اقتباس
أنطاكية مدينة عظيمة كبيرة تقع غربي مدينة حلب على نهر العاصي قريبا من مصبه في البحر المتوسط وهي تعادل القسطنطينية من حيث المساحة والثراء -تقع اليوم في تركيا- وهي من .. ظلت إمارة أنطاكية الحصينة في مأمن من محاولات الاسترداد الإسلامي التي قام بها القادة العظام أمثال عماد الدين زنكي وولده نور الدين محمود...
تعتبر الحملات الصليبية الشهيرة في القرون الوسطى والتي امتدت لقرنين من الزمان من أكثر الفترات التاريخية امتلاءً بالأحداث والعبر والدروس والمواقف؛ فقد مثلت ذروة الصراع والمواجهة بين العالمين الإسلامي والمسيحي، هذا الصراع الخالد الذي لم يتوقف يوماً منذ ظهور الإسلام وانطلاقه من جزيرة العرب نحو العالمية وربوع الأرض، منذ معركة مؤتة سنة 8 هـ، وحتى كتابة هذه السطور وإلى أن ينزل المسيح -عليه السلام- في آخر الزمان، وسيظل الصراع محتدماً بين العالمين الإسلامي والمسيحي، هذا ترجح كفته تارة، وذاك تارة، وضعف وقوة أحد العالمين تكون دوماً على حساب العالم الآخر، والأيام دول، والليالي حبلى بكل عجيب.
وفي هذا المقال سنعيش مع واحد من هذه المواقف الرائعة التي وقع فيها الصدام بين العالم الإسلامي والمسيحي، استرد فيه المسلمون كرامتهم، وثأروا لهزيمتهم، وحرروا بلادهم، وانتقموا لأعراضهم، بعد طول غيب، ولا تعجب، بعد مائة وسبعين عاماً من الاحتلال الصليبي لبقعة غالية من بقاع العالم الإسلامي -وكلها غالية- ألا وهي أنطاكية درة الجزيرة الفراتية، وواسطة عقد الشام والعراق.
أنطاكية من المسلمين إلى الصليبيين
أنطاكية مدينة عظيمة كبيرة تقع غربي مدينة حلب على نهر العاصي قريبا من مصبه في البحر المتوسط وهي تعادل القسطنطينية من حيث المساحة والثراء -تقع اليوم في تركيا- وهي من أكثر مدن الشام تحصينا تحيط بها المرتفعات من الجنوب والشرق ويكتنفها نهر العاصي من الغرب وتكثر بها الغابات والمستنقعات من جهة الشمال ويحرسها سور مرتفع بالغ التحصين طوله 12ميلا وبه 360 برجا، وتقع قلعة انطاكية على قمة الجبل داخل أسوار المدينة، فتحها المسلمون في عهد الفاروق عمر -رضي الله عنه- على يد أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه-، واستمرت تحت حكم المسلمين حتى قدوم الحملة الصليبية الأولى سنة 491 هـ.
فقد حاصر الصليبيون أنطاكية بداية من سنة 490 هـ ولكنهم لم يستطيعوا الاستيلاء عليها لحصانتها ومناعتها الفائقة وكان يحكمها الأمير السلجوقي ياغي سيان -أحد رجال ملك شاه- من سنة 480 ه؛ فأرسل يستنجد بأمراء الشام فأسرع إليه أمير حمص وأمير الموصل وأمير دمشق بقوات عسكرية قوية حققت انتصاراً سريعاً على الصليبيين ظنوا به أن الأمر قد انتهى فعادوا إلى بلادهم.
في هذه الفترة قرر العديد من قادة الحملة الصليبية الفرار من القتال منهم بطرس الناسك وهو مسعر الحملات الصليبية الشهير بخطبه التي ألهبت حماس الأوروبيين للاشتراك بالحملات الصليبية، قرروا الفرار بعدما رأوا مناعة المدينة وحصانتها، وتوالي النجدات عليها، ولكن وقعت الخيانة من حيث لا يدري أحد !!
فقد قام الأفضل بن بدر الجمالي وزير الدولة الفاطمية الباطنية الخبيثة بمراسلة الصليبين المحاصرين أنطاكية وعقد معهم تحالفاً على أن تكون أنطاكية للصليبين، وبيت المقدس للفاطميين، وكان السلاجقة أعداء الفاطميين قد انتزعوا منهم بيت المقدس؛ فوافق الصليبيون على الفور وتجدد نشاطهم لمواصلة الحصار مرة أخرى.
فائدة الخطيب: مواقف الشيعة والفرق الباطنية عبر التاريخ مليئة بالخزي والعار والخيانة لله ولرسوله وللأمة الإسلامية، وما حكم الرافضة والباطنيون بلداً مسلماً إلا حولوه إلى بؤرة توتر وصراع وإثارة الفتن في أوساط المسلمين، وكان حكمهم ودولهم عبر التاريخ حتى اليوم وبالاً وخبالاً على العالم الإسلامي.
ومما ساعد على سقوط أنطاكية بيد الصليبين أن كثيراً من سكان المدينة كانوا من الأرمن الذين كان هواهم -وما زال -مع العالم المسيحي؛ فقد حاول أمراء الشام بالتعاون مع يا غي سيان أمير أنطاكية الهجوم مرة أخرى على الصليبيين المحاصرين لأنطاكية، ولكن خطة الهجوم تسربت إلى الصليبيين عن طريق الأرمن ففشلت وزاد الطين بلة على أمير أنطاكية، ثم اكتملت فصول الخيانة بقيام أحد الأرمن واسمه فيروز بفتح أحد أبواب المدينة سراً فتسربت القوات الصليبية منه ودخلت المدينة واحتلتها وقتلت كثيراً من أهلها المسلمين، واشترك معهم الأرمن والسريان.
فائدة الخطيب: عدوك هو عدو دينك، أما أوهام الوطنية والأخوة الإنسانية وأشقاء الوطن وزمالة الأديان وحقوق الآخر، كل ذلك خداع ونفاق لا يراد منه إلا التعمية عن أصل الصراع وحقيقة العداوة.
خرج مدد من الموصل بقيادة الأمير "كربوقا" لرفع الحصار عن المدينة، ولكنه وصل بعد سقوط المدينة بأربعة أيام، فشدد عليها الحصار حتى ساءت أحوال الصليبين، إذ وجدوا أنفسهم محاصرين من الداخل والخارج وقلت المؤونة لديهم مما اضطرهم إلى أكل الجيف وأوراق الشجر، وانهارت معنوياتهم ، وفكر الصليبيون في إرسال وفد إلى كربوقا لطلب الأمان منه ليخرجوا من أنطاكية، غير أن "كربوقا" رفض طلبهم وقال لهم: لا تخرجون إلا بالسيف، كما دخلت بالسيف.
وهنا لجأ بطرس الناسك لحيلة خبيثة؛ فاختلق قصة الحربة المقدسة؛ فقد جمع الناس وخطب فيهم، وكان خطيباً مفوها، فقال لهم بأنه رأى القديسين في رؤيا يقول لهم بأن الحربة المقدسة التي طعن بها المسيح عند صلبه، موجودة في أنطاكية، وقد تم نبش كاتدرائية أنطاكية بحثا عن الحربة، وكان قد خبأها هناك ليلاً؛ فاستخرجها أمام الصليبيين؛ فحميت عزائم الصليبيين والتفوا حول زعمائهم، وقويت نفوسهم على الاندفاع تجاه المسلمين وهم في غاية القوة والمعنويات العالية، فكسروا المسلمين وفكوا الحصار عن أنطاكية، واضطر كربوقا للعودة إلى الموصل، وأصبحت أنطاكية إمارة صليبية سنة 492 هـ، وهي أول إمارة صليبية يؤسسها الصليبيون في بلاد الشام.
أنطاكية من الأيوبيين إلى المماليك
ظلت إمارة أنطاكية الحصينة في مأمن من محاولات الاسترداد الإسلامي التي قام بها القادة العظام من أمراء وملوك الشام والموصل الكبار، أمثال عماد الدين زنكي وولده نور الدين محمود ومعهم نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه ومن بعدهم صلاح الدين الأيوبي، وهم الذين حققوا نجاحات هائلة ضد الصليبيين في الشام وقلصوا الوجود الصليبي من أربع ممالك صليبية كبرى يتبعها كثير من مدن وقرى وأحواز الشام، حتى انحصر في إمارة طرابلس وإمارة أنطاكية التي ظلت مستعصية على المسلمين لأكثر من 170 سنة متواصلة.
حدث تغييرات كبرى في القيادة السياسية في المنطقة، فقد تضعضع حكم الأيوبيين بسبب الصراعات الداخلية بينهم، وسادت فترة من المسالمة بين الصليبيين والمسلمين لتردي أحوال الجانبين، ولم يقطع تلك المسالمة إلا الحملة الصليبية السابعة التي قادها ملك فرنسا "لويس" التاسع على مصر والتي كانت سبباً لسطوع نجم المماليك كقوة إسلامية ناشئة تحل محل القوة الآفلة -الأيوبيين -وخلال الفترة الممتدة من 647هـ حتى سنة 658 هـ وقعت تطورات سياسية وعسكرية كبرى في المنطقة أدت لقيام دولة المماليك وسقوط دولة الأيوبيين وكسر التتار لأول مرة في معركة عين جالوت العالمية ثم مقتل بطل المعركة "سيف الدين قطز" واعتلاء "الظاهر بيبرس " كرسي السلطنة مكانه في أواخر سنة 658 ه، ليشهد الصراع التاريخي بين المسلمين والصليبيين فصلاً جديداً من المواجهات لا يقل روعة عن مشاهد الناصر صلاح الدين وإنجازاته الكبرى.
فائدة الخطيب: سنة الاستبدال من سنن الله الجارية في الكون والخلق، تعمل باستمرار وعلى الدوام دون توقف أو محاباة أو تبديل أو تحويل، فالأيوبيون قاموا بجهود رائعة في جهاد الصليبيين وحقق أروع انتصار بتحرير بيت المقدس، ولكن لما مالوا إلى الدنيا وتنافسوها وغرتهم الكراسي واختلفوا فيما بينهم وصار بأسهم بينهم شديد، جرت عليهم السنن، وقيض الله عز وجل للأمة من يحمل همها ويدافع عن بيضها وحياضها، فكان المماليك الذين هم في الأصل عبيد وأرقاء عند الأيوبيين، ولكن الله عز وجل يصنع لدينه وأمته من حيث لا يحتسب الخلق.
بيبرس وترتيب الدولة
كان على بيبرس مواجهة العديد من المواقف الصعبة في بداية عهده، فواجهها بكل حسم وثبات، وأبدى مهارة فائقة وبراعة في المزواجة بين العفو والشدة، وقام بتنظيم شؤون دولته، وسعى لإيجاد سند شرعي تحكم دولة المماليك باسمه، فأحيا الخلافة العباسية في القاهرة، واستقدم أحد الناجين من أسرة العباسيين بعد مذبحة هولاكو في بغداد، ويدعى "أبا العباس أحمد"، وعقد مجلساً في القلعة في 8 محرم سنة 661ه حضره قاضي القضاة وكبار العلماء والأمراء، وقرأ نسب الخليفة على الحاضرين بعدما ثبت عند القاضي، ولُقِّب الخليفة بالحاكم بأمر الله، وقام بيبرس بمبايعته على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، ولما تمت البيعة أقبل الخليفة على بيبرس وقلده أمور البلاد والعباد، فصار الخليفة منصباً شرفيا والسلطة الفعلية بين السلطان بيبرس.
ونظراً للخلفية العسكرية لبيبرس فقد جعل جلّ همه في تقوية الجيش المملوكي استعداداً لخوض صراع طويل المدى مع خصوم الأمة من الصليبيين والتتار، فسعى "بيبرس" إلى تجديد الجيش وإمداده بما يحتاج من السلاح والعتاد، وأولى عناية بالأسطول ودور صناعة السفن المصرية في الفسطاط والإسكندرية ودمياط. وعمل على تحصين مناطق الحدود، وتنظيم وسائل الاتصال ونقل المعلومات من خلال نظام البريد، وتوسع في بناء المنائر لتكون بمثابة نقاط مراقبة متقدمة للحذر من تحركات العدو وهجماته المباغتة.
الاستعداد لتحرير أنطاكية
كان "بيبرس" يرى في الصليبيين عداوة أشد خطراً وأبعداً أثراً من عداوة التتار، فرغم وحشية التتار ومذابحهم التي فاقت مذابح الصليبيين كماً وكيفاً، إلا إن بيبرس كان يرى في الصليبيين عدواً تاريخياً عدواته لا تنتهي، في حين أن التتار كان جهلة برابرة غير متحضرين وأن دخولهم الإسلام مسألة وقت، خاصة بعد دخول القبيلة الذهبية -أحد فروع التتار -الإسلام بعد إسلام قائدهم السلطان العظيم بركة خان حفيد جنكيز خان.
ومما زاد من عزم بيبرس في البدء بالصليبيين وكسر شوكتهم، ما حدث منهم منذ ظهور التتار كعدو شرس في المنطقة. فبعد خروج لويس التاسع من الأسر لم يرجع إلى بلاده فرنسا، بل قضى أربع سنوات في الشام يحاول جاهدًا تصفية الخلافات بين أمراء الصليبيين، والمحافظة على كياناتهم، وتنظيم الدفاع عن إماراتهم الصليبية، فعني بتحصين عكا وحيفا وقيسارية ويافا، وعمل على إعادة الصلح بين إمارة إنطاكية وأرمينية وسعى لإقامة حلف مع التتار، غير أن مسعاه لم يكلل بالنجاح، ثم غادر عكا عائدًا إلى بلاده، ولكن بعد أن فتح الباب لفكرة التحالف بين التتار والصليبيين.
أصبح التحالف بينهم حقيقة واقعة عندما تحالف ملك الأرمن "هيثوم" الأول وأمير أنطاكية بوهيمند السادس -وكان زوج ابنته - مع التتار، واشتركا معهم في الهجوم على عواصم الإسلام ؛ بغداد سنة 656 وحلب سنة 658 ه ودمشق سنة 658 ه.
فائدة الخطيب: كراهية الإسلام هي الرابط الجامع لكل أعداء الأمة على اختلاف الملل والرايات والتوجهات، فتجد الصليبي يتحالف مع اليهودي والمجوسي والهندوسي والوثني والملحد على بينهم من عداوة وبغضاء من أجل الكيد للإسلام وإبادة أهله، وصدق المولى في محكم التنزيل (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).
وبدأت عمليات بيبرس العسكرية ضد الصليبيين في سنة 663هـ؛ فهاجم أولاً "قيسارية" لتأديب ملك الأرمن الغادر على جرائمه بحق المسلمين وفتحها عنوة في 8 من جمادى الأولى من العام نفسه، ثم عرج إلى أرسوف، ففتحها في شهر رجب من السنة نفسها. وفي السنة التالية استكمل "بيبرس" ما بدأ، ففتح قلعة "صفد"، وكانت معقلاً من معاقل الصليبيين، وخاصة بفرسان المعبد أو الداوية، وكانوا من أشد الخلق كراهية ومحاربة للمسلمين، فأمر بإعدام حامية القلعة فضربت أعناقهم في نفس المكان الذي كانوا يضربون فيه أعناق الأسرى المسلمين، وكان "بيبرس" يقود جيشه بنفسه، ويقوم ببعض الأعمال مع الجنود إثارة لحميتهم فيجر معهم الأخشاب مع البقر لبناء المجانيق اللازمة للحصار، ليعطي الأسوة الحسنة لجنوده في البذل والجهاد.
استغل بيبرس صدمة الرعب التي أصابت الصليبيين مما فعله مع فرسان الداوية وكانوا من أشرس الصليبيين في القتال، فإذا بهم كالنعاج المستسلمة للذبح على يد المسلمين، فحاولت باقي الامارات الصليبية عقد مصالحات مع بيبرس يتعهدون فيها بدفع الجزية، وكانت سياسة بيبرس تجاه الصليبيين في الشام تقع على الاستفادة من خلافاتهم الجانبية، فقبل بيبرس الصلح من بعضهم، ورفضها من البعض الآخر، وفي نيته أن يوقع الخلاف والشقاق بين الصليبيين، وقد ركز هجماته العسكرية على مستوطنات الصليبيين في الشمال والجنوب، وبعد سلسلة مناورات عسكرية ماهرة، فوجئ الصليبيين بجيوش بيبرس أمام إمارة أنطاكية تحاصرها من كل اتجاه.
تحرير أنطاكية
كان بيبرس قد استعد لهذه الموقعة الحاسمة خير استعداد، ومهد لسقوط الإمارة الصليبية بحملاته السابقة، حتى جعل من أنطاكية مدينة معزولة، مغلولة اليد، محرومة من كل مساعدة ممكنة، فخرج من مصر في 3 من جمادى الآخرة 666هـ/ 1268م ووصل إلى غزة، ومنها إلى "يافا" فاستسلمت له، ثم نجح في الاستيلاء على "شقيف أرنون" بعد حصار بدأه في 19 من رجب 666هـ/ 1268م، وبفتح يافا وشقيف لم يبق للصليبيين جنوبي عكا التي كانت بأيديهم سوى قلعة عتليت.
ثم رحل "بيبرس" إلى طرابلس وكانت في هذا الوقت تابعة لأنطاكية، فوصلها في 15 من شعبان 666هـ، فأغار عليها وقتل كثيرًا من حاميتها، وقطع أشجارها وغور مياهها، ففزعت الإمارات الصليبية، وتوافد على بيبرس أمراء أنطرسوس وحصن الأكراد طلبًا للأمن والسلام، وبهذا مهّد الطريق للتقدم نحو أنطاكية.
استعمل "بيبرس" الحيطة والحذر في تحركاته حتى يخفي وجهته على جواسيس الصليبيين وكانوا منتشرين في الشام ينقلون أخبار المسلمين؛ فقد رحل "بيبرس" من طرابلس في 24 من شعبان 666هـ دون أن يطّلع أحدًا من قادته على وجهته، واتجه إلى حمص، ومنها إلى حماة، وهناك قسّم جيشه ثلاثة أقسام؛ حتى لا يتمكن الصليبيون من معرفة اتجاهه وهدفه؛ فاتجهت إحدى الفرق الثلاث إلى ميناء السويدية لتقطع الصلة بين أنطاكية والبحر، وتوجهت الفرقة الثانية إلى الشمال لسد الممرات بين قلقلية والشام لمنع وصول إمدادات من أرمينية الصغرى، أما القوة الرئيسية وكانت بقيادة "بيبرس" فاتجهت إلى أنطاكية مباشرة، وضرب حولها حصارًا محكمًا في أول رمضان سنة 666هـ.
وكان "بوهيموند" السادس ملك أنطاكية الصليبي وقتها موجودا في طرابلس، وتولى حماية المدينة نائبه "سيمون مانسل"،فخرج مانسل بجيشه لمحاربة "بيبرس" لكنه وقع في الأسر، ثم هاجم "بيبرس" المدينة لاختبار مناعتها والتعرف على نقاط ضعفها، بعدها قرر استخدام الهجوم الشامل من كل المحاور مع التركيز على نقاط بعينها من سور المدينة الحصين بغية نقبها والدخول منها.
وفي يوم السبت عصراً الموافق 4 رمضان سنة 666 ه الموافق 18 مايو 1268 م كانت أنطاكية على موعد للعودة لحظيرة الإسلام بعد 174 سنة من الاحتلال الصليبي، عندما دخلت قوات "بيبرس" المدينة بعد أن نقبوا أسوارها، وقامت معركة كبيرة حيث أمر بيبرس بقفل أبواب المدينة حتى يمنع خروج أي شخص من المدينة، ليفعل في المدينة مثلما فعله الصليبيون عندما احتلوها أول مرة، ولكن الآلاف استطاعوا اللجوء إلى قلعة المدينة الموجودة بأعلى الجبل، فبعثوا يطلبون الأمان فأمنوا، وصعد السلطان إليهم ومعه الحبال، واستطاع أسر أعداد ضخمة منهم، وفرقهم على الأمراء.
أمر السلطان بجمع الغنائم لتقسم؛ فأحضر الناس الأموال والمصاغ والذهب والفضة حتى صارت تلا، وقسمت بين الناس وطال الوزن فقسمت النقود بالطاسات، وقسمت الغلمان على الناس، فلم يبق غلام إلا وله مال، وتقاسم النساء والبنات والأطفال. وأبيع الصغير باثني عشر درهما والجارية بخمسة دراهم. وأقام السلطان يومين وهو يباشر القسمة بنفسه، فما ترك شيئا حتى قسمه. ثم ركب السلطان إلى القلعة فأحرقها، وعم بالحريق أنطاكية، فأخذ الناس من حديد أبوابها ورصاص كنائسها مالا يوصف كثرة، وأقيمت الأسواق خارج المدينة، وقدم التجار إليها من كل جانب.
وهكذا سقطت المدينة الحصينة في أربعة أيام فقط، في حين ظل الصليبيون من قبل حاصروها قرابة العام حتى احتلوها، ولم يحتلوها إلا بالخيانة كما أسلفنا، وهذا هو الفارق بين جند الإسلام وغيرهم.
كان سقوط إنطاكية أعظم فتح حققه المسلمون على الصليبيين بعد استرداد صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس، وفي الوقت نفسه كان كارثة كبرى ألمت بالصليبيين وزلزلت كيانهم، فقد كانت أنطاكية إحدى المدن المقدسة عندهم -ومازالت - ومن طرائف الفتح أن "بوهيمند" السادس أمير إنطاكية لم يعلم ما حدث لها؛ إذ كان في طرابلس جنوبي إنطاكية، فتكفل بيبرس بإخباره بهذه الكارثة في رسالة تفيض سخرية لاذعة بعثها إليه من إنشاء الكاتب البليغ "ابن عبد الظاهر" صاحب كتاب "الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر"، ومما جاء فيها:
وكتابنا هذا يتضمن البشر لك بما وهبك الله من السلامة وطول العمر بكونك لم تكن لك في هذه المدة بإنطاكية إقامة، فلو كنت بها كنت إما قتيلاً وإما أسيرًا، وإما جريحًا وإما كسيرًا، وسلامة النفس هي التي يفرح بها الحى إذا شاهد الأموات، ولعل الله ما أخرك إلا لأن تستدرك من الطاعة والخدمة ما فات، ومالم يسلم أحد يخبرك بما جرى خبرناك، ولما لم يقدر أحد يباشرك بالبشرى بسلامة نفسك، وهلاك ما سواها باشرناك بهذه المفاوضة وبشرناك، لتحقق الأمر على ما جرى، وبعد هذه المكاتبة الا ينبغي لك أن تكذب لنا خبراً، كما أن بعد هذه المخاطبة يجب أن لا تسأل غيرها مخبراً .
وبينما كان "بيبرس" في إنطاكية وصل إليه رسل الملك هيثوم الأرميني يعرضون عليه اتفاق بمقتضاه يعيدون ما أخذوه من المدن الإسلامية في أثناء الغزو المغولي للشام، مثل بهنسا، ومرزبان، ورعبان، كما ترك فرسان الداوية "حصن بغراس"، وبذلك عاد شمال الشام إلى حوزة المسلمين.
"بيبرس" بهذا الانتصار العظيم أثبت جدارته واستحقاقه لقيادة المنطقة في هذا الظرف السياسي الدقيق، فقد كان تحرير أنطاكية إيذاناً بحركة جهاد كبرى ستنتهي تماماً وللأبد الوجود الصليبي في الشام بعد ذلك بربع قرن تقريباً عندما استطاع "الأشرف بن قلاوون" تحرير طرابلس سنة 691 ه.
أما الصليبيون؛ فقد عمهم الفزع نزلت عليهم كارثة ذكرتهم بضياع بيت المقدس من قبل، وكان سقوط أنطاكية النهاية الفعلية للحملات الصليبية على الشام؛ فقد كان النصارى في أوروبا يتشاءمون من سنة 666 ه لأنها ترمز عندهم -وفق عقيدة المحرفة- لرمز الشيطان، ويعتقدون أنها سنة خروج الوحش؛ فلما وقعت الهزيمة عليهم في أنطاكية زاد يقينهم وعزمهم على التخلي تماماً عن فكرة الحروب الصليبية لأن الرب غير راض عنها!
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم