تحقيق وقت الإجابة يوم الجمعة

عصام خضر - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
الكتابة
26

اقتباس

ورجحه ابن القيم، قال رحمه الله: "أرجح هذه الأقوال: قولان تَضمَّنتهما الأحاديث الثابتة، وأحدهما أرجحُ من الآخر؛ الأول: أنَّها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة... والقول الثاني: أنَّها بعد العصر، وهذا أرجحُ القولين، وهو قولُ عبد الله بن سَلَام، وأبي هريرة، والإمام..

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلة وصحبه أجمعين.

 

من نعم الله -تعالى- على عباده أن أذن لهم في دعائه وسؤاله، ورغبهم فيه وحثهم عليه، ووعدهم بإجابة سؤالهم، وقضاء حوائجهم، وامتن على من فعل ذلك بالأجر العظيم والثواب الجزيل والسعادة في الدنيا والآخرة؛ وذلك لما للدعاء من منزلة عظيمة في الدين، ودرجة سامية في العبودية، إذ الدعاء هو العبادة.

 

والدعاء من أنفع الأدوية التي يستعين به العبد لتفريج الكربات، وقضاء الجاجات، وقد جعل الله -عز وجل- في يوم الجمعة ساعة يستجاب فيها الدعاء، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه إياه"([1]) وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وقت هذه الساعة؛ ليغتنم الناس الدعاء فيها، والكل يريد اغتنامها.

 

وقد اختلف أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في تعيين هذه الساعة، على أقوال كثيرة، فمنهم من حددها بوقت معين، ومنهم من جعلها متنقلة في سائر ساعات الجمعة، ومنهم من قال: إنها أخفيت كما أخفيت ليلة القدر، وقد توسع في ذكر الخلاف في هذه القضية ابن القيم([2])، والحافظ ابن حجر حيث أبلغ الأقوال في هذه المسألة ثلاثة وأربعين قولاً، وقال -بعد سياقه للأقوال-: "ليست كلها متغايرة من كل جهة بل كثير منها يمكن أن يتحد مع غيره"([3]).

 

قال ابن باز-رحمه الله-: "الجمعة كل ساعاتها مظنة الإجابة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن فيها ساعة لا يرد فيها سائل، وهي ساعة قليلة، فالمشروع للمؤمن والمؤمنة الإكثار من الدعاء يوم الجمعة من أوله إلى آخره، لكن، أحراها بالإجابة وقتان: أحدهما حين يجلس الإمام للخطبة يوم الجمعة على المنبر إلى أن تقضى الصلاة، والوقت الثاني ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، هذان الوقتان هما أرجى الساعات وأحراها بساعة الإجابة، ولكن مع ذلك يستحب الدعاء في جميع أوقات الجمعة حرصًا على هذه الساعة"([4]).

 

وقال ابنُ عثيمين: وأرجى ساعات الجمعة في الإجابة هي وقت الصلاة،... لكن متى تبتدئ هذه الساعة ومتى تخرج؟ تبتدئ من دخول الإمام إلى أن تنقضي الصلاة،... تدعو بما شئت مادام الخطيب لم يشرع بالخطبة، كذلك أيضاً بين الخطبتين تدعو الله بما شئت من خيري الدنيا والآخرة، كذلك في أثناء الصلاة في السجود،... وهناك محل دعاء آخر في الصلاة بعد التشهد.

 

القول الثاني: أن الساعة التي ترجى فيها الإجابة هي ما بعد العصر إلى أن تغرب الشمس"([5]).

 

وأقوى هذه الأقوال في تعيين وقت إجابة الدعاء يوم الجمعة قولان:

القول الأول:

وممن ذهب إلى القول بأنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة، القاضي أبو بكر ابن العربي قال رحمه الله: "على أنَّ مسلمًا قد كشف الغطاءَ عن هذا الخفاء، فقال عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنَّه "سُئل عن الساعة التي في يوم الجمعة، فقال: هي من جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة". وهذا نصٌّ جلي، والحمد لله.

 

وفي سنن أبي داود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نصٌّ في أنها بعد العصر، ولا يصحُّ"([6]). والقرطبي وقال رحمه الله -بعد أنْ ذكَر الخلاف في وقتها-: "وحديثُ أبي موسى نصٌّ في موضع الخلاف، فلا يُلتفتْ إلى غيره"([7])، والنووي وقال رحمه الله: "الصَّواب ما بين جلوس الإمامِ على المنبر إلى فراغِه من صلاة الجمعة، حكاه عياضٌ وآخرون"([8])، وابن رجب وقال رحمه الله: "هذا القول- أعني: أنَّها بعد زوال الشَّمس إلى انقضاء الصلاة، أو أنَّها ما بين أن تُقامَ الصلاة إلى أن يُفرغ منها- أشبهُ بظاهر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يُوافقها عبدٌ مسلم قائمٌ يُصلِّي يسأل اللهَ فيها شيئًا، إلَّا أعطاه إياه"؛ فإنَّه إنْ أريد به صلاة الجمعة كانت من حين إقامتها إلى الفراغ منها، وإنْ أريد به صلاة التطوُّع كانت من زوال الشمس إلى خروج الإمام؛ فإنَّ هذا وقت صلاة تطوُّع، وإنْ أريد بها أعم من ذلك-وهو الأظهر- دخل فيه صلاةُ التطوُّع بعدَ زوال الشمس وصلاةُ الجمعة إلى انقضائها"([9]).

 

 وأستدل أصحاب هذا القول بأدلة من السنة منها:

ما جاء عن أبي بردة بن أبي موسى، أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، قال له: أسمعت أباك - وهو أبو موسى الأشعري -رضي الله عنهم- يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شأن ساعة الجمعة شيئا؟ قال: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة"([10]).

 

القول الثاني: أنها بعد العصر، وبه قال أكثر السلف، قال ابنُ القيِّم- رحمه الله -تعالى-: "كان سعيدُ بن جُبَير، إذا صلَّى العصر، لم يُكلِّم أحدًا حتى تغرُب الشمس، وهذا هو قولُ أكثرِ السلف، وعليه أكثرُ الأحاديث. ويليه القول: بأنَّها ساعةُ الصلاة، وبقيَّة الأقوال لا دليلَ عليها"([11]) .

 

وقال ابنُ رجب: "وقال عبدُ الله بنُ سَلَامٍ: النَّهار اثنا عشرةَ ساعةً، والساعة التي تُذكر من يوم الجمعة آخِرُ ساعات النهار"([12]).

واختاره الإمام أحمد، وإسحاق، وابن عبد البر وكثير من الأئمة، قال ابنُ حجر: "حكى الترمذيُّ عن أحمدَ أنَّه قال: أكثرُ الأحاديث على ذلك. وقال ابنُ عبد البر: إنَّه أثبتُ شيءٍ في هذا الباب. ورَوى سعيدُ بن منصور بإسنادٍ صحيحٍ إلى أبي سَلمةَ بن عبدِ الرحمن أنَّ ناسًا من الصحابة اجتمعوا فتَذاكروا ساعةَ الجمعة، ثم افترقوا، فلم يختلفوا أنَّها آخِر ساعةٍ من يومِ الجمعة. ورجَّحه كثيرٌ من الأئمَّة أيضًا، كأحمدَ وإسحاقَ، ومن المالكيَّة الطرطوشيُّ، وحكى العلائيُّ أنَّ شيخه ابنَ الزملكاني شَيخ الشافعيَّة في وقته كان يختاره ويَحكيه عن نصِّ الشافعي"([13]).

 

ورجحه ابن القيم، قال رحمه الله: "أرجح هذه الأقوال: قولان تَضمَّنتهما الأحاديث الثابتة، وأحدهما أرجحُ من الآخر؛ الأول: أنَّها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة... والقول الثاني: أنَّها بعد العصر، وهذا أرجحُ القولين، وهو قولُ عبد الله بن سَلَام، وأبي هريرة، والإمام أحمد، وخَلْق"([14]).

 

وقال أيضًا: "وعندي أنَّ ساعةَ الصَّلاةِ ساعةٌ تُرجى فيها الإجابة أيضًا؛ فكلاهما ساعةُ إجابة، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخِر ساعة بعدَ العصر؛ فهي ساعة معيَّنة من اليوم لا تتقدَّم ولا تتأخَّر، وأمَّا ساعة الصلاة، فتابعةٌ للصلاة تقدَّمت أو تأخَّرت؛ لأنَّ لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرُّعهم وابتهالهم إلى الله -تعالى- تأثيرًا في الإجابة، فساعة اجتماعهم ساعةٌ تُرجى في الإجابة، وعلى هذا تتَّفق الأحاديث كلها، ويكون النبيُّ - اللهُ عليه وسلَّم- قد حضَّ أمَّته على الدعاء والابتهال إلى الله -تعالى- في هاتين الساعتين"([15]).

 

واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:

أولا: من السنة

ما جاء عن جابر -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يوم الجمعة ثنتا عشرة" يريد ساعة، "لا يوجد مسلم يسأل الله -عز وجل- شيئا إلا آتاه الله -عز وجل-؛ فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر"([16]).

 

ومن الأدلة ما جاء عن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه-، قال:- "قلت ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس: إنا لنجد في كتاب الله في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي، يسال الله فيها شيئا إلا قضى له حاجته؟ قال عبد الله: فأشار إلى رسول الله -صلى الله عليه و سلم- أو بعض ساعة. فقلت صدقت أو بعض ساعة . قلت أي ساعة هي؟ قال: "هي آخر ساعات النهار". قلت: إنها ليست ساعة صلاة، قال: "بلى! إن العبد المؤمن إذا صلى، ثم جلس لا يحبسه إلا الصلاة فهو في الصلاة"([17]).

 

ومن الأدلة ما جاء عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مسيخة يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع الشمس؛ شفقا من الساعة، إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها"، قال كعب: ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت: بل في كل جمعة، قال: فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال أبو هريرة: ثم لقيت عبد الله بن سلام، فحدثته بمجلسي مع كعب، فقال عبد الله بن سلام: قد علمت أية ساعة هي. قال أبو هريرة: فقلت له: فأخبرني بها. فقال عبد الله بن سلام: هي آخر ساعة من يوم الجمعة. فقلت: كيف هي آخر ساعة من يوم الجمعة، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي"، وتلك الساعة لا يصلى فيها؟ فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من جلس مجلسًا ينتظر الصلاة، فهو في صلاة حتى يصلي؟" قال: فقلت: بلى! قال: هو ذاك"([18]) .

 

ومن الأدلة ما جاء عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناسا من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة، ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة([19]).

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

(([1] أخرجه النسائي في سننه عن أبي هريرة –رضي الله عنه- (3/115) رقم: (1431) وقال الشيخ الألباني: صحيح.
([2]) انظر زاد المعاد (1/388).
([3]) فتح الباري (2/421).
([4]) فتاوى نور على الدرب (13/239- 240).
([5]) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (16/17-20).
([6]) أحكام القرآن (5/250)، والحديث أورده أبو داود في سننه باب الإجابة أية ساعة هي في يوم الجمعة (1/405) رقم: (1050) عن جابر بن عبد الله عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال "يوم الجمعة ثنتا عشرة ". يريد ساعة "لا يوجد مسلم يسأل الله عز وجل شيئا إلا آتاه الله عز وجل فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر" وصححه الألباني
(([7] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/367).
(([8] المجموع (4/549).
([9]) فتح الباري (520، 521).
([10]) رواه مسلم (3/6) رقم: (2012).
(([11] زاد المعاد (1/373).
(([12] فتح الباري (5/506).
(([13] فتح الباري (2/421).
(([14] زاد المعاد (1/373)
([15]) زاد المعاد (1/373)
(([16] سنن أبي داود (1/405) رقم: (1050) ، وسنن النسائي (3/99) رقم: (1389) وقال الألباني صحيح، ومسند أحمد عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة –رضي الله عنهما- بلفظ " إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله عز وجل فيها خيرا إلا أعطاه إياه، وهي بعد العصر " (13/117) رقم: (7688) وقال محققوه: حديث صحيح بشواهده.
([17]) سنن ابن ماجه (1/360) رقم: (1139)، و قال الشيخ الألباني: حسن صحيح.
(([18] سنن أبي داود (1/404) رقم: (1048)، وقال الألباني: صحيح.
(([19] أخرجه سعيد بن منصور، كما في فتح الباري لابن حجر (2/421)، وصحَّح إسناده ابن حجر.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات