اقتباس
زكاة النفوس مرادفةٌ لطهارة القلوب، والمقصود بها تطهيرُ القلب من الشِّركِ والمعاصي والأخلاق الرذيلة: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)...
الحمد لله القائل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد: 11]، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد الذي امتن الله به على المؤمنين، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، ورضي الله عن صحابته الذين امتحن اللهُ قلوبَهم للتقوى، وعن آل بيته الذين طهَّرهم الله تطهيرًا.
أما بعد:
فقد ذكَر الله أربع آيات في القرآن وفي صحف إبراهيم وموسى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا)[الأعلى: 14-18] أي المذكور من الآيات الأربع: (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)[الأعلى: 18-19].
وأقسم اللهُ بالشمس والقمر والنهار والليل والسماء والأرض: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 7-10]؛ أي: قد فاز من زكَّى نفسه، وقد خسر من دس نفسَه؛ أي: أخفاها وقذرها بالمعاصي.
إذا ذكَر الله الزكاة في القرآن من غير لفظ الإيتاء، فالمراد بها زكاة النفس، مثل الآيتين السابقتين، ومثل قوله -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ)[المؤمنون: 1-4]؛ أي: مداومون، كما في تفسير البيضاوي، وقد أشار ابن عباس -رضي الله عنهما- إلى أن المراد بالزكاة في هذه الآية زكاة النفس، ورجحه ابن كثير في تفسيره؛ لأن هذه السورة مكية، ولم تُفرَض مقادير الزكوات إلا في المدينة، ومما يدل على ذلك أن الله وصف بتلك الصفاتِ المؤمنين، سواء كانوا أغنياءَ أو فقراء.
وقال اللهُ عن عبده عيسى -عليه الصلاة والسلام-: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)[مريم: 31]، رجَّح إمام المفسرين الطبريُّ أن المراد بالزكاةِ هنا زكاةُ النفس، قال: لأن عيسى لم يكن معروفًا بادخار المال حتى تجبَ عليه زكاةُ المال.
وقال الله عن إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ)[مريم: 55]، يأمُر جميع أهله بزكاة النفوس، سواء كانوا أغنياء أم فقراء، وليعلم أن زكاة المال المقصود بها زكاةُ النفس؛ كما قال الله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)[التوبة: 103]، حتى صدقاتُ التطوع المقصود بها زكاةُ النفس: (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)[الليل: 18].
جميع العبادات المقصود بها زكاةُ النفوس؛ كما قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 21]، وما حرَّم اللهُ المحرَّماتِ إلا لتزكية النفوس؛ كما قال الله -تعالى-: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ)[النور: 30]، وقال: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)[الأحزاب: 53].
اللهُ يريد أن يطهِّرَنا ظاهرًا وباطنًا، ظاهرًا؛ كالوضوء، والغُسل، وخصال الفطرة، وطهارة البدن والمكان والثياب، وباطنًا؛ وهي زكاة الأنفسِ؛ قال الله -تعالى-: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ)[المائدة: 6].
زكاة النفوس مرادفةٌ لطهارة القلوب، والمقصود بها تطهيرُ القلب من الشِّركِ والمعاصي والأخلاق الرذيلة: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88، 89]، وتزكية النفوس وإصلاح القلوب مِن أهمِّ المهمات وأعظم الواجبات؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن اللهَ لا ينظُر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظُرُ إلى قلوبِكم وأعمالكم”، وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن في الجسد مضغةً إذا صلَحت صلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب”.
من أعظم مقاصد بِعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- تزكيةُ النفوس: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)[الجمعة: 2].
النفس مكمن الشرِّ؛ فهي أمَّارة بالسوء، كَسِلَةٌ عن الخير، نَشِطةٌ إلى المعاصي، تحبُّ البطالة، نفوسنا كلُّنا هكذا؛ (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)[النجم: 32]، قال الله -سبحانه-: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ)[النساء: 128]، (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9]، وقد حذَّرنا اللهُ من نفوسنا فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)[البقرة: 235]، وقال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[ق: 16].
على العاقل أن يصبِرَ نفسَه على طاعة الله، ويُرغِمَها على فعل الخير وإن كرِهَتْ، ويفطِمَها عن المعاصي والشهوات وإن أحبَّتْها؛ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)[الكهف: 28]؛ أي: احبِسْها على الطاعات؛ لأن طبيعتَها أنها لا تريدها!!
وقال الله -سبحانه-: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 40، 41]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)[التحريم: 6].
والنَّفسُ كالطفلِ إن تُرضِعْه شبَّ على *** حبِّ الرَّضاعِ، وإن تَفطِمْه ينفطَمِ
والنَّفسُ راغبةٌ إذا رغَّبْتَها *** وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تقنَعُ
فعلينا أن نأمرَ أنفسنا وغيرَنا بالمعروف، وننهى أنفسَنا وغيرَنا عن المنكر، ونتواصى بالحق، ونتعاونَ على تزكية نفوسنا؛ فإنها مليئة بالشر؛ (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ)[فاطر: 18]، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبه: “إن الحمدَ لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا”، وفي الحديث الصحيحِ الذي رواه أحمدُ في مسنده أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- علَّم أبا بكر الصِّدِّيقَ هذا الدعاء أن يدعو به كل صباح ومساء: “أعوذ بك من شرِّ نفسي، ومِن شرِّ الشيطان وشَرَكِه، وأن أقترفَ على نفسي سوءًا، أو أجُرَّه إلى مسلم”، ولا عجبَ أن يكون هذا من أدعيةِ الصباح والمساءِ؛ فقد قال الله -تعالى-: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي)[يوسف: 53].
ومَن شرَع في تزكية نفسه تصيرُ نفسه لوَّامة تلومه على فعل المعصية، وعلى التفريط في الطاعة، وقد أقسم الله بهذه النفس فقال: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)[القيامة: 1-2].
ومن استمرَّ في تزكية نفسِه بالطاعات وترِك المعاصي، صارت نفسُه مطمئنَّةً بذكر الله، وطاعة الله، وتُبشَّر عند موتها ببشارتينِ، بشارة من ملائكة الموت، وبشارة من الله - جل جلاله -: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)[الفجر:27-28]، ثم يقول الله لتلك الروح الطيبة: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)[الفجر:29-30].
وأخيرًا: كيف نزكِّي أنفسَنا؟
بطاعة الله، والإكثارِ من التقرُّب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وتَرْكِ المعاصي؛ لأن المعاصيَ أثرُها سيئٌ على القلوب؛ (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين:14].
رأيت الذُّنوبَ تُميتُ القلوبَ *** وقد يُورِثُ الذُّلَّ إدمانُها
وتَرْكُ الذُّنوبِ حياةُ القلوبِ *** وخيرُ لنفسِك عصيانُها
وأعظمُ ما يزكِّي النفوس ويُصلِحُ القلوب تدبُّرُ كتابِ الله؛ قال الله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)[الحشر:21]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس:57]، فالقرآن شفاءٌ لِما في القلوب من الشَّهوات والشُّبهات، وهدًى من كل ضلالةٍ، ورحمةٌ للمؤمنين الذين يتبعونه؛ فهو حجَّةٌ لك أو عليك.
ومِن أعظم ما يزكِّي النفوس الدعاءُ؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[النور:21]، ختَم الله هذه الآيةَ باسميه "السميع، العليم" إشارةً إلى دعاء الله بتزكيةِ النفس؛ فهو سميعُ الدعاء، وهو عليمٌ بمن يستحقُّ الهداية، وقد كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: “اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها”.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم