عناصر الخطبة
1/ من دلائل قدرة الله في الكون 2/ شدة الحر من فيح جهنم 3/ تذكر حر جهنم والحذر منه 4/ أعمال صالحة تنجي من حر يوم القيامة.اقتباس
فإن من دلائلِ قدرةِ الله -تعالى- ما يُحدِثه في ملكه من تقلباتٍ كونية - حرّ وقرّ، رياح وسكون، مطر وجدب - يزداد بها المتأملُ إيماناً بقدرةِ الله وحِكمته في هذا التنوع، الذي يَحمل في طياته ألواناً من الحِكَم الشرعية والكونية. ومن ذلك ما يقع في هذه الدار الفانية من مُذكّراتٍ بالنعيم المقيم، ومذكّرات بالعذاب الأليم، ومن ذلك: وقت شدة الحَر التي يهرب الناسُ منها إلى الأماكن الباردة، أو يستكنّون في بيوتهم حتى تنكسر شدةُ الحر.. هذا الحرُّ أخبرنا الصادق المصدوق أنه نفَسٌ من نفَسِ جهنّم..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه... أما بعد:
فإن من دلائلِ قدرةِ الله -تعالى- ما يُحدِثه في ملكه من تقلباتٍ كونية - حرّ وقرّ، رياح وسكون، مطر وجدب - يزداد بها المتأملُ إيماناً بقدرةِ الله وحِكمته في هذا التنوع، الذي يَحمل في طياته ألواناً من الحِكَم الشرعية والكونية.
ومن ذلك ما يقع في هذه الدار الفانية من مُذكّراتٍ بالنعيم المقيم، ومذكّرات بالعذاب الأليم، ومن ذلك: وقت شدة الحَر التي يهرب الناسُ منها إلى الأماكن الباردة، أو يستكنّون في بيوتهم حتى تنكسر شدةُ الحر.. هذا الحرُّ أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه - فقط - نفَسٌ من نفَسِ جهنّم - عياذاً بالله منها - كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اشتكت النار إلى ربها! فقالت: يا رب! أكَلَ بعضي بعضاً، فأذِنَ لها بنَفَسين: نفسٍ في الشتاءِ، ونفَسٍ في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير"! (البخاري ح(3260)، مسلم ح(617).
وإذا كان هذا أثراً من آثار نَفَسها؛ فما ظنكم بحرّها هي؟! والعياذ بالله! وما ظنكم بتلك النار التي فُضّلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا، كلهن مثل حَرّها؟!
إن حرَّ هذه الأيام يحرك القلوبَ الحية، ويذكّرها بحرّ النار.. فتسعى لاستنقاذ النفس منها، إن الناس هذه الأيام يتأذّون من حرّ الشمس، وهي على بُعد عشرات الملايين من الأميال.. فما الظن إذا اقتربت الشمسُ من رؤوس الخلائق قدْر ميلٍ فقط حينما يجتمعون لفصل القضاء؟! (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً)[مريم: 95]!
لئن كان أحدُنا يفرّ الآن إلى مصيفٍ بارد، أو بيتٍ مكيّف، فالسؤال الذي يجب أن نفكّر فيه قبل يوم العرض على الله: أين المفرٌّ حين تُدنى الشمسُ من الخلق كمقدار ميل؟ فيَضرب العرَقُ في الناس سبعين ذراعاً، «فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما»(صحيح مسلم ح2864).
أين المفر يومئذٍ من ذلك الحر الشديد؟! لا حصنَ، ولا ملجأَ، ولا حرزَ، ولا جبلَ، ولا غارَ! بل (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ)[القيامة: 12]!
ولك أن تتصور - يا عبدَ الله - أن هذا الحرَّ ليست مدّته فصلاً من فصول السنة، أو عاماً، بل هي خمسون ألف سنة! يقف الخلقُ فيها على أرجلهم، خاشعةً أبصارُهم.. حافيةً أقدامُهم.. عارية أجسامُهم، خمسون ألف سنة لا يأكلون فيها أكْلة، ولا يشربون فيها شَربة..! أهوالٌ تجعل كلَّ مرضعةٍ تَذهل عما أرضعتْ، (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الحج: 2]!!
وبينما الخلقُ في تلك العرَصات؛ إذْ جيء بجهنّم تقودُها الملائكة..«يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها»!! (صحيح مسلم ح2842) إنها لأزِمّةٌ عظيمة تلك التي بلغ عددها سبعون ألف زمام..! وإنها لنار عظيمة تلك التي يجرها: 4،900،000،000 ملَكٍ..!
تذكَّر هذا المشهد وأنتَ تقرأ: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا)[الكهف: 100]، وتذكّره وأنت تقرأ: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ)[الشعراء: 91]، وتذكّر هذا الموقف حين تتلو: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى)[النازعات: 36]، عندها.. يتذكر الإنسان ما سعى.. ويقول بحسرة: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)[الفجر: 24].
وبينما النارُ تُقاد إلى أرض المحشر بهذه الأعداد الضخمة من الملائكة؛ إذا بهذه النار المخلوقة، المعبّدة لربها سبحانه - التي تكره مَن يكرههم ربُّها - حينما ترى أهلَها - من بعيد - تزفر زفرة لا يبقى مَلَكٌ مقرّب، ولا نبيٌ مرسل إلا خرَّ ترعد فرائصُه، حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه فيقول: «أي رب إني لا أسألك اليوم إلا نفسي» (انظر: تفسير عبد الرزاق (2/ 452)، تفسير ابن كثير (6/ 97).
(إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا)[الفرقان: 12] إذا رأتهم جهنمُ من مكانٍ بعيد في مقام المحشر من مسيرة مائة عام - كما قال ابن عباس رضي الله عنه(انظر: تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 40)، الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/ 239).
(سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) أي: حنَقَاً عليهم، كما قال تعالى: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)[الملك: 7، 8] أي يكاد ينفصل بعضُها من بعض، وتفور بهم كما يفور الحَب القليل في الماء الكثير، كلُّ ذلك من شدة غيظها على من عصى ربَّه وكفر بمولاه!
فإذا سمعوا زفير النار ولَّوا مدبرين، هِراباً، إنسُهم وجنّهم، فلا يأتون قُطراً من الأقطار إلا وجدوا ملائكةً صفوفاً، تتلقاهم، فتردهم إلى أرض المحشر، وبهذا تحداهم الله بقوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)[الرحمن: 33]، وهذا المعنى - الذي ذكره بعضُ المفسرين - هو تفسيرُ قول مؤمن آل فرعون: (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ)[غافر: 33].
فإذا كان هذا حنَق هذه النار، وهي في أرض المحشر، فكيف حالهم إذا دخلوها؟! ولك أن تتصور كيف يُدخلون إليها! أتراهم يدخلون مع أبواب واسعة؟! ومداخل مشرعة؟! كلا.. فهم مع شدّة ما هم فيه إذا بهم يدخلون إلى النار من مكان ضيق، بعد أن تُسلسل أيديهم وأرجلُهم، (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)[الفرقان: 13].
قال بعضُ السلف: كأنهم عند إدخالهم النار، يُدخلون فيها كما يُدخل الوتد في الحائط! من ضيق المكان الذي أدخلوا منه...، فجُمع لهم بين ضيق المكان، وتزاحم السكان، وتقرينهم بالسلاسل والأغلال، فإذا وصلوا لذلك المكان النحس وحبسوا في أشر حبس (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) دعوا على أنفسهم بالثبور والخزي والفضيحة، وعلموا أنهم ظالمون معتدون، قد عدل فيهم الخالق حيث أنزلهم بأعمالهم هذا المنزل، ولن ينفعهم هذا الدعاءُ ولا الاستغاثة من عذاب الله! بل يقال لهم: (لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا)[ الفرقان: 14]، أي لو زاد ما قلتم أضعاف أضعافه ما أفادكم إلا الهم والغم والحزن"( من تفسير السعدي، بتصرف واختصار).
وإذا كان هذا حالهم قبل دخولها، فما ظنكِ يا نفس بهم إذا دخولها؟! إن الأمر عظيم ومهولٌ أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر!
وإذا لم تحرك مواعظ القرآن فينا خوفَ الله، والاستعداد للقائه، فما الذي يحركها؟!
احذر أن تنساق وراء الأماني أو التسويف.. فلقد تورط خلقٌ كثير قبلك.. فما حصدوا إلا الندامة.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، والحمد لله رب العالمين .
الخطبة الثانية:
الحمد لله...، أما بعد:
فلئن كان هذا حال المدبرين والمجرمين في ذلك اليوم العظيم؛ فإن للمتقين والمقبِلين على ربهم بشارة منه سبحانه، بأن يكون ذلك اليوم المهول المروّع المفزِع، أن يكون يوماً يسيراً عليهم، كما قال سبحانه: (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ)[المدثر: 10] فمفهومه أنه يَسيرٌ على المؤمنين.
ومن المبشرات لمن استقام على أمر الله، ما ثبت في الصحيحين: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجلٌ قلبُه معلّق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدّق، أخفى حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه"(البخاري ح(660) واللفظ له، مسلم ح(1031).
ففتش - أيها المؤمن - عن موضع قدمٍ لك في ذلك الظل!
أيها المسلمون: ومما يُتقى به حرّ ذلك اليوم؛ أن يبادر المسلم إلى بعض الأعمال الصالحة التي تشتد الحاجة لها في هذا الحرّ الشديد، ومن ذلك:
1) سقيا العمّال الذين يعملون في الشمس، فإذا كان الله شكر لمن سَقَتْ كلبًا عطشان وأدخلها الجنّة، فما ظنك بمن سقى إنسانًا ولو كان كافرًا فضلا عن مسلم؟
2) وضع البرادات في الطرق التي يكثر حولها العمّال، كالأحياء السكنية حديثة الإنشاء، أو الطرق التي يكثر مرور الناس عليها.
3) وضع ماء تشرب منه الطيور، في الأماكن التي تأوي إليها عادة بسبب شدة الحرّ، ففي ذلك أجرٌ عظيم، كما في حديث التي سقت كلبا من العطش.
4) ثمّة بيوت فقيرة، ترتفع عليها فاتورة الصيف، وقد تُفصل عنهم الكهرباء، فمن الحسن أن تبادر بتسديد فاتورتهم هذا الشهر والذي يليه، وإن تيسر ذلك دون أن يشعروا فهو أحسن وأجود.
5) ومن الأعمال التي يُرجى أثرها واستدفاع حرّ النار بها: تفقّد تلك البيوت الفقيرة، والعمل على صيانة مكيفاتهم وثلاجاتهم المتعطّلة، ويمكن التفاهم مع بعض المحسنين لتحمُّل تكلفة هذه الصيانة أو تحمّل بعضها.
ولو تفقّد كلُ جارٍ مقتدر جيرانه المحتاجين لقلّت المعاناة.
هذه - أيها المسلمون - بعض المقترحات التي يزداد بها المؤمنُ أجراً، ويستدفع بها حرّ النار يوم القيامة، فقد قال صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النارَ فأعرض وأشاح، ثم قال: «اتقوا النار» ثم أعرض وأشاح حتى ظننا أنه كأنما ينظر إليها، ثم قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد، فبكلمة طيبة» (البخاري ح(6540) واللفظ له، مسلم ح(1016).
وبهذه الأعمال التي ذكرنا بعضَها يتحقق معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (البخاري ح(6011)، مسلم ح(2586) واللفظ له).
اللهم أجرنا من النار.. وارحم ضعفنا في هذه الدار وتلك الدار..اللهم ارزقنا الاستقامة على دينك، والاستعداد لما نحن مقبلون عليه من أهوالٍ.. اللهم اجعلنا ممن تظلهم بظلك يوم لا ظل إلا ظلك..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم