تشبيه الدنيا بالماء النازل من السماء

الخُطْبَةُ الأُولَى:

عباد الله: حين توضع الأمورُ في نصابها، ويُقدر للأحوال قدرَها، ويعرف خيرُ الأمور من شرها، ويمايز بين زائلها وخالدها؛ تستقيمُ الحياةُ ويطيبُ العيشُ، وتصفو الدنيا على كدرها وهوانها، فما عُولجت الحياةُ الدنيا بمثل معرفةِ طبيعتها، وإدراكِ حقيقتها، والإيمانِ بمبتدئها ومنتهاها؛ ولذا أعاد القرآنُ وكرر، وأثبت وأكد، على هوانها ودونها، وسرعةِ انقضائها وزوالها، مع الوعظ عن فتنتها والتعلق بها (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لقمان:33].

عباد الله: إن أصدقَ وصف للدنيا، وأكملَ صورة عنها، ما ذكره الله -تعالى- في القرآن، وقرره في ما موضوع منه، في تشبيه الحياة الدنيا بالماء النازل من السماء فقال -سبحانه-: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا)[الكهف:45].

 إذ الماءُ النازلُ من السماء لا يمكن أن يستقر في مكان، ويبقى دون غور أو تبخر، وكذا الدنيا لا تبقى على حال، فهي بين فرح وترح، وفقر وغنى، وصعود وسقوط..    

فيوم علينا ويوم لنا *** ويوم نُسَاء ويوم نُسَر

فما من سرور إلا ومعه مَساءة، وما من مَساءة إلا ومعها سرور، لكنَّ صفوَها أقلُّ بكثير من أكدارها، ولذائذَها متولدةٌ من آلامها، فلذة الطعام لا تتحقق إلا بألم الجوع، ولذةُ الشراب لا بد أن يسبقها حُرقةُ العطش، ولذةُ النوم لا يجد الإنسان لها شوقاً إلا بعد أن يُضنيه التعبُ الشديد.  

لا طِيب للعيش ما دامت منغّصة   ***  لذاته بادكار الموت والهرم

 وكما أن الماء النازل لا يمكن أن يتعرضه إنسانٌ فيسلمَ من بلل أو يتحرزَ عنه فلا يصيبه وابل ولا طل، فكذا الدنيا لا يسلمُ أحدٌ من آفتها أو يُحفظُ من فتنتها وبلائها، (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الكهف:7].

كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز كتابًا طويلاً فيه: "أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، تُذِل من أعزها، وتُفْقِر مَن جمعها، كالسُّمّ يأكله من لا يعرفه وهو حَتْفه، فاحذر هذه الدارَ الغرّارة الخيالةَ الخدّاعة، وكن أسرَّ ما تكون فيها، احذر ما تكون لها، سرورُها مشوب بالحزن، وصفوُها مشوب بالكدر، فلو كان الخالقُ لم يخبر عنها خيرًا، ولم يضرب لها مثلاً لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من اللَّه -عز وجل- عنها زاجر، وفيها واعظ، فما لها عند اللَّه -سبحانه- قدر ولا وزن".

عباد الله: وكما أن الماء إذا كان بِقَدَر كان نافعاً، وإذا جاوز المقدار كان ضاراً مهلكاً، فكذلك الدنيا صلاحُها واستقرارُها بالكفاف والرضا، والقناعة والسلامة، أما السعيُ في طلب فضولها واللهثُ مع سرابها، فكطالب الإرواء من ماء البحر، لا يزيده شربه منه إلا عطشاً وتعباً. وفي الحديث قال -عليه الصلاة والسلام-: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه"(رواه مسلم).

ومن وجوه تشبيه الأحوال الدنيوية بالماء المنزّل من السماء، أن المطر لا ينزل بالحيلة أو التمني، فكذا الدنيا لا تساعدها إلا القسمةُ، وما كتبه الله لك أو عليك، فلا تيأسْ على ما فاتك، ولا تفرح بما جاءك، فكل شيء عنده بمقدار، قال -تعالى-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[الحديد:22-23].

وكما أن الماء –عباد الله- في موضعه واستقراره سببٌ لحياة الناس، وانتفاعِهم به، وفى غير موضعه مدعاةٌ لخراب الحال وفساد المآل، كذلك الدنيا من جاه وولد ومال لمستحقها ومحسن التعامل معها تكون خيراً ونماء، وفضلاً وعطاء على صاحبها، والمنتفعين بها، وعند من لا يستحقها تكون سبباً لطغيانه، وطريقاً لفساده وخذلانه (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى)[القيامة:6-7].

ومن وجوه تشبيه الأحوال الدنيوية بالماء النازل من السماء، أن الغيث قد يكون رحمةً وبركة، فيعم نفعه وتنبت الأرض، وقد يكون المطر عذاباً ونكالاً (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)[الشعراء:173]، وكذا الدنيا من صحةٍ وعافية، وغنى ورخاء، إن أقبلت على فرد أو مجتمع، فليُتحرزْ منها، ولتسخر في طاعة الله وحسنِ العمل، لتستقر وتنمو، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)، وإن كانت سبباً للطغيان ووسيلةً للجحود والكفران، فمؤذن شر، ودلالة بلاء، (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم:7].

 فحين جاءت أموالُ البحرين وجزيتُهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ذهب ومال قال -عليه الصلاة والسلام-: "أبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنْ أخْشَى علَيْكُم أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُلْهيكُمْ كما ألْهَتْهُمْ"(رواه البخاري)، وفي رواية: "فتهلككم كما أهلكتهم"(رواه البخاري ومسلم).

فاللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا...، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

عباد الله: إن كانت الدنيا بنعيمها وخيرِها، وكسادِها وشرِها، باقيةً في اليد ولم تنفذ إلى القلب أو تصلْ إلى الروح، فذاك قدرُها ومستحقها؛ إذ كل ما فيها وعليها متاعٌ زائل، وظل عابر، فجمالُها وكمالها بالبذل والعطاء والنفع والسخاء، بخلق كريم، ومنطق حسن، ومال مبذول، وجاه ممدود، وولد بار، وعمل صالح، كل ذلك طاعةً لله وقربه، وذلاً له وعبادة، كالماء الجاري يكون طاهراً طهوراً، صالحاً للشرب، مطهراً للبدن، منشطاً للروح، مزيلاً للأذى والنجاسة، فيُنتفعُ به، ويستعانُ عليه.

لكن إن طال مكثُ الماء واستقر مكانه أَسِن وفَسُد وأنتن، وحلت فيه النجاسةُ والقذر، وكذا الدنيا إن ركن إليها صاحبها فكانت معياراً للتفاضل، وميزاناً للخلة والعداوة، وحداً للأخلاق والتعامل، فسدت الحياة، وأسنت الروح، وأنتن المجتمع.. والوصية: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى)[النجم:29-30].

هذا وصلوا وسلموا....