عناصر الخطبة
1/فضائل القرآن الكريم 2/سر تكرار قراءة سورتي الأعلى والغاشية في الصلوات الجهرية 3/تأملات في سورتي الأعلى والغاشية 4/الحث على تدبر القرآن الكريم والإكثار من تلاوته.اقتباس
والله ما في الدنيا شيءٌ يفعلُ بالقلوب ما يفعلهُ القرآن العظيم، فهو يوقظها من غفلتها، ويحييها من مواتِها، ويلمُّ شملها، ويجمع شتاتها، ويُذكِي فيها جذوة الإيمان والتقوى، ويحركُ فيها كوامِن الخير والهدى.
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ، الحمدُ كُلُّهُ للهِ، أبلغُ ما يكونُ الحمدُ وأجزلُهُ، والشكرُ كلُّهُ للهِ، أوفى ما يكونُ الشكرُ وأفضلُهُ، والثناءُ الحسنُ كُلُّهُ للهِ، أرقى ما يكونُ الثناءُ وأجملُهُ، أحمده سبحانهُ وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، جوادٌ لا يُخيِّبُ آمِلَهُ، كريمٌ لا يَردُّ سائِلَهُ، وهَّابٌ لا تُحصى نِعمَهُ وفضائلَهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لهُ، جلَّ عن مثيلٍ يماثلُهُ، أو نِدِّ يشاكلُهُ، أو نظيرٍ يقابلُهُ.
وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولهُ، ومصطفاهُ وخليلهُ.. بلغَ العُلا بكمالِه، كشفَ الدُجى بجمالِه، بهرَ الأُولى بمقالِه، أَسَرَ العِداءَ بفعالهِ، حسُنتْ جميعُ خِصالهِ؛ يا ربِّ صلِّ عليهِ وآلهِ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليهِ وعلى آله وصحبهِ والتابعينَ، ومن تبعهُم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ: فأُوصيكم أيُّها النَّاسُ ونفسي بتقوى اللهِ، فاتقوا اللهَ رحمكم اللهُ، اتَّقُوا اللهَ كما أمرَكم، يُنجِز لكم ما وعدَكم، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)[الطلاق:2-3]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق:4]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)[الطلاق:5].
معاشر المؤمنين الكرام: القرآن الكريم هو الصراط المستقيم والذكر الحكيم، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِين، وَنُورُه المبِين، عِصْمَةٌ لمن تَمسْكَ بهِ، ونجَاةٌ لمن اتَبِعَهُ، لَا يَعْوجُ فَيُقَوَّم، ولا يَزِيغُ فيُستَعتَب، لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، ولا تُقلِعُ سحائِبُه، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ اُجِرَ، وَمَنْ دَعَا اِلَيْهِ هُدِيَ اِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، كلما ازدادت البصائر فيه تأمُلاً وتفكُرا، زادها هِدايةً وتبصُرا.
القرآن العظيم نُورُ البصائرِ، وحياةُ القلوبِ، وشفاءُ الصدورِ، وأُنسُ النفوسِ، ورَوْحُ الأرواحِ، والمنادي بالمساء والصباح، يا أهل الفلاح حي على الفلاح، (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الأحقاف:31].
القرآنُ العزيزُ منهجُ الشريعةِ، وعَمودُ الملّةِ، وينبوعُ الحكمةِ، ودليلُ الرِّسالةِ، ودُستورُ الأمَّةِ، (أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[العنكبوت:51].
القرآنُ الحكيم قولٌ مُوجزٌ، ولفظٌ مُعجزٌ، ومعنىً مُركزٌ، نميرٌ عذبٌ، وموردٌ ثجَّاج، يُنبِتُ في القلوب مهابةَ اللهِ وخشيتهِ، ويُسكِنُها إجلالَهُ وعظمتَهُ، ويعمُرُها بخوفه ورجائهِ ومحبتهِ، ويزيدُها هُداً وتُقىً وثباتاً، (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)[الفرقان:32]، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)[محمد:17].
ووالله إن حياةَ العبدِ، وصلاحَ أمرهِ لن تكون إلا بهذا القرآن الكريم، الذي ما إن تمسكنا به فلن نضل أبداً.
نعم -يا عباد الله- والله ما في الدنيا شيءٌ يفعلُ بالقلوب ما يفعلهُ القرآن العظيم، فهو يوقظها من غفلتها، ويحييها من مواتِها، ويلمُّ شملها، ويجمع شتاتها، ويُذكِي فيها جذوة الإيمان والتقوى، ويحركُ فيها كوامِن الخير والهدى.
أرأيتم كيف تكون الأرضُ قاحلةً جرداء، يابسةً غبراء، حتى إذا نزلَ عليها المطرُ وروَّتها السماء، صارت رياضاً خضراء، وبساتين غناء، كذلك القلب يكون يباباً خراباً، قاسياً مظلماً، فإذا تواترت عليه مواعظُ القرآن الكريم، وسُقِيَ بنميره الثَّجَّاج، لانَ وخشَعَ، وارتَدَعَ وخضَعَ، ونما الإيمان فيه وربا، فأنبت من كل زوجٍ بهيج، (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الحشر:21].
أولست إذا ما انقطع الغذاء عن جسدك تغشّاك التعب، وأجهدك النصب، فإذا ما تناولت كفايتك من الطعام، فاءت إليه عافِيتُك، ورجعَ إليك نشاطُك، وقويت على المسير والحركة، كذلك القلب إذا قُطعَ عنهُ غذائه من القرآن، وَنِيَ وضَعُفَ، وذوى وذَبُلَ، وضَعُفَت مقاومته للشبهات، واستكان للملذات والشهوات.
لذلك يقول الإمام ابن القيم: "ليس شيءٌ أنفعُ للعبد في معاشه ومعاده، وأقربَ إلى نجاته من تدبُّر القرآن، وإطالةِ التأمُّلِ فيه، وجمعِ الفكرِ على معانيه، فإنهُ يُورثُ المحبةَ والخوفَ والرجاء، والإنابةَ والتوكلَ والرضا، وسائِرَ الأحوالِ التي بها حياةُ القلبِ وكمالهُ، وكذلك يزجُرهُ عن كل الأفعالِ المذمومةِ والتي بها فسادُ القلبِ وهلاكهُ، ولو علم النَّاسُ ما في قراءة القرآن بالتَّدبُر لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها، ولو أن قارئ القرآن إذا مرَّ بآية وهو محتاجٌ إليها في شفاء قلبه، وعلاجِ دائه، كرَّرها ولو مائة مرَّة، ولو ليلةِ كاملة، فإن قراءة آيةٍ بتفكُّرٍ وتفهُّمٍ، خيرٌ للقلب وأنفعُ من قراءة ختمةٍ كاملةٍ بغير تدبُّرٍ وتفهُّمٍ".
وعندما نربط هذا المعنى بما كان يفعله قدوتنا -صلى الله عليه وسلم- من تكرار قراءة سورتي الأعلى والغاشية في الصلوات الجهرية، والحث على الإكثار من قراءتهما، فإن هذا يدعونا إلى إطالة التأمل والتدبر في هاتين السورتين الكريمتين، حيث يلفتُ نظرَ المتأملِ فيهما كثرةُ المواعظِ والتوجيهاتِ المركزة، التي يَحتاجُها كُلُّ مسلمٍ ومسلمة؛ ليفهم دوره في هذه الحياة المؤقتة، ويستعد جيداً للدار الآخرة، دار الحياة الخالدة.
ففي أول سورة الأعلى يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بتسبيحه وتعظيمه، وتنزيهه عما يقول الظالمون، (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)؛ سبحه بالخضوع لجلاله وجبروته، والاستكانة لعزته وهيمنته، والتذلل لكبريائه وعظمته، ومدحِهِ والثناءِ عليهِ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله العظمى، فهو الربُّ الذي لا أعلى ولا أعظمَ ولا أكبرَ منه، وهو (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) جميع المخلوقات في أحسن هيئةٍ وأعدلها وأتقنِها، (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) جميع المخلوقات لتسبيحه وعبادته، ووفر لكل منها مصالحة واحتياجاته، وألهم كلَّ منها كيف يستفِيدُ منها في تيسِير أمور حياته، قال -تعالى-: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الجاثية:13]؛ هذا على وجه العموم، (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى) على وجه الخصوص، فأنبت به أنواع الزروع والكلأ والعشب الكثير، لترتع فيه الناس والبهائم والدواب والهوام.
ولأن كثرة المِساس تُذهب بالإحساس، فقد جعل الله تعالى تسخير المراعي للناس متجدداً، (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) هشيمًا يابساً رميمًا أسوداً، تذروه الرياح وتتقاذفه مجاري السيول، بعد أن كان رياناً ليناً أخضراً، متعةً للناظرين.
وبعد أن ذكَّرَ الله -تعالى- نبيه الكريم بنعمِهِ الدُّنيوية، والخطابُ أيضاً لأمته من بعده، أعقَبَ ذلك بتذكيره بنعمِهِ الدِّينِيةِ، وأعظمُها وأجلُّها نعمةُ نزولِ وتعليمِ القرآنِ الكريم، وبشَّرهُ ببشرى عظيمة، (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) لا تنسى شيئاً مما أوحيناه إليك من آيات الكتاب العزيز، كما قال الله في الآية الأخرى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)[القيامة:16-17]؛ ليبقى إلى آخر الزمان، محفوظاً من التغيير والنسيان، سالماً من الزيادة والنقصان، (إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ) أن تنساه لحكمةٍ ومصلحةٍ بالغة، قال تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[البقرة:106].
ألم تعلم أن الله (يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) من أقوال العباد وأفعالهم، ونياتهم وخطراتهم، ويعلم كذلك ما تصلُح به أحوالُهم، وما تستقيم به أمور دينهم ودنياهم، ولذلك بشّر الله تعالى نبيه الكريم ببشارة عظيمة فقال له: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) في جميع أمورك وأعمالك، خصوصاً الدينيةِ منها، فنكلفك بشريعة مُيسرةٍ سمحة، ونسهِّلُ عليك القيام بها والدعوة إليها.
(فَذَكِّرْ) الناس دائماً بهذه السورة وأمثالِها من المواعظ والذكرى، سواءً، (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى)، ووجدت قبولاً لها، أو لم تُقبل. فـ(سَيَذَّكَّرُ) ويتعظُ بها (مَنْ يَخْشَى) الله -تعالى- ويتقيه، ويعلمَ بأنهُ سيلقى الله وسيجازيه على أعماله الصالحة برضوانه وجنانه.
(وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى) الذي كذَّب وعاند وتولى، فلم يقبل الذكرى ولم ينتفع بها، و (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى) فيقيَّدُ في قاعها السفلى، ويعاني عذابها الأليم، وأهوالها العظمى، (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا)؛ فلا هو بالذي يموتُ فيستريح، ولا هو بالذي يحيا حياةً يُطيقها ويتحمَّلُها، شبيهٌ بقوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)[فاطر:36].
وفي ختام هذه السورة العظيمة يقول الله -تعالى- لعباده: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) فطهَّر نفسه من أدران الشرك والمحرمات، ونقَّى قلبه من الرذائل والموبقات، وأرضى خالقه بأداء الفرائض والواجبات، فآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) الصلوات المفروضات، بخشوعٍ وخضوعٍ وإخبات، فمن فعل ذلك فقد أفلح وفاز ونجا.
ثم يعود الكلام من حيث بدا، فيبكِّتُ اللهُ الأشقياءَ مرةً أُخرى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، وتفضلونها رغمَ أنها حياةٌ مكدودةٌ محدودةٌ، سرعان ما تنقضي وتفنى.
(وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) ونعيمُها أعظمُ وأفخم وأحلى، والعاقل لا يبيع لذة ساعةٍ، بشقاء الأبد، كما قال مالك بن دينار: "لو كانت الدنيا من ذهبٍ يفنى، والآخرةُ من خزفٍ يبقى، لكان الواجبُ على العاقل أن يؤثِرَ الخزفَ الذي يبقى، على الذهبِ الذي يفنى، فكيف والآخرةُ من ذهبٍ يبقى، والدنيا من خزفٍ يفنى؟!".
(إِنَّ هَذَا) الذي ذُكِرَ لكم في هذه السورة المباركة، من الأوامر والتوجيهات، والمواعظ والإرشادات قد جاء مثله في (الصُّحُفِ الأولَى) التي نزلت قبل القرآن الكريم، كـ(صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)، وخُصَّ هذين الرسولين الكريمين بالذكر لأنهما أفضل الأنبياء والمرسلين، بعد المصطفى الأمين، سيد الأولين والآخرين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وإلا فهي توجيهاتٌ ومواعظ مُكررةٍ في كلِّ ملةٍ وشريعة؛ لكونها هي المصالح المشتركة الكبرى في كل زمانٍ ومكانٍ، فاحرصوا عليها أيها المؤمنون، وانتفعوا بها لعلكم تفلحون.
وبارك الله …
الخطبة الثانية:
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله، وعظيم سلطانه، …..
أَمَّا بَعْدُ: فَيخبرنا الله -تعالى- في مطلع سورة الغاشية بأحوال وأهوال يوم القيامة، (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ)؛ الغاشية: التي تغشى الخلائق بشدائدها، وتعمهم بأهوالها، فينقسموا إلى فريقين: فريقًا في الجنة، وفريقًا في السعير …
فأمَّا أهل النار: فـ(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ) خَاشِعَةٌ من الذلُّ والصغار، والخزي والعار، كقوله تعالى: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)[القلم:43]؛ ذلة الفضيحةِ على رؤوس الأشهاد، ولأن الجزاء من جنس العمل، ولأنهم طالما عملوا للباطل حثيثاً، واجتهدوا له كثيرا، فسيكلفون في الآخرةِ بمكابدة الأغلالِ، وحملِ الأثقالِ، وصعودِ الجبالِ وغيرها من أشقِّ وأرهقِ الأعمال، فهم ليسوا (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) فقط، بل و(تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً)؛ فتعاني من حرَّها الشديد، وعذابها الأليم.
وإذا اشتدَّ عطشهم (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) ماءٌ أسودٌ غليظٌ منتنُ الرائحة، يغلي من شدّةِ حرارته، (كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ)[الكهف:29]، وفي الآية الأخرى: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)[محمد:15]، وإذا اشتدَّ بهم الجوع فـ(لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) شَجرٌ شائِكٌ، يابسٌ، مُرٌّ، نتنٌ، بشعٌ، (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ).
وأما أهل الجنَّة: فوجوهُهُم يوم القيامة (نَاعِمَةٌ) قد جرت عليهم نضرةُ النعيم، فحسُنت أبدانُهم، واستنارت وجوهُهُم، وسرُّوا غايةَ السرور، (لِسَعْيِهَا) الذي قدمتهُ في الدنيا من الأعمال الصالحة، والإحسانِ إلى عباد الله، (رَاضِيَةٌ) فقد وجدت ثوابهُ مدخرًا مضاعفًا، فحمِدت عُقباه، وحصلَ لها كلُّ ما تتمناه.
وذلك أنّها (فِي جَنَّةٍ) جامعةٍ لكلِّ أنواع النعيم، (عَالِيَةٍ) في محَلِها ومنازِلها، فهي في أعلى عليِّين، غُرفٌ من فوقها غُرفٌ مبنيةٌ، بعيدةٌ عن كلّ كدرٍ أو ازعاج: فـ(لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً)، ولا كلاماً ساقطاً، وإنما هو كلامٌ حسنٌ مؤنقٌ جميل، يسرُ القلوب، ويؤنسُ النفوسَ، والآيةُ شبيهةٌ بقوله -تعالى-: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا)[الواقعة:25-26].
ثم إن هذه الجنّةَ العالية: (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ) تتدفق من غير أخدود، يصرِّفونها كيفما شاءوا، وحيثما أرادوا، و(فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) عاليةٌ، يرى الجالسُ عليها جميعَ ما أُعطي من الملك العظيم، والنعيم المقيم، وفيها آنيةٌ (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ) مملوءةٌ بأنواع الأشربةِ اللذيذة، يطوفُ بها عليهم الولدان المخلدون، وفيها وسائدُ (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ) رُصَّت بطريقةٍ بديعة، تزيد من متعة الجلوس والاتكاء عليها، وفيها تحَفٌ وبسُطٌ و (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) وزعت توزيعاً في غاية الروعة والجمال.
فإلى كلِّ من لا يصدق كلامَ اللهِ ورسولهِ وما أعدّهُ الله -تعالى- لأهلِ الجنةِ والنارِ: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) هذا الخلق البديع المعجز، وكيف سخَّرها الله لخدمتهم، وذلَّلها لمنافعهم، (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) سقفاً بلا عمدٍ، بقدرة الله التي لا يُعجزها شيءٌ، (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) ثابتة راسية بهذا الشكل المذهل، ليحصل بها استقرار الأرض وثباتها، ولينتفع الناس بما أُودِع فيها من المنافع الكثيرة، (وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) وبُسطت ومُهدت، ومُدَّت مدًّا واسعًا، وذُللت وسُهِلت غاية التسهيل، ليمشوا في مناكبها، وليتمكنوا من حرثها وزرعها، والبناء عليها، والاستفادة من كنوزها وخيراتها.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "والمعنى هل يقدِرُ أحدٌ غيرُ الله -تبارك وتعالى- أن يخلقَ مثل الإبل، أو أن يرفعَ مثل السماء، أو أن ينصِبَ مثل الجبال، أو أن يسْطَحَ مثل الأرض، (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) تذكِرُ النّاسَ بما أنزله الله إليهم، وبما أنْعمَهُ عليهم، وتعرِّفَهُم بحقه -تعالى- عليهم، وتَعِظُهُم وتُبينَ لهم، فما عليك إلا البلاغ المبين.
(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) فتُكرِهُهُم على الإيمان عُنْوَةً، ولا أنت بجبارٍ فتحمِلَهم على ما تريد بالقوة، (إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) مُعرضاً عمَّا ذُكِّرَ به من الآيات والمواعظ، (فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ) بالخلود الأبدي في نار جهنم، ولا مهرب لهم من ذلك، فـ(إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ) وحشرُهم جميعاً في عرصات يوم القيامة، (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) ومجازاتِهم بما عملوا، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة:7-8].
فاقرؤوا -يا عباد الله- القرآن الكريم متدبرين، وتأملوا معانيه الجليلة متعظين، وقفوا عند عجائبه متفكرين، حركوا به القلوب، واعْمِلوا به العقول، (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[ص:29].
ويا ابن آدم "عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به"، البر لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد …
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم