عناصر الخطبة
1/تزكية النفس ضرورة إيمانية 2/الصبر والمجاهدة وسيلة لتزكية النفوس 3/الإخلاص يُيسِّر كل عسير 4/مَنْ ترَك شيئًا لله عوضه الله خيرا منه 5/أمثلة لما يُترَك ابتغاء وجه الله 6/دلائل وأمثلة لعاقبة من ترك شيئا للهاقتباس
ومتى ما أراد المرءُ أن يؤسِّس قلبَه على التقوى، فلا بدَّ له من الصبر والمجاهَدة؛ فإنَّ للشهوات واللَّذات سلطانًا على النفوس، واستيلاءً وتمكُّنًا في القلوب، يجعل تركَها عزيزًا، والكفَّ عنها شاقًّا، والخلاصَ منها عسيرًا، ولكِنْ مع هذا كلِّه فإنَّ مَنِ اتَّقَى اللهَ وقاه وهداه...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أما بعدُ: فإن الله -تعالى- خلَق الخَلْقَ وأتقَنَه وأحسَنَه، وهو أعلمُ به وبما ينفعُه ويُصلِحُه؛ ولذلك ندَبَنا -عَزَّ وَجَلَّ- إلى تزكية أنفسنا فقال سبحانه: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشَّمْسِ: 7-10]، فلا فلَاحَ للعبد إلا بتزكيةِ نفسِه، والحرصِ على إصلاحها، وتهذيبِ طباعها، وتقويمِ اعوجاجِها، وترويضها على الطاعة، وتطهيرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل القبيحة.
ومتى ما أراد المرء أن يؤسِّس قلبَه على التقوى، فلا بد له من الصبر والمجاهَدة؛ فإنَّ للشهوات واللَّذات سلطانًا على النفوس، واستيلاءً وتمكُّنًا في القلوب، يجعل تركَها عزيزًا، والكفَّ عنها شاقًّا، والخلاصَ منها عسيرًا، ولكِنْ مع هذا كلِّه فإنَّ مَنِ اتَّقَى اللهَ وقاه وهداه، ومَنْ لجأ إليه واستعان به أعانه وآواه، ومَنْ توكَّل على ربه في إصلاح نفسه كفاه (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطَّلَاقِ: 3].
عبادَ اللهِ: وإنما يجد المشقةَ والكلفةَ في تَرْك المألوفات والعوائد السيئة، مَنْ ترَكها لغير الله، أمَّا مَنْ تركَها صادقًا مخلصًا من قلبه لله، ابتغاءَ مرضاة الله، فإنه لا يجد في تركها مشقةً إلَّا أولَ مرة وفي بداية الأمر؛ ليُمتحن أصادقٌ هو في تركها أم كاذبٌ، فإن صبَر على تلك المشقة قليلًا، تحوَّلت لذةً، وذاق صاحبُها حلاوة الطاعة، وكلَّما ازدادت الرغبةُ في المحرم، وتاقت النفس إلى فعله، وكثرت الدواعي فيه عَظُمَ الأجرُ في تركه وتضاعفت المثوبة في مجاهَدة النفس على الخلاص منه، وما أعظمَ جزاءَ مَنْ تاب وأناب، وترك المعاصي لله، وتنزَّه عن فعل القبائح، قال تعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الْفُرْقَانِ: 70]، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها؛ فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة"(متفق عليه).
أيها الإخوة: تظاهرت نصوص الشرع على أن مَنْ ترَك شيئًا لله -تعالى- وآثَر ما نُدِب إليه وحُضَّ عليه عوَّضَه اللهُ خيرًا منه، فعنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنَّكَ لن تدَعَ شيئًا اتِّقاءَ اللَّهِ، جَلَّ وعَزَّ، إلَّا أعطاكَ اللَّهُ خيرًا منه"(رواه أحمد)، وفي رواية له: "إنَّكَ لَن تدَع شيئًا للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إلا بدَّلَكَ اللهُ به ما هو خيرٌ لكَ منه".
عبادَ اللهِ: شأنُ المؤمنِ أن يلزَم التقوى، ويُؤثِر الآخرةَ الباقيةَ على الدنيا الفانية، فيتركَ ما يترُكُه ابتغاءَ رضوان الله، ورغبةً في أن يعوِّضَه اللهُ ما هو أجلُّ منه، يؤيِّد ذلك قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "مَن سَرَّه أن يَسقِيَه اللهُ الخمرَ في الآخرةِ؛ فَلْيتركْهَا في الدُّنيا، ومَن سَرَّه أن يَكْسوَهُ اللهُ الحريرَ في الآخرةِ؛ فَلْيتركْه في الدُّنيا"(رواه الطبراني)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيمٌ ببيتِ في رَبَضِ الجنةِ لمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقًّا، وببيتٍ في وسطِ الجنةِ لِمَنْ تركَ الكذبَ وإن كان مازحًا"(رواه أبو داود)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ"(رواه أبو داود) والترمذي، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ -وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ- دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا"(رواه الترمذي).
فمِن سُننِ اللهِ تَعالَى وقواعد الشرع: "أنَّ مَن ترك شيئًا للهِ عوضه الله خيرًا منه ولم يَجِدْ فَقْدَهُ"؛ فمَنْ ترَك الشركَ بالله وامتَنَع عن صْرفِ أيِّ نوعٍ من العبادة لغير الله، ووحَّد اللهَ وَأنابَ إليه، بعبادته وإخلاص الدِّين له، اطمأن قلبُه وانشرَح صدرُه، وسَلِمَ عقلُه واجتمع فكرُه وصفَتْ نفسُه وحَسُنَ مآلُه، وكانت له البشرى في الدنيا والآخرة.
ومن صفات عباد الرحمن الاحترازُ عن الشرك والقتل والزنا، والابتعادُ عن هذه الكبائر وأُمَّهاتِ المعاصي، قال سبحانه: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ...) الآيةَ [الْفُرْقَانِ: 68]، وختَم عزَّ وجلَّ صفات عباد الرحمن بقوله: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)[الْفُرْقَانِ: 75-76].
ومَنْ ترَك الاعتراضَ على قَدَرِ اللهِ، وحبَسَ نفسَه عن التسخُّط عند المصائب، فسلَّم لربه في جميع أمره، رزقه الله الرضا واليقين وأحسَن عاقبتَه، ومن ترَك الذَّهابَ إلى العرَّافين والسحرة والمشعوذين، رزَقَه اللهُ الصبرَ وصدق التوكل وتَحَقُّقَ التوحيد، ومَنْ ترَك الخوفَ من غير الله، وصارت خشية الله شعارَه سَلِمَ من الأوهام ،وأمَّنَه اللهُ من كل شيء، وأصبح الحقُّ رائدَه، ورضا الله مطلبَه ومبتغاه، ومَنْ ترَك التشاؤمَ وسَلِمَ من الوساوس والاعتقادات السيئة اطمأنَّ قلبُه، وقَوِيَ يقينُه وتوكلُّه على ربه، ومَنْ ترَك التكالبَ على حطام الدنيا الفانية، والانشغالَ بملذاتها العاجلة، جمَع اللهُ له أمرَه، وجعَل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومَنْ ترَك ما اشتَبَه عليه حِلُّه، ولم يتيقَّنْ جوازَ فِعْله، من مَطْعَم أو مَشْرَب أو تجارة... أو غير ذلك، فقد اتَّقَى الشبهاتِ مخافةَ الوقوع في المحرَّمات، وترَك ما يَرِيبُه إلى ما لا يَرِيبُه، واستبرَأَ لدينه وعِرْضه، ومَنْ ترَك طلبَ الشهرةِ وحبَّ الظهورِ أعلى اللهُ شأنَه، ورَفَع ذِكرَه، ونشَر فضلَه، ورزَقَه مودةَ الناس، ومَنْ ترَك مسألةَ الناس ورجاءَهم، وإراقةَ ماءِ وجهه أمامهم، وعلَّق رجاءَه بالله دونَ سواه عوَّضَه اللهُ خيرًا ممَّا ترَك، فرَزَقَه تحرُّر القلبِ، وسعةَ النفسِ، والاستغناءَ عن الخَلْق، ومَنْ ترَك عقوقَ والديهِ، وكان برًّا بهما وترَك التقصيرَ في حقهما، وأحسَن إليهما رَضِيَ اللهُ عنه، ويسَّر له أمرَه، وكان بِرُّه سببًا في مغفرة ذنوبه ودخوله الجنةَ.
ومَنْ ترَك قطيعةَ أرحامه، وصبَر على جفائهم وأذاهم، فواصَلَهم وتودَّد إليهم، واتَّقى اللهُ فيهم، بسَطَ اللهُ له في رزقه، وزاد له في عُمُرِه، ولا يزال معه ظهيرٌ من الله ما دام على تلك الصلة، ومَنْ ترَك صحبة السوء والرفقةَ السيئةَ، عوَّضَه اللهُ أصحابًا أبرارًا، وجلساءَ أخيارًا، يجد عندَهم النفعَ والفائدةَ، وينال من جرَّاء مصاحبتهم ومعاشرتهم خيرَيِ الدنيا والآخرة، ومَنْ ترَك الغشَّ في البيع والشراء بُورِكَ له في تجارته، وزادت ثقةُ الناس به، وكَثُرَ إقبالُهم على سلعته، والتاجرُ الأمينُ الصدوقُ المسلم مع النَّبِيِّينَ والصِّدِيقِينَ والشهداءِ يومَ القيامةِ، ومَنْ ترَك الربا ومعامَلاتِه المختلفةَ، وكَسْبَ الخبيثِ، بارَك اللهُ له في رزقه، وصار قَنِعًا، وأغناه اللهُ من واسع فضله، ووجَد الفَلاحَ والسعادةَ والطمأنينةَ، ومَنْ ترَك الاختلاسَ وسرقةَ المالِ؛ خوفًا من الله فتح الله عليه، وأغناه بالحلال، ورَزَقَه من حيث لا يحتسب، جزاءَ تركه أخذَ ما لا يَحِلُّ، ومَنْ ترَك البخلَ وآثَر الكرمَ والسخاءَ، وواسى الناسَ بماله أحبُّوه، واقترَب من الله ومن الجنة، ووُقِيَ شحَّ نفسه، وسَلِمَ من الهمِّ والغمِّ وضيقِ الصدرِ.
هذا والبخل بالعِلْم أسوأُ أنواع البخل وأقبحه، فمَنْ تركَ البخلَ بالعِلْم ولم يكتمه، بل بثَّه ونشَرَه، وأفاد به الناسَ فعلَّم الجاهلَ، وأرشَدَ السائلَ، ونصَحَ للغافل، فله مثلُ أجورِ مَنِ انتَفَع بذلك، والجُودُ بالعِلْم من أعلى مراتب الجود، ومَنْ ترَك المماطَلةَ في الوفاء بالدَّيْن عازمًا على ألَّا يؤخِّرَ القضاءَ عن وقت الأداء، وفَّقَه اللهُ وأعانَه، وأدَّى عنه؛ لصِدْقِ نيتِه ورغبتِه في الإيفاء، ومَنْ ترَك حقَّه على المدين العاجز عن الوفاء، وتجاوَز عنه؛ بأن أسقَط عنه الدَّينَ كلَّه أو بعضَه أو أنظَرَه إلى ميسرة، تجاوَز اللهُ عنه ويسَّرَ عليه، وكان ما أسقَطَه عنه صدقةً يُؤجَر عليها، وسببًا في مغفرةِ ذنبِه ونجاتِه من النار، وأظلَّه اللهُ يومَ القيامةِ في ظِلِّه.
ومَنْ ترَك المغالاةَ في المهور فقَد وَافَقَ الشرعَ في تخفيف الصَّدَاقِ وتسهيلِ النكاحِ، وتجنَّب مفاسدَ المزايَدة والتكلُّف فيه، وبُورِكَ في هذا الزواج، ومَنْ ترَك أخذَ العِوَضِ عند مخالَعته لامرأته، ولم يطالِبْها بما أعطاها من مهرٍ لوجهِ اللهِ، أُثِيبَ على ذلك وعوَّضَه اللهُ ربحًا يُعَوَّض به ما ذهَب من ماله، ومَنْ ترَك الكِبْر ولزم التواضعَ نال الفضائلَ والمكارمَ، وكَمُلَ سؤدَدُه وعلا قدرُه وتناهى فضلُه؛ فما تواضَع أحد لله إلا رفَعَه اللهُ، ومَنْ ترَك الحسدَ وجاهَد نفسَه في كظمه، سَلِمَ من إثمه وضرره؛ فالحسدُ داءٌ عضالٌ وخُلُقٌ لئيمٌ، يبدأ بصاحبه فيهلكه، ومَنْ ترَك سوءَ الظنِّ بالناس، والوقيعةَ في أعراضهم، والتعرضَ لعيوبهم، سَلِمَ مِنْ تشويشِ القلبِ واشتغالِ الفِكْر بما لا ينفع، ورُزِقَ التبصُّرَ في نفسه، والانشغالَ بإصلاح حاله.
ومَنْ ترَك مجاراةَ السفهاءِ وأعرَض عن الجاهلين، حَمَى عِرْضَه، وأراح نفسَه، وعاش مطمَئِنَّ البالِ، واللهُ ناصرُه وكافيه، ومَنْ ترَك التشفيَ والانتقامَ لنفسه، ممَّن ظلَمَه وأساء إليه، بل وتجاوَز عنه وتنازَل عن حقِّه ابتغاءَ مرضاةِ ربِّه ساد وعَظُمَ في القلوب، وزاده اللهُ عِزًّا، وكان ذلك سببًا في عفو الله عنه ورحمته ومغفرته، ومَنْ ترَك الدعةَ والكسلَ وأقبَل على الجِدِّ والعملِ متوكِّلًا على الله علَتْ همتُه وبُورِكَ له في وقته، فنالَ الخيرَ الكثيرَ في الزمن اليسير، ومَنْ ترَك اللغوَ من الكلام، وقولَ الباطلِ، والخوضَ فيما لا يِعنِيه سَلِمَ وحَظِيَ بالفوزِ والنجاةِ يومَ القيامةِ، ومَنْ ترَك هَجْرَ مَنْ هَجَرَه من الناس وقلاه، وبادَر بالسلام عليه وإعادة الصلة به، نال الخيريةَ وأَمِنَ عقوبةَ الهجر، ومَنْ ترَك الإثمَ قليلَه وكثيرَه وسِرَّه وعلانيتَه، واجتنَب المعاصيَ بأنواعها سَلِمَ من عقوبتها وعَرَفَ قدرَ اللهِ واستشعَر عظمتَه، فأقبَلَ على الطاعات، وترقَّى في مراتب الإحسان، ومَنْ ترَك المجاهرةَ بالمعاصي ولم يُشِعْها، واستَتَر بستر الله، ولم يُصِرَّ عليها، عافاه اللهُ وستَر عليه ولم يَفضَحْه وسَلِمَ عِرْضُه، وكان أقربَ للتوبة والندم.
ومن ترك تعاطي الخبائث؛ كالْمُسكِرات والمخدِّرات، والدُّخان والشيشة... وغيرها، نجا من الإثم والعقوبة، واستبرأ لِدِينِه، وسَلِمَ من الأضرار الجسيمة، والمفاسد العظيمة، فعادت إليه صحتُه وعافيتُه، وحَفِظَ بدنَه من السموم والأدواء، وعقلَه من الغياب والفساد، ومالَه من الإضاعة والإتلاف، ومَنْ ترَك محرَّمَ العشقِ ومذمومَ العلاقاتِ وغضَّ بصرَه عن مشاهَدة المحرَّمات في وسائل الاتصال والتواصل، وصبَر على ذلك وأقبَل على الله بكُلِّيَّتِه، رُزِقَ السلوةَ، وعِزَّةَ النفسِ والعفافَ، وسَلِمَ من اللوعة والذلة وأَسْرِ القلب بالمحبة المحرمة، والتعلُّقِ المذمومِ، وفي المقابل مُلِئَ قلبُه محبةً لله، ووجَد حلاوةَ الإيمان، ولذةَ الطاعةِ، وعوَّضَه اللهُ فراسةً صادقةً ونورًا وبصيرةً وحَفِظَ عليه جوارِحَه، فلم يستعملها إلا في طاعة الله، ومَنْ ترَك الاستماعَ إلى ما حرَّم اللهُ عُوِّضَ عن ذلك بقراءةِ القرآنِ، والتلذُّذِ بسماعِه، وتشنيفِ أُذُنَيْهِ، وطمأنينةِ قلبِه، وانشراحِ صدرِه بذلك، ومَنْ ترَك مجالسَ الغِيبة والنميمة واللغو والباطل رُزِقَ مجالسَ الذِّكْرِ والاتعاظِ والدروسِ النافعةِ والفوائدِ الجمَّةِ.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، مُعِزِّ عبادِه المؤمنينَ، وناصرِ أوليائِه المتقينَ، يُحب المحسنينَ، وهو يتولَّى الصالحينَ، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الْمَلِكُ الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، المبعوثُ رحمةً للعالمينَ، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه أجمعينَ، ومَنْ سار على هديهم، واستنَّ بسُنَّتِهم إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فإنَّ لهذه القاعدة الجليلة "مَنْ ترَك شيئًا لله عوَّضَه اللهُ خيرًا منه"، دلائلَ وشواهدَ في القرآن الكريم؛ منها ما ذكره الله عن بعض أنبيائه، فإبراهيم -عليه السلام- لَمَّا اعتَزَل قومَه وأباه وما يدعون من دون الله، وهَب له إسحاقَ ويعقوبَ والذريةَ الصالحةَ وكَفَاهُ، وسليمانُ -عليه السلام- لَمَّا أَلْهَتْهُ الخيلُ عن ذِكْر ربِّه فأَتْلَفَها عوَّضَه اللهُ بأَنْ سخَّر له الريحَ يسير على مَتْنِها حيث أراد، ويوسفُ -عليه السلام- ترَك معصيةَ الله والوقوعَ في الفاحشة، وقد تيسَّرَت له أسبابُها، ترَكَها خوفًا من الله، وإيثارًا لِمَا عند الله، ولم يثأر لنفسه ممَّا فعَل إخوانُه، فنالَ السعادةَ والعِزَّةَ والكرامةَ في الدارينِ، وأهلُ الكهفِ لَمَّا اعتزلوا قومَهم وتركوا ما يعبدون من دون الله، وهَب لهم من رحمته وهيَّأ لهم أسبابَ التوفيق والراحة، وجعلَهم هدايةً لمَنْ بعدهم، والمهاجرون الأوَّلون، الذين هجَرُوا المحبوباتِ والمألوفاتِ؛ من الديار والأهلين، والأحباب والأموال، تركوها للهِ، وضَحَّوْا بالغالي والنفيس؛ من أَجْلِ نصرةِ الدينِ فأعاضهم اللهُ العزَّ والتمكينَ، وملَّكَهم مشارقَ الأرضِ ومغارِبَها.
معاشرَ المسلمينَ: العِوَضُ من اللهِ والخَلَفُ أعظمُ وأكبرُ، وربما عُجِّلَ للعبد العِوَضُ في الدنيا، لكن لا يلزم أن يكون بشيءٍ محسوسٍ من مالٍ أو نحوِه، بل أَجَلُّ العِوَضِ الأنسُ بالله ومحبتُهُ، وطمأنينةُ القلبِ بذِكْره وقوتِه ونشاطِه ورضاه عن ربِّه، ما يفوق جميعَ لذات الدنيا.
وقد يؤجَّل جزاءُ العبد على ما ترَكَه لله؛ فيُثاب به في الآخرة، وهذا أعظمُ؛ إذ جميعُ ما في الدنيا لا يساوي ذرةً ممَّا في الجنة؛ ولذلك فإنَّ أهل التقوى لا يَأْبَهُونَ بالعِوَضِ الذي ينالونه في الدنيا، بل أعظمُ هَمِّهم، ومُنتَهى آمالِهم أن ينالوا العِوَضَ في الآخرة، ومما يجدر ذكره -عباد الله- أن ما يتركه العبدُ للهِ لا يدخُل فيه تركُ شيءٍ من أمور الدين، بل يُعَدّ ذلك مَذَمَّةً ومضرةً وخسرانًا، فعن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "لَا يَتْرُكُ النَّاسُ شَيْئًا مِنْ دِينِهِمْ؛ إِرَادَةَ اسْتِصْلَاحِ دُنْيَاهُمْ، إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَضَرُّ عَلَيْهِمْ، وَمَا هُوَ شَرٌّ عَلَيْهِمْ مِنْهُ"، فإذا كان ذلك كذلك -عبادَ اللهِ- أَفَلَمْ يأنِ لنا وقد عَرَفْنا هذه الحقيقةَ: "مَنْ ترَك شيئًا للهِ عوَّضَه اللهُ خيرًا منه"، أن نتبصَّر في أحوالنا، ونتفقَّد أمورَنا، وننظُر ما الذي نتركه لله حتى يُعَوِّضَنا اللهُ خيرًا منه، مستشعرينَ التعبدَ أثناءَ ذلك، مُلتَمِسِينَ القربةَ إليه؛ إذ لا يكون التركُ عبادةً إلا بالنية والإخلاص، فلا يُشابُ ذلك برياءٍ ولا سمعةٍ، وما أسعدَ مَنْ صدَق مع الله، وترَك هوى نفسِه، وجاهَدَها في طاعةِ اللهِ وهَجَرَ الذنوبَ والخطايا، طالبًا مغفرةَ الله ورضاه.
هذا وصلوا وسلموا عباد الله، على الخيرة من خلق الله ومصطفاه، محمد بن عبد الله؛ امتثالا لأمر الله؛ إذ قال -جل في علاه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعلهم عبرة للمعتبرين، وانصر عبادك المؤمنين، واكتب لهم العز والتمكين، اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا رخاء وسعة، وسائر بلاد المسلمين، اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، وخذ بناصيته للبر والتقوى.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين، والمجاهدين في سبيلك، والمرابطين على الثغور، وحماة الحدود، اللهم كن لهم معينا ونصيرا، ومؤيدا وظهيرا، اللهم ارزقنا بصيرة تزكوا بها نفوسنا، وتسمو بها أرواحنا، فنؤثر محبتك ومراضيك، على أهوائنا وشهواتنا.
اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام، ومن سيئ الأسقام، اللهم جنبنا منكرات الأخلاق والأهواء والأعمال والأدواء، والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم