تذكير الإنسان بخطر اللسان

خالد بن علي أبا الخيل

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ اللسان من النعم العظيمة 2/ فضل الصمت وكفّ اللسان 3/ آفات اللسان مهلكة 4/ حرص السلف على صيانة اللسان 5/ الكلام في الخير عنوان سعادة المرء .

اقتباس

حفظ اللسان يورث الإنسان مصالح الدنيا والآخرة، والسلامة من التبعات الآثمة، وهو دليل على كمال الإيمان وحسن الإسلام، وسلامة من العطب والمثالب، وعلامة على طهارة النفس وحُسن الخلق.. الصمت يحبه الله ويحبه الناس، وهو دليل على التوقير والحكمة، بالصمت يتفرغ المرء للفكر والذكر والعبادة، ويجمع عقله ولبّه، بالصمت تُحفظ الحسنات، وبالكلام تنجر السيئات، بالصمت يسلم من الشحناء والعداوة والبغضاء، بالصمت يسلم ويغنم...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي خلق اللسان وجعله معبرا عن الإنسان، وأشهد أن لا إله إلا الله سخر على الإنسان ملكين لأقواله يكتبان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله عظّم شأن اللسان بالحفظ والصمت عن الهذيان، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.

 

أما بعد: أيها الإنسان! اتق الواحد المنان تفزْ بالجنان، وتنجُ يوم عرض الأبدان ونشر الصحف والميزان والصراط والموقف وشيب الولدان.

 

وأحضروا للعرض والحساب *** وانقطعت علائق الأنساب

وارتكمت سحائب الأهوال  *** وانعجم البليغ في المقال

وعنت الوجوه للقيوم  *** واقتص من ذي الظلم للمظلوم

وساوت الملوك للأجناد *** وجيء بالكتاب والأشهاد

وشهد الأعضاء والجوارح ***  وبدت السوءات والفضائح

 

اللسان من النعم العظيمة والمنن الجسيمة، لولاه لحار الإنسان، وتعطلت الأبدان، وبان الخسران وانهزم الإنسان، يقول أبو حاتم: "والإنسان إنما هو صورة ممثلة، أو ضالة مهملة، لولا اللسان، والله -عز وجل- رفع درجة اللسان على سائر الجوارح، فليس منها شيء أعظم أجرًا منه إذا أطاع، ولا أعظم ذنبًا منه إذا جنى".

 

فحديثنا في خطبتنا عن فضل الصمت وحرز اللسان من الكلام قبل الفوت وصيانة الحسنات من آفات اللسان المهلكات كالغيبة والنميمة، والكذب والسخرية، والاستهزاء والإشاعة، والتندر والفكاهة، وسوء الظن والقدح والمدح، والتعديل والجرح.

 

اللسان في هذا الزمان انفتح انفتاحًا لا نظير له، وتساهل الكثير في الكلام دون خطام أو زمام، فأصبح يهذي ولا يدري دون تثبت وتعقل وتروٍ.

 

فليحذر المرء من طغيان اللسان، والتجاوز في الميدان، فيبوء بالإثم والعدوان والوبال والخسران، وليحذر الإنسان من ذهاب حسناته لغيره، بل لعدوه، فيجمع ويعطي، ويعمل ويمضي فصُنْ لسانك يرتاح قلبك، فقد قيل: "من حفظ لسانه أراح نفسه".

 

وفصل الخطاب في هذا الباب "من صمت نجا وطاب"، ولهذا الواجب ألا تقول قولاً حتى تعلم مصدره وعواقبه وفصّه وأصله، إذا قلت فاعلم ما تقول، ولا تكن كحاطب ليل يجمع الدق والجزل.

 

ومن جميل التراجم من الإمام البخاري -عليه من ربه الرحمات- قوله: "باب العلم قبل القول والعمل"، والأصل في حفظ اللسان قول الرحيم الرحمن: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا) [الحجرات: 12]، وقول الكريم المنان: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء:36]، وقول الواحد الديان (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، أبعد هذا يطلق الإنسان للسانه العنان ويلوغ في أعراض الناس والهذيان.

 

لقاء النَّاس ليسَ يُفيد شيئًا *** سِوى الهذيان مِنْ قيلٍ وقال

فأقلل مِنْ لقاء النَّاس إلاَّ *** لأخذ العلم أو لصلاح حال

 

وإذا علم المرء أنه سوف يُحاسَب على كلامه صان كلامه، وأكثر صوابه، ولهذا قيد المصطفى حفظ اللسان بالإيمان بالله والدار الآخرة، فهو أكبر عون على الهدى، كما في الصحيحين: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".

 

فما أقل العاملين بهذا!! قال النووي معلقًا: "وهذا الحديث صريح في أنه ينبغي ألا يتكلم إلا كان الكلام خيرًا، وهو الذي ظهرت مصلحته، ومن شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم"، ما أجمله من كلام! وما أعظمه من إمام! فكرره وتدبر ..

 

احفظ لسانك أيها الإنسان *** لا يلدغنك إنه ثعبان

كم في المقابر من قتيل لسانه *** كانت تَهاب لقائه الشجعان

 

ويقول إمام المغرب ابن عبد البر معلقًا: "وفي هذا الحديث التأكيد على لزوم الصمت، وقول الخير أفضل من الصمت؛ لأن قول الخير غنيمة، والسكوت سلامة، والغنيمة أفضل من السلامة".

 

فاحذر لسانك لا يأكل حسنا*** تك وتهديها إلى أعدائك

يشاركك المغتاب بحسناته ***ويعطيك أجر صومه وصلاته

ويحمل وزرًا عنك ضن بحمله *** عن النجب من أبنائه وبناته

فكافيه بالحسنى وقل رب جازه *** بخير وكفّر عنه من سيئاته

فيا أيها المغتاب زدني فإن بقي *** ثواب صلاة أو زكاة فهاته

فغير شقي من يبيت عدوه *** يعامل عنه الله في غفلاته

 

يقول النووي: "اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، الكلام لا ينقص، بل يزيد، فعليه يجب الحذر والحيطة في النقد والجرح والقدح، احذروا الغيبة والنميمة، احذروا الرسائل الجوالية والتواصلات الاجتماعية كالواتس والتغريدات والمواقع والمنتديات، "قل خيرًا تغنم، واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم".

 

احذروا القص واللصق والنسخ والنقل، فلا ترسل ولا تقص إلا بعلم، وما عرفت صوابه، فمن أرسل غيبة أو نميمة أو سخرية أو كلمة ذميمة فهو شريك في الإثم والعدوان (وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 3].

 

فالبعض لا يغتاب، ولا يقع في أعراض الآخرين، لكنه ينقل ويلصق ويرسل فعليه وزر ذلك وما وصلت هنالك.

 

عوّد لسانك قول الخير تنجُ به ***من زلة اللفظ لا من زلة القدم

واحرز كلامك من خل تنادمه *** إن النديم لمشتق من الندم

 

في هذا الزمان والتقنية الحديثة والتواصلات القريبة انفتح الهذيان، وكثر قول اللسان بالإثم والغيبة والعدوان، واحذروا المداهنة في دفع الغيبة والوقيعة كما في الواتس والمجموعات، فمجرد أن تقرأ أو تعلم فأنت تأثم وتغرم حتى ولو كنت صامتًا مسالما ولا تعلق وتشارك دائمًا، فقل الحق ولو كان مُرًّا ورد عرض أخيك ولو كان عدوًّا.

 

 ولعظم خطر اللسان اسمع إلى قول سيد ولد عدنان يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً -أي: استحضارًا واهتمامًا- يهوي بها في نار جهنم" (رواه البخاري عليه رحمة الله).

 

بل أصغ سمعك لما فيه نجاتك، قال عقبة: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" (رواه الترمذي وحسنه).

 

وإن أردت زيادة ترهيب لتحفظ لسانك من كل سوء، فقد قال معاذ: يا رسول الله أوصني؟ قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟"، قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه، وقال: "كف عليك هذا"، قال: فقلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم؟ "ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم" (رواه الترمذي وصححه).

إن اللسان إذا حللت عقاله *** ألقاك في شنعاء ليس تقال

 

يقول الغزالي: "من تأمل آفات اللسان علم أنه إذا أطلق لسانه لم يسلم، وعند ذلك يعرف سر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من صمت نجالأن هذه الآفات كلها مهالك ومعاطب، وهي على طريق المتكلم، فإن سكت سلم من الكل، وإن نطق وتكلم خاطر بنفسه إلا أن يوافقه لسان فصيح وعلم غزير وورع حافظ ومراقبة لازمة، ويقلل من الكلام، فعساه يسلم عند ذلك".

 

إن كان يعجبك السكوت فإنه *** قد كان يعجب قبلك الأخيار

ولئن ندمت على سكوتي مرة *** فلقد ندمت على الكلام مرارا

إن السكوت سلامةً ولربما *** زَرَعَ الكلام عداوةً وضِرارا

 

يتأكد حفظ اللسان عند الفتن، وتشتت الأذهان، يتأكد حفظ اللسان عند قلة الورع وقلة الخوف من النيران، كم كلمة ورسالة وتغريدة ومقالة يتفوه بها لسانه وطارت بها ركبانه ودخلت كل بيت فعض صاحبها الندم ولات حين مندم، فباء بالوزر والإثم.

 

وتأمل قول الرسول مما يدل أن قوله صدق: "إن الرجل ليكذب الكذبة يبلغ بها الآفاق"، جاء تصديقه في هذا الزمان، وانتشار الكلام كالهشيم في النيران.

أنت من الصمت آمن الزلل *** ومن كثير الكلام في وجل

لا تقل القول ثم تتبعه *** يا ليت ما كنت قلت لم أقل

 

يقول أبو حاتم: "لسان العاقل يكون وراء قلبه، فإذا أراد القول رجع إلى القلب، فإن كان له قال، وإلا فلا، والجاهل قلبه في طرف لسانه ما أتى على لسانه تكلم به، وما عقل دينه من لم يحفظ لسانه".

 

وزنِ الكلامَ إذا نطقتَ ولا تكنْ *** ثرثارةً في كلِّ نادٍ تخطُبُ

أَقْلِلْ كلامكَ واستَعِذْ من شرِّهِ *** إنَّ البلاءَ ببعضِهِ مقرونُ

واحفَظْ لسانَكَ واحتَفِظْ من غَيِّهِ *** حتى يكونَ كأنَّهُ مسجونُ

وكِلْ فؤادَكَ باللسانِ وقُلْ لَهُ *** إنَّ الكلامَ عليكما موزونُ

فَزِنَاهُ وليَكُ مُحْكَمًا ذا قِلَّةٍ *** إنَّ البلاغةَ في القليلِ تكونُ

 

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمد الشاكرين أحمده سبحانه رب العالمين.

 

أيها المسلمون: عطروا أسماعكم بأقوال وأفعال سلفكم في حفظ ألسنتهم وطول صمتهم وعد كلامهم، وأخذ الحيطة في كلامهم، وبالتالي حفظ حسناتهم وإعراض إخوانهم فاحذوا آثارهم، واقتدوا بأفعالهم، وصونوا ألسنتكم عما حرم الله، فأنتم عن الكلام مسئولون، وعلى هفواتكم مؤاخذون، واللسان خطره عظيم ووزره وخيم وعذابه أليم.

 

فهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يأخذ بطرف لسانه، ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"، وهذا علي -رضي الله عنه- يقول: "بكثرة الصمت تكون المهابة"، وهذا أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: "تعلموا الصمت كما تعلمون الكلام".

 

وهذا أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: "الصمت هو أول العبادة".

وهذا الفضيل بن عياض: "شيئان يقسّيان القلب: كثرة الكلام وكثرة الأكل".

ويقول الأحنف بن قيس -رحمه الله-: "الصمت أمان من تحريف اللفظ، وعصمة من زيغ المنطق وسلامة من فضول القول وهيبة لصاحبه".

 

ويقول أبو حاتم: "الواجب على العاقل أن يلزم الصمت إلى أن يلزمه التكلم، فما أكثر من ندم إذا نطق، وأقل من يندم إذا سكت، وأطول الناس شقاء وأعظمهم بلاء من ابتُلي بلسان مطلق وفؤاد مطبق".

 

ويقول علي بن بكار: "جعل الله لكل شيء بابين، وجعل للسان أربعة؛ الشفتين مصرعين والأسنان مصرعين".

 

لعمرك مَا شيء علمت مكانه *** أحق بسجن من لسان مذلل

على فيك مما ليس يعنيك شأنه *** بقفل وثيق مَا استطعت فاقفل

فرب كلام قد جر من مزاحة *** فساق إليهم سهم حتف معجل

أرى الصمت خيرا من كلام بمأثم *** فكن صامتا تسلم وإن قلت فاعدل

 

بل بلغ بالسلف عد كلامهم حماية وحراسة لألسنتهم يقول الفضيل -رحمه الله-: "كان بعض أصحابنا يحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة".

 

وجاء عن جمع من السلف: "العافية عشرة أشياء؛ تسعة منها في السكوت".

فالصمت عن الشر والكلام في الخير عنوان سعادة المرء، يقول خالد بن الحارث "السكوت زين للعاقل وستر للجاهل".

 

والسلف كانوا يجتنبون كثير الكلام؛ لأن كثرة الكلام حرية باختلاط الصحيح مع الخطأ، والباطل بالحق، وكفى المرء إثمًا أن يحدّث بكل ما سمع.

 

حتى إنهم -رحمهم الله- إذا خرج الكلام عن الجادة تأثروا وعرفوا، يقول بعضهم: "إني لأكذب الكذبة فأعرفها في عملي"، وهذا لطهارة قلوبهم وسلامة ألسنتهم يتأثرون، أما من لا يبالي في أيّ وادٍ هلك فهو في الهالكين.

 

يقول يحيى بن أبي كثير: "ما صلح منطق رجل إلا عرف ذلك في سائر عمله، ولا فسد منطق رجل إلا عرف ذلك في سائر عمله".

 

فاللسان إذا صلح صلحت الجوارح، وعكسه بعكسه، ولهذا يقسم ابن مسعود -رضي الله عنه-: "والله الذي لا إله غيره ما شيء أحق بطول سجن من لسان".

 

بل كانوا -رحمهم الله- يحفظون ألسنتم منذ بلوغهم وتعقلهم، يقول البخاري: "ما اغتبت أحد منذ عقلت أن الغيبة حرام".

 

ويقول إبراهيم التيمي عمن صحب الربيع بن خثيم عشرين سنة أنه "لم يسمع منه كلمة تُعاب"، رحماك يا رب الأرباب، فكلامنا في السلامة أقل من القليل، فعفوك يا كريم.

 

عن إبراهيم بن رستم قال: "سمعت خارجة يقول: صحبت عبدالله بن عون خمس عشرة سنة، فما أظن أن الملائكة كتبت عليه شيئًا".

 

وخلاصة المقام وزبدة الكلام أن: حفظ اللسان يورث الإنسان مصالح الدنيا والآخرة، والسلامة من التبعات الآثمة، وهو دليل على كمال الإيمان وحسن الإسلام، وسلامة من العطب والمثالب، وعلامة على طهارة النفس وحُسن الخلق، الصمت يحبه الله ويحبه الناس، وهو دليل على التوقير والحكمة، بالصمت يتفرغ المرء للفكر والذكر والعبادة، ويجمع عقله ولبّه، بالصمت تُحفظ الحسنات، وبالكلام تنجر السيئات، بالصمت يسلم من الشحناء والعداوة والبغضاء، بالصمت يسلم ويغنم.

 

وأخيرًا:

جمّل زمانك بالسكوت فإنه *** زين الحليم وسترة الحيران

وقال الآخر:

الصمت زين والسكوت سلامة *** فإذا نطقت فلا تكن مكثاراً

وقال الثالث:

الصمت زين للفتى *** يُكرمه حيث أتى

 

هذا، وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يعيننا على حفظ ألسنتنا، اللهم أعنا على حفظ ألسنتنا من الغيبة والنميمة، والكذب والسخرية، والاستهزاء والوقيعة، والإساءة، اللهم احفظ علينا حسناتنا...

 

 

 

المرفقات

الإنسان بخطر اللسان

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات