اقتباس
فإن الله تعالى ما خلق الكائنات، ولا أوجد الموجودات، إلا لحكم عظيمة، وغاياتٍ كثيرة، وقد أمرنا ربنا تبارك وتعالى بالتأمل في مخلوقاته، والتفكر في آياته، ليقوى إيماننا، ويزيد علمنا. ومن هذا الباب فقد تأملت كثيرًا في مخلوقٍ واحدٍ من مخلوقاته وهي الشجرة، وجلست مليًّا أنظر محاسنها ومنافعها، وهل يمكن لنا أنْ نتعلَّم منها شيئًا يفيدنا في حياتنا وأخلاقنا وتعاملنا!! فوجدت من ذلك الشيء الكثير. فمن ذلك ..
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.
وبعد: فإن الله تعالى ما خلق الكائنات، ولا أوجد الموجودات، إلا لحكم عظيمة، وغاياتٍ كثيرة، وقد أمرنا ربنا -تبارك وتعالى- بالتأمل في مخلوقاته، والتفكر في آياته، ليقوى إيماننا، ويزيد علمنا.
ومن هذا الباب فقد تأملت كثيرًا في مخلوقٍ واحدٍ من مخلوقاته وهي الشجرة، وجلست مليًّا أنظر محاسنها ومنافعها، وهل يمكن لنا أنْ نتعلَّم منها شيئًا يفيدنا في حياتنا وأخلاقنا وتعاملنا!! فوجدت من ذلك الشيء الكثير.
فمن ذلك:
أولاً: العطاء والبذل للجميع، القريب والبعيد، البغيض والحبيب، فهي تعرف العطاء والبذل، وتعطي الجميع بلا اسْتثناء، فكم أظلَّت بأغصانها وأوراقها، وكم أشْبعت جائعًا بثمارها، وكم أدخلت السرور على المحزون والمهموم بجمالها، وكم حملت الطيور بأغصانها، وهيَّأت لها أوكارها، وهكذا فلْنكن نحن، نعطي ونبذُلُ المال والجاه والنصح، نعطي الابتسامة والأخلاق.
فهي حقًّا تُعلمنا كيف ندخل السرور والبهجةَ على الآخرين، فلا يكاد مهمومٌ ولا محزونٌ ينظر إلى الأشجار الجميلة، إلا أدخلت في قلبه الفرح والسرور، وهكذا نحن ينبغي لنا أن نكون، فلا تُفارقنا البسمةُ والبشاشة، والدعابةُ والبساطة، وإذا رأينا مهمومًا واسيناه، وإذا رأينا مريضًا طَمْأنَّاه.
ثانيًا: التناسبُ بين العطاء والبذل والشُّهْرة، وبين السنّ والقوَّة والرسوخ، فنماء أغصانِ الشجرةِ موازٍ لنماء أصلها وجُذُورها، فلا تنمو الأغصانُ أسرع من الجذع والجذور، وإلا لسقطت مع مرور الزمن، وهكذا ينبغي لنا أنْ نكون، فطالب العلم ينبغي أنْ يكون بروزُه وظهورُه وإفتاؤُه، وتفرغُّه للتعليم والدعوة، موازٍ ومتناسبٌ مع سنِّه وتمكُّنه من العلم، لئلا يسقط في هفواتٍ وزلاَّتٍ يصعب التعافي بعدها.
وهكذا كلُّ واحدٍ منَّا، لا ينبغي أنْ نقوم بأعمالٍ نعجز عن تحملها.
ثالثًا: أنه يمكن بجمال الأخلاق والقيم، أنْ نتغلّب على النسب والحسب والماضي المظلم، فمنظر الشجرة عريَّةً عن الأوراق والثمار: قبيحٌ مُوحش، لكنها سترت شكلها وهيكلها بجمال وخضارِ أوراقها.
وهكذا ينبغي أنْ نتغلَّب على الماضي المليء بالأخطاء والمآسي والسلبيَّات، ونتغلَّب على نشأتنا على طِباعٍ وأخلاقٍ رديئةٍ، بمُجاهدةِ أنفسنا على عكس ذلك كلِّه، وتخلُّقِها بأخلاقٍ جميلة، تمحو وتستر الماضي كلَّه.
رابعًا: أنْ ترسيخ القيم والمبادئ والدين، يُعيننا على الثبات والصمود عند الْمُلِمَّات والصعوبات، فالشجرةُ لا تسقط ولا تنثني إلا بسقوط أصلها، ومهما قُطع من أغصانها، وحُتّ من ورقها، فهي ثابتةٌ شامخة، فكذلك المؤمن صاحب المبادئ الراسخة، مهما نيل منه، وأوذي واتُّهم فإنه لا يسقط ولا يلين، إلا بسقوط أصله وجذوره، وهذا لا يكون إلا بفراق روحه.
خامسًا: الصبر والتحمل والثبات، فالشجرةُ ثابتةٌ شامخةٌ مهما داهمها من صعوبات، قويَّةٌ راسخةٌ في الصيف والشتاء، في العواصف والأمطار، فهكذا ينبغي لنا أنْ نكون، صابرين ثابتين، مهما واجهتنا الصعوبات والهموم والمشاكل.
سادسًا: أننا لا نُؤذي وإنْ أُوذينا، وأنْ نُعطي الخير وإنْ أُعطينا الشر، فالشجرةُ لو قُذفتْ بالحصى لم تُقذف إلا بثمرةٍ أو ورقةٍ أو زهرة، بل ربما رجعت الحصاةُ على قاذفها، وهي لم تتسبب بذلك، فهكذا ينبغي أنْ نكون، فنصل من قطعنا، ونعفو عمَّن أساء إلينا، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) [الفرقان: 63].
سابعًا: أنْ مَن أسَّس أفكاره ومُعتقداتِه وتربيتَه لأبنائِه بشكلٍ خاطئ، فإنَّه سيؤول به الأمر مع الأيام إلى السقوط والخراب.
فالشجرةُ إذا نبتت من أصلها مُعْوجَّة ومائلة، فمآلها للسقوط ولا بدّ غالبًا.
ونحن ينبغي أنْ نؤسس مُعتقداتنا وأفكارنا، وأساليبنا في تربية أبنائنا على أساسٍ صحيح، وإلا فمآلنا للسقوط والانهيار.
ومع ذلك تُعلمنا الشجرةُ أنه بإمكاننا النهوضُ بعد السقوط، والنجاحُ والفوز، بعد الرسوب والهزيمة، فالشجرةُ لو سقط رأسها، ومال جذعها، فهي قادرةٌ على القيام والوقوف مرةً أخرى ما دامت حيَّةً.
وكذلك المؤمن والعاقل، مهما هفا من هفوات، وزلّ من زلاَّت، ومهما خسر في تجارته، أو رسب في دراسته، أو تأخر في تعلُّمه وتحصيله، فهو قادرٌ بعزمه وهمَّته -بعد توكله على الله- على القيام والإقدام والنهوض، بل ربما فاق أقرانه الذين سبقوه وتجاوزوه في الماضي، فما دامت الروح بالجسد فلا يأس ولا قنوط ولا إحباط.
ثامنًا: أنْ نأخذ من الناس ما عندهم من الخير والنفع، وندع ونتجاوز ما عندهم من المساوئ والشر، فتأملوا في جذور وعروقِ الأشجار، كيف تنغمس في التراب وما يحويه من سَمادٍ وَمَيتاتٍ وأقذار، فتمتص ما يُفيدُها ويُنمِّيها، وتدعُ ما لا تستفيد منه، بل إنها تُحوِّلها إلى مواد تنفعها وتنميها.
وهكذا نحن في تعاملنا مع الناس وطبائعهم ونواياهم، لا نترك مَنْ به عيبٌ وسوءُ خلق، بل نأخذ منهم أحسن ما عندهم، وندع أشرَّ ما عندهم، فنكسب مودَّتهم، ونتجنبُّ عداءَهم وشرَّهم، إنها بالْمُداراة والرفقِ، والاحترامِ وحُسْن التعامل، فنجد القساة الغلاظ، الذين ينفر الكثير من الناس منهم، يتحولون في تعاملنا معهم هذا التعامل إلى أصدقاء وديعين طيبين.
فلا تكادُ تجد شخصًا كله عيوب وسلبيَّات، بل لا بدَّ أن تكون فيه صفاتٌ حسنة، فالعاقل واللبيب من يتعامل معه في هذه الصفات، ويتجنَّب ما يُثير صفاتِه السيئة والقبيحة الكامنةِ فيه.
وأخيرًا تعامل مع الناس كما تتعامل مع الشجرة ذات الثمار والأشواك، كشجر السِّدْرِ مثلاً، ففيها الضار وفيها النافع، فعند الْتقاطك للثمرة تتجنبُ الشوك ولا تقربه ولا تُحرِّكه، فإنْ حرَّكته آذاك، فكذلك في تعاملك مع هؤلاء، خُذْ واجْن منهم أحسن ما عندهم، وأجمل ما فيهم، وتجنَّب واحذر أشر ما فيهم، ولا تُحرك ما يُثيرهم فتكون أنت السبب في جلب الضرر عليك، فحينها تعيش مع كلِّ الناس، وشتى الطباع، بسلامةٍ وراحةٍ وسعادة.
وصلى الله وسلم على رسول الله وآله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم