوم، ولا تقضِي الصلاة، فهذا مِن نُقصان الدِّين، ولكن هذا النَّقْص ليست مؤاخَذة عليه، وإنَّما هو نقصٌ حاصل بشَرْع الله - عزَّ وجلَّ - هو الذي شرَعه - عزَّ وجلَّ - رِفقًا بها، وتيسيرًا عليها؛ لأنَّها إذا صامتْ مع وجود الحيض والنفاس يضرُّها ذلك، فمِن رحمة الله أنْ. شوقي شرَع لها ترك الصيام وقتَ الحيض والنفاس، والقضاء بعد ذلك.

 

وأمَّا الصلاة فإنَّها حال الحيض قد وُجِد منها ما يمنع الطهارة، فمِن رحمة الله - جلَّ وعلا - أنْ شَرَع لها ترْكَ الصلاة، وهكذا في النِّفاس، ثم شرَع لها أنها لا تقضي؛ لأنَّ في القضاء مشقَّة كبيرة؛ لأنَّ الصلاة تتكرَّر في اليوم خمْس مرَّات، والحيْض قد تكثُر أيامه، فتبلُغ سبعة أيَّام أو ثمانية أيَّام أو أكْثر، والنِّفاس قد يبلغ أربعين يَومًا، فكان مِن رحمة الله لها وإحْسانه إليها أن أسقطَ عنها الصلاة أداء وقضاء، ولا يلزم مِن هذا أن يكون نقصُ عقلها في كلِّ شيء، ونقص دِينها في كلِّ شيء، وإنما بَيَّن الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ نقص عقلها من جِهة ما قد يحصُل مِن عدم الضبط للشهادة، ونقْص دِينها مِن جِهة ما يحصُل لها من ترْك الصلاة والصوم في حالِ الحيض والنفاس، ولا يلزم مِن هذا أن تكون أيضًا دون الرجل في كلِّ شيء، وأنَّ الرجل أفضلُ منها في كلِّ شيء، وقد تكثُر منها الأعمال الصالِحات فترْبُو على كثيرٍ مِنَ الرِّجال في عملها الصالِح، وفي تقواها لله - عزَّ وجلَّ - وفي منزلتِها في الآخِرة، وقد تكون لها عنايةٌ في بعضِ الأمور فتضبط ضبطًا كثيرًا أكثر مِن ضبط بعضِ الرِّجال في كثيرٍ مِن المسائل التي تُعنَى بها، وتجتهد في حِفْظها وضبْطها فتكون مرجعًا في التاريخ الإسلامي، وفي أمورٍ كثيرة، وهذا واضحٌ لِمَن تأمَّل أحوال النِّساء في عهْد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

وبهذا يُعلَم أنَّ هذا النقص لا يمنع مِنَ الاعتماد عليها في الرِّواية، وهكذا في الشهادة إذا انجبَرتْ بامرأةٍ أخرى، ولا يمنع أيضًا تقواها لله، وكوْنها مِن خِيرَة عباد الله، ومِن خِيرَة إماء الله إذا استقامتْ في دِينها، وإنْ سقَط عنها الصوم في الحيْض والنِّفاس أداءً لا قضاء، وإنْ سقطت عنها الصلاة أداءً وقضاءً، فإنَّ هذا لا يلزم منه نقصُها في كلِّ شيء مِن جهة تقواها لله، ومِن جِهة قيامها بأمره، ومِن جهة ضبطها؛ لِمَا تَعْتني به مِنَ الأمور، فهو نقْص خاصٌّ في العقْل والدِّين، كما بَيَّنه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلا يَنبغي للمؤمِن أن يرميَها بالنقص في كلِّ شيء، وضعْف الدِّين في كلِّ شيء، وإنَّما ضعْفٌ خاصٌّ بدِينها، وضعْف في عقْلِها فيما يتعلَّق بضبْط الشَّهادة، ونحو ذلك، فينبغي إنصافُها، وحمل كلامِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على خيْر المحامِل وأحسنها، والله تعالى أعلم.

 

ألاَ فليتَّقِ الله مَن يقتطع الأدلَّة، ولْيوردْها كاملة وفي مواطن الاستشهاد، وليحذر مِن التحريف أو التعطيل، وليسألْ إذا لم يعلم، فإنَّما شفاءُ العِيِّ السؤال.

 

المبحث الثالث: شبهة حول شهادة المرأة:

يُثير أعداءُ الإسلام هذه الشُّبهة، ويُدندنون حولَها، ويرَوْن أنَّ الإسلام انتقص المرأة، ويستدلُّون بقول الله تعالى: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ [البقرة: 282].

 

وإليك تفنيد الشبهة:

أولاً: الشَّهادة مصدرُ "شَهِد" لإدارة الأنواع؛ قال الجوهري: "الشهادة خبرٌ قاطع، والشاهد حامِل الشهادة، ومؤدِّيها؛ لأنَّه مشاهد لما غاب عن غيرِه"[9].

 

ثانيًا: الشهادة تكليفٌ لا تشريف، وليس حقًّا يتزاحم الناسُ عليه، إنما هي عبءٌ ثقيل يتهرَّب الشاهد منه؛ لأنَّ الشاهد يشهد، وغيره يقبض.

 

ومصدر الشُّبهة في الآية الكريمة هو الخلْط بيْن "الشهادة" وبين "الإشهاد"، فالشهادة التي يعتمد عليها القضاءُ في اكتشاف العدل المؤسَّس على البيِّنة، واستخلاصه مِن ثنايا دعاوي الخصوم، لا يُتَّخذ من الذكورة أو الأنوثة معيارٌ لصِدقها أو كذبها، وإنَّما معيارها تَحقُّق اطمئنان القاضِي لصِدْق الشهادة بصَرْف النَّظَر عن جِنس الشاهد.

 

فالآية الكريمة تتحدَّث عن أمرٍ آخَر غير "الشهادة" أمامَ القضاء، تتحدَّث عن "الإشهاد" الذي يقوم به صاحبُ الدِّين للاستيثاق مِن الحِفاظ على دِينه، وليس عن "الشهادة" التي يعتمد عليها القاضي في حُكمه بيْن المتنازعين.

 

فهي - الآية - مُوجَّهة لصاحب الحقِّ - الدَّين - وليس إلى القاضي الحاكِم في النِّزاع، بل إنَّ هذه الآيةَ لا تتوجَّه إلى كلِّ صاحِب حقٍّ، ولا تشترط ما اشترطتْ مِن مستويات الإشْهاد وعدد الشهود في كلِّ حالات الدَّين، وإنَّما توجهتْ بالنُّصْح والإرْشاد فقط، إلى دائن خاص، وفي حالاتٍ خاصَّة مِن الديون، والإشهاد لا بدَّ أن يكون مِن رَجُلين من المؤمنين، أو رجل وامرأتين من المؤمنين، وأن يكون الشهودُ ممَّن تَرضَى عنهم الجماعة، ولا يصحُّ امتناعُ الشهود عن الشهادة، وليستْ هذه الشروط بمطلوبة في التجارة الحاضرة، ولا في المبايَعات[10].

 

وانطلاقًا مِن مفهوم الشهادة في الإسلام، عزَّز الإسلامُ الشهادة مطلقًا، فعزَّز شهادة الرجل بشهادةِ رجلٍ آخر؛ قال تعالى : ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ [البقرة: 282]، ومع ذلك لم يعتبرْ أحدٌ أن هذا مسيسٌ بكرامة الرجل، وعند عدم توافُر الشاهدين من الرِّجال، والاحتياج إلى شهادةِ المرأة، عززتْ شهادة الرجل بامرأتين، والآية علَّلتِ اشتراطَ المرأتين بقوله تعالى: ﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ [البقرة: 282].

 

يقول ابن القيِّم: قال شيخُنا ابنُ تيمية - رحمه الله -: "فيه دليلٌ على أنَّ استشهاد امرأتين مكانَ رجل إنما هو لإذْكار إحداهما الأخرى إذا ضلَّت، وهذا إنما يكون فيما يكون فيه الضلالُ في العادة، وهو النسيان وعدم الضبط... وما تقبل فيه شهادتهنَّ منفردات إنما هي أشياءُ تراها بعينها، أو تَلْمَسها بيدها، أو تسمعها بأذنها من غيْر توقُّف على عقل كالولادةِ والاستهلال، والارْتِضاع والحيض، والعيوب تحتَ الثياب، فإنَّ مثل هذا لا يُنسَى في العادة، ولا تحتاج معرفته إلى إعمالِ عقل كمعاني الأقوال التي تَسْمَعها مِن الإقرار بالدَّين وغيره، فإنَّ هذه معانٍ معقولة، ويطول العهْد بها في الجُملة"[11].

 

ومِن أسباب ضلالِ المرأة عند شهادته:

1- أنَّ رسالة المرأة في حياتها تستلزم بقاءَها في البيت غالبَ الأوقات، وبخاصَّة في أوقات البيع والشراء، والمعامَلات الماليَّة التي تكون بين الناس، وما كان كذلك فليس مِن شأنها الحِرْص على تذكُّرِه حين مشاهدته؛ لأنَّها غالبًا ما تمرُّ لا تلقي لها بالاً، فإذا شهدتْ كان احتمال النسيان واردًا، فإذا شهدتْ معها أخرى زال احتمالُ النسيان.

 

2- أنَّ آية الدَّين تُرشِد إلى أكمل وجوه الاستيثاق، ومِن المعلوم في الغالب: أنَّ المرأة لا تشغل بالَها بالمعاملات المالية، فمَا لم تَعْتَدْه، ولم تشغلْ بالها به، فاحتمالُ النسيان فيه واردٌ، وفوق ذلك فالشهادة تُستحَلُّ بها أموالٌ، وأنفُسٌ، وأعراض، فهل تعجب أنْ أمَر الإسلام بالاستيثاق فيها؟!

 

3- أنَّ النسيان قد ينشأ من تركيبةِ المرأة العُضوية البيولوجية، التي تؤثِّر في نفسيتها، ممَّا يجعلها سريعةَ الاستجابة الوجدانية الانفعالية، وهذا تركيبٌ مناسب لمطالِب طِفلها بسرعة وحيوية، لا ترجع فيه إلى التفكيرِ البطيء، وهذا مِن فضل الله عليها وعلى الطِّفْل، والشهادة على التعاقُد في حاجةٍ إلى تجرُّد كبير مِن الانفعال، ووقوف عندَ الوقائع بلا تأثر ولا إيحاء، ووجود امرأتين فيه ضمانٌ أنْ تُذكِّر إحداهما الأخرى.

 

وأخيرًا: الأمور التي لا تُقبل فيها شهادةُ المرأة:

1- شهادة أربعة رجالٍ أحرار على الزنا.

 

2- ما يَطَّلع عليه الرجالُ لا يُقبل فيه أقلُّ مِن رجلين، وهو نوعان:

أ- العقوبات، وهي "الحدود والقصاص"، وهو قول جمهور العلماء.

 

ب- ما ليس بعقوبةٍ كالنِّكاح والطلاق والرجعة، اختلف العلماءُ فيه، والصحيح: أنّه كالحدود والقصاص، كما ذكر ابنُ قدامه في "المغني".

 

3- المعاملات المالية مِن بيْع، ووقْف، وإجارة، وهِبة، وصُلح...، لا يُقبل فيه أقلُّ من رَجُلين، أو رَجُل وامرأتين، ونقل ابنُ قدامه الإجماعَ على ذلك.

 

4- وهناك مسائلُ لا تُسمَع فيه شهادة الرجل، وتُسمع فيه شهادةُ المرأة، وهي القضايا التي تختصُّ بالنساء؛ كالولادة، والاستهلال، والرَّضاع، والعيوب تحتَ الثياب، كالرَّتَق والقَرَن، والبَكارة، والثيابة[12].

 

المبحث الرابع: شبهة ميراث الأنثى نصف ميراث الذكر:

يَدَّعي بعضُ الناس، فيقول: إنَّ الإسلام ظلَم المرأة في الميراث بجعل حظِّها نصفَ حظِّ الرجل.

 

وإليك تفنيدَ دعواه، وإبْطال شُبْهَته:

إنَّ التفاوت بيْن الذكور والإناث في بعضِ مسائل الميراث تَحكُمه معاييرُ ثلاثة:

1- درجةُ القرابة بيْن الوارث - ذكرًا أو أنثى - وبيْن المُورِّث - المتوفَّى - فكلَّما اقتربتِ الصلةُ زاد النصيبُ في الميراث، وكلَّما بعُدتِ الصلة قلَّ النصيب في الميراث، دونما اعتبار لجِنس الوارثين.

 

2- موقِع الجيل الوارث مِن التتابُع الزمني للأجيال... فالأجيال التي تستقبل الحياة، وتستعدُّ لحمل أعبائها، عادةً يكون نصيبها أكبرَ من نصيب الأجيال التي تستدبِر الحياة، وتُخفف مِن أعبائها، بل وتصبح أعباؤها عادةً مفروضة على غيرها، وذلك بصرف النظرِ عن الذكورة أو الأنوثة للوارثِين والوارثات.

 

3- العبء المالي الذي يُوجِب الشرع الإسلامي على الوارثِ تحمُّله، والقيام به حيالَ الآخرين، وهذا هو المعيارُ الوحيد الذي يُثمِر تفاوتًا بين الذكر والأنثى، ولكنَّه تفاوت لا يُفضي إلى أيِّ ظلم للأنثى أو انتقاصِ إنصافها[13].

 

وتأمَّل - رحمك الله - الربطَ بيْن الشرائع وبيْن الواقع في هذا الحُكم - أعني: في الآية الكريمة التي استدلَّ بها أصحابُ الشبهات - وهو أنَّ البنت تأخُذ النصف في الأعمِّ الأغلب؛ لماذا؟ لأنَّه لَمَّا كان الرجل قوَّامًا على المرأة، مكلَّفًا بالإنفاق على أُسرته، جاءَ هذا التشريعُ مظهرًا من المظاهِر التشريعيَّة لتطبيق هذا الأصل، وهو تكليفُ الرجل بالإنفاق على أسرته.

 

قال الإمام النووي - رحمه الله - في بيان الحِكمة مِن تفضيل الرجال على النساء في الإرْث: "حِكمته أنَّ الرجال تلحقهم مؤنٌ كثيرة في القيام على العيال، والضيفان، والأرقَّاء، والقاصدين، ومواساة السائلين، وتحمُّل الغرامات وغير ذلك، والله أعلم"[14].

 

وإنَّ استقراء حالاتِ الميراث ومسائله - كما جاءتْ في علم الفرائض - يكشِف عن حقيقةٍ قد تذهل الكثيرين عن أفكارِهم السابقة والمغلوطة في هذا الموضوع... فهذا الاستقراءُ لحالات ومسائل الميراث يُبيِّن لنا:

1- أنَّ هناك أربعَ حالات فقط ترِث فيها المرأة نصفَ الرجل.

2- وهناك حالات أضعاف هذه الحالات الأَرْبع ترث فيها المرأةُ مثل الرجل تمامًا.

3- وهناك حالاتٌ عشر، أو تزيد ترث فيها المرأةُ أكثرَ من الرجل.

4- وهناك حالاتٌ ترِث فيها المرأة ولا يرِث نظيرُها من الرِّجال.

 

أي: إنَّ هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخُذ فيها المرأة مثل الرجل، أو أكثر منه، أو ترِث هي ولا يرث نظيرُها مِن الرجال، في مقابل أربع حالات محدودة تَرِث فيها المرأةُ نصف الرجل؛ لأسبابٍ تتوافق مع الروافد الأخرى مِنَ الأحكام الشرعية التي تتكامَل أجزاؤها في توازن دقيق، ولا يُظلَم طرَفٌ على حسابِ آخر؛ لأنَّها شريعة الله تعالى الحكيم الخبير[15].

 

وختامًا: يُمكن القول بأنَّ مال الميراث لم يتسبَّبْ فيه أحدٌ البتة، وما سُعِي في تحصيله عرفًا، وإنما هو تمليكٌ مِن الله مَلَّكهما إيَّاه تمليكًا جبريًّا، فاقتضتْ حكمة الحكيم الخبير أنْ يكون للذكر مثلُ حظ الأُنثيين، وإنْ أدليَا بسبب واحد؛ لترقبِ الذَّكر للنقص، والمرأة للزِّيادة، وهذه حِكمة ظاهِرة لا يُنكرها إلاَّ مَن أعمى الله بصيرته، فلا عِبرةَ بما يُردِّده الملاحدة الذين فسَقوا عن أمر ربِّهم مِن شُبهات حولَ هذا الحُكم الربَّاني وأمثاله[16].

 

الخاتمة:

إنَّ قضيةَ المرأة تحتاج إلى تحرير، وتدليل، وتعليل، ولن تجدَ تحريرًا مدعمًا بالتدليل والتعليل كما جاء في شريعةِ الإسلام، حيث حَفِظ لها كرامتها وسلامتها، وأنصفها وأعْلى مكانها، مراعيًا استعدادها الفِطري، وتكوينها الخلقي.

 

ولم يُنادِ بمساواتها؛ لأنَّ كل مساواة ليستْ بعدل؛ إذا قضَتْ بمساواة الناس في الحقوقِ على تفاوت واجباتهم، وكفايتهم، وإنَّما هي كلُّ الظلم للراجح والمرجوح.

 

وهذا بحثٌ قمتُ بجَمْعه، واستفرغتُ وُسْعِي في لَمِّ أطرافه، ولا أدَّعي الكمال، وحسبي أنْ قرأتُ واستفدت، وتتبعتُ أقوالَ العلماء والمفكِّرين من المسلمين، والمنصفين من الغَرْب الذين أشادوا بسماحة الإسلام في جميعِ شؤونه، لا سيَّما مكانة المرأة في الإسلام.

 

فإنْ أحسنتُ فللَّهِ الحمد والفضل، وإنْ قصرتُ فأستغفِر الله مِن  كلِّ ما زلَّ به القَدَم، أو طغَا به القلم، وأستغفره مِن أقوالي التي لا تُوافِق أعمالي.

 

وأسأله أن يَجعلني بما علمتُ عاملاً، ولوجِهه به مريدًا، وألاَّ يجعله وبالاً عليّ، وأن يضعَه في ميزان الصالحات، إذا رُدَّتْ أعمالي إليّ، إنَّه جواد كريم.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

أهم المراجع والمصادر

1- صحيح البخاري مع فتح الباري.

2- صحيح مسلم مع شرح النووي.

3- سنن أبي داود مع معالم السنن للخطابي.

4- مسند الإمام أحمد.

5- مستدرك الحاكم.

6- عمدة القاري للعيني.

7- الحلية لأبي نعيم الأصبهاني.

8- سير أعلام النبلاء للذهبي.

9- الأم للشافعي.

10- روضة الطالبين للنووي.

11- المغني لابن قُدامة.

12- تفسير الطبري.

13- تفسير القرطبي.

14- الكشاف للزمخشري.

15- ماذا عن المرأة تأليف د. نور الدِّين عتر.

16- تربية المرأة والحجاب، تأليف محمد طلعت حرب.

17- المرأة بين الفِقه والقانون، تأليف د. مصطفى السباعي.

18- الحجاب، تأليف أبي الأعلى المودودي.

19- عودة الحجاب، تأليف د. محمد المقدم

20- الأسرة في ضوء الكتاب والسنة، تأليف د. أحمد السيد فرج.

21- تأملات في المرأة والمجتمع، تأليف محمد المجذوب.

22- المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها، تأليف عبدالله عفيفي.

23- تربية الأولاد في الإسلام، تأليف د. عبدالله ناصح علوان.

24- المرأة بيْن القديم والحديث، تأليف عمر رضا كحالة.

25- حقوق المرأة في ضوْء السنة النبوية، تأليف د. نوال العيد.

26- مقام المرأة في الإسلام، تأليف محمود بايللي.

27- عمل المرأة في الميزان، تأليف د. محمد علي البار.

28- حراسة الفضيلة، تأليف د. بكر أبو زيد.

29- قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية، دراسة نقدية في ضوء الإسلام، تأليف د. فؤاد العبد الكريم.

30- حقائق الإسلام في مواجهةِ شُبهات المشككين، إشراف وتقديم أ.د محمود حمدي زقزوق.

 

[1] التحرير والتنوير، سورة الزخرف [16 - 17].

[2] - فتح القدير 1/457

[3] تفسير الطبري (310)، (4/123) (دار هجر).

[4] - انظر تفسير القرطبي 3/125

[5] - شرح النووي على مسلم 7/481 ط: دار الحديث.

[6] - مفتاح دار السعادة 2/258.

[7] رواه البخاري "كتاب الحيض"، باب: ترك الحائض الصوم، ومسلم "كتاب الإيمان"، باب: نقصان الإيمان بنقصان الطاعة.

[8] عمدة القاري (3/272).

[9] الصحاح (2/68) مادة (ش هـ د).

[10]- حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين (ص: 561).

[11] الطرق الحكمية (ص: 221).

[12] انظر: المغني لابن قدامة (10/158)، الأم للشافعي (7/44)، روضة الطالبين (11/ 252).

والرَّتَق: بفتح الراء والتاء، مصدر رتِقت المرأة (بكسر التاء): إذا الْتحَم فَرْجُها.

والقَرَن: بفتح القاف والراء قرنت المرأة قرنًا، إذا كان في فرجها قرن، وهو عظم، أو غدة مانعة من ولوج الذكر؛ معجم الفقهاء.

[13]حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين (ص: 557).

[14] النووي شرح مسلم (11/53).

2 حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين (ص: 558).

[16] وأوَّل مَن أحدث ضلال التسوية بين الذكور والإناث في الميراث تركيا، في ظلِّ حكم مصطفى كمال أتاتورك، حيث استَبْدلتِ القانونَ السويسريَّ بالأحكام الشرعيَّة، ثم انتقلتْ عدوى هذه الضلالة إلى تونس على يد "البغيض" بورقيبة، ثم إلى الصومال، حيث استحلَّ طاغوتَاهما تبديلَ شرع الله، وقد حصَل في إثْر ذلك في الصومال ما حصَل مِن قتل وإحراق العلماء المسلمين الذي فضَّلوا المنية على الدَّنيَّة، وآثَروا الفضيلةَ والنعش على الرذيلة والعيش - رحمهم الله تعالى، وأخْزَى أعداءَهم.

وقد صَرَّح المدعو زياد بري طاغوت الصومال في 21 أكتوبر 1970م بواسطةِ الإذاعة باعتناق حكومتِه المبدأَ الماركسي اللينيني، وجاء - بعد ذلك - على لسانه في الجريدة الرسمية قوله: "كنا نسمع عن أقوالٍ تقول الربع والثلث والخمس والسدس، فإنَّا نقول: إنَّ ذلك لا وجودَ له بعدَ اليوم، وإنَّ الولد والبنت متساويان في الميراث"؛ عودة الحجاب د. محمَّد المقدم (2/138)

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات