تفسير سورة الكهف (4) العواصم من الفتن

عمر بن عبد العزيز الدهيشي

2022-10-14 - 1444/03/18 2022-12-10 - 1444/05/16
عناصر الخطبة
1/عظمة القرآن وهدايته 2/سبل النجاة وكهف السلامة 3/أهمية فهم حقيقة الدنيا 4/حسرات يوم القيامة 5/وجوب معرفة العدو من الصديق.

اقتباس

هذه سُبُل ومخارج حافظة من كلاليب الفتن، ومثبّتة للأقدام عن غوائل المحن، إن لزمها الإنسان عُصِم وسَلِم، وحُفِظ ووُقِيَ، فهي من حكيم عليم، ولا أظلم ولا أوبق للنفس من الإعراض عنها والابتعاد منها (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

عباد الله: عظمة القرآن وهدايته، وكبرياؤه وجلاله، تتجلى في تصويره للداء وذكر البلاء، مع تشخيص الدواء وسبيل السلامة والنجاء، أياً كانت وجهة المسترشد، وحيث كان حال المستهدي (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)[فصلت:44].

 

عباد الله: في وسط عقد آي سورة الكهف، وبعد ذِكْر فتنة الدين والتضييق على المصلحين، وفتنة المال ومظنَّة تكبُّر صاحبه وطغيانه، وقبل ذِكْر فتنة العلم وما يحمله من تعالٍ وعظمة، وفتنة المُلك وما يجرّه من تسلُّط وظلم، وكلها فِتَن مظنّة عطب ومزلة قدم، هوت بقامات وأهلكت أفراداً وجماعات، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)[العنككبوت:2]؛ ذكر الله -سبحانه- سبيل النجاة، وكهف السلامة، منها ومن سائر العوارض وغرور المغريات، إن لزمها المؤمن نجا، وإن حققها أفلح، وحفظ في دينه ودنياه وآخرته.

 

عباد الله: أولى سبل النجاة وكهف السلامة: تذكُّر حقيقة الدنيا، واليقين بطبيعتها ونهايتها، مع معرفة قدرها وهوانها، وقد صوّرها الله -تعالى- في أبلغ صورة، مما يعايشه الناس ويبصرونه، ويلامسونه ويحسونه (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا)[الكهف:45].

 

فالماء ينزل من السماء فلا يجري ولا يسيل، ولكن يختلط به نبات الأرض، والنبات لا ينمو ولا ينضج، لكنه يصبح هشيماً تذروه الرياح، وما بين ثلاث جمل قصار، ينتهي شريط الحياة، فما أقصرها وأهونها، فالدنيا لا تستحق شحناء ولا بغضاء، ولا تحتمل ظلماً ولا بغياً، بل هي أهلٌ أن يحتمل أذاها، ويصبر على لأوائها، بل ويحذر من نعيمها، وحسن طلتها، فيعفى فيها عن المسيء، ويتجاوز عن المخطئ، وأن تكون بأيدينا لا في قلوبنا، فنستمتع بها متعتنا بالربيع الناضرة، والرياض الزاهرة، دون مكث فيها، أو لبث دائم..

 

فهي ظل زائل وطيف عابر، يكفي فيها اسمها، ويغني عنها رسمها وحالها (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)[القصص:60-61].

 

عباد الله: ومن سبل السلامة وكهف النجاة: تذكُّر الأهوال الفظيعة، والأحوال الرهيبة، التي يشيب لها الولدان، وتضطرب معها القلوب والأبدان، (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الحج:2].

 

وقد ذكر الله -تعالى- في هذه السورة طرفاً من تلك الأهوال، وبعضاً من الأحوال الكائنة لا محالة، والحاصلة لا ريب فيها، (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) فتزال عن أماكنها، وتتحول تلك الصخور الشماء إلى كتل من الرمال تذروها الرياح، (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً) بادية ظاهرة ليس فيها معلم لأحد ولا مكان يواري أحداً، فلا جبل ولا وادٍ، و لا حجر ولا شجر؛ (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا)[الكهف:47]؛ ليحشر الناس ويجمعهم بعدما تفرقوا في بطون الفلوات وقعور البحار، في صعيد واحد؛ لينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، فيعرضون صفاً واحداً الغني والفقير، الرئيس والمرؤوس، الوالد والولد، الظالم والمظلوم.

 

 (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)[الكهف:48] فيتطاير الجاه، ويذهب المال، وتمحى الرتب، وتزول الدرجات، عدا كتاب الأعمال وصحائف الحسنات والسيئات، فإنها تثبت وتوضع، ويؤتى بها على رؤوس الأشهاد (وَوُضِعَ الْكِتَابُ) الذي فيه الجليل والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير، تضعه الملائكة لمحاسبة الخلق، فعندئذ تتمايز الصفوف، وتتزايل الرتب بين علو وسرور (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)[الحاقة:19]، وخوف وثبور (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ)[الحاقة:25].

 

(فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ)[الكهف:49]؛ خائفون وجلون من كشف أعمالهم السيئة، وفعالهم القبيحة، وبضاعتهم المزجاة، فينادون بالويل والثبور وقالوا (يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)[الكهف:49]؛ فضجوا من الصغائر قبل الكبائر؛ هلعاً ورهبة وخوفاً، قال قتادة: "اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء، ولم يشتك أحد ظلماً، فإياكم والمحقراتِ من الذنوب، فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه". (ابن جرير: 284).

 

فمتى كانت تلك الأحوال القادمة حاضرة في النفوس، مستحضرة في الأذهان، استقرت النفوس، وثبتت القلوب، واستقامة الأحوال، فلا تزل قدم عند فتنة، ولا تيأس عند مصيبة، ولا تفرح فرح بطر عند نعمة، وصدق الله العظيم (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[البقرة:223].

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: ومن سبل السلامة وكهف النجاة: معرفة العدو من الصديق، والناصح من الكاذب؛ كي يستبين الطريق، وتطيش السبل، فلا تغتر بالشعارات، ولا تلتفت للأماني والمغريات، فلا تنسيك النعمة شكر موليها، ولا تستهويك الفتنة فتخوض فيها وتتلطخ بها، قال -تعالى-: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)[الكهف:50].

 

فكيف يا ابن آدم توالي من استكبر على أبيك وحسده وأغراه، حتى أخرجه من الجنة ونعيم عيشه فيها، إلى الأرض وضيق العيش بها؟!، فتطيعه وذريته من دون الله مع عداوته لكم قديماً وحديثاً، فهو مبعث الضرر، وموئل الشرور (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[فاطر:6].

 

ومن سبل السلامة وكهف النجاة: عدم الاغترار بإمهال الله لك، وموالاة نعمته عليك، فإن الله -تعالى- يمهل ولا يهمل، وكل شيء عنده بأجل مسمى (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا)[الكهف:58].

 

وبعد عباد الله: هذه سُبُل ومخارج حافظة من كلاليب الفتن، ومثبّتة للأقدام عن غوائل المحن، إن لزمها الإنسان عُصِم وسَلِم، وحُفِظ ووُقِيَ، فهي من حكيم عليم، ولا أظلم ولا أوبق للنفس من الإعراض عنها والابتعاد منها (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)[الكهف:57].

 

فاللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

 

هذا وصلوا وسلموا....

 

المرفقات

تفسير سورة الكهف (4) العواصم من الفتن.pdf

تفسير سورة الكهف (4) العواصم من الفتن.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات