تجربة الشيخ محمد حسين يعقوب الخطابية (2)

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2023-09-10 - 1445/02/25
التصنيفات: تجارب

اقتباس

فشيخنا من "أطباء القلوب"، يشخص أمراضها ثم يصف لها العلاج، تجده يبدأ كلامه بقوله: "كيف حال قلوبكم مع الله؟"، يهتم بترقيقها وبعافيتها، وانظر إلى "شرح مدارج السالكين" لفضيلته، وكذلك شرحه لـ"مختصر منهاج القاصدين"...

تستحي الأنامل إذا ما جاءت تكتب عن هذا الجبل الأشم والشيخ الوقور؛ فهو هيبة في تواضع، وشدة في رحمة، وصوت ضخم عظيم صادر من قلب رقيق حليم، وانفعال جارف هادر يفتعل في صدر مهموم أسيف...

 

وإننا كعادتنا حين نتناول أحد أعلام الخطباء نقسِّم الحديث إلى قسمين؛ الأول للمميزات، والثاني للمآخذ، وقد كان من المميزات الذي ذكرناها في الجزء الأول من هذا المقال:

أولًا: بهاء الطلعة، وحسن السمت.

ثانيًا: فخامة الأداء، وضخامة الصوت، وبراعة الإلقاء.

ثالثًا: إتقان وسائل لفت انتباه الجمهور... والآن موعدنا مع تمامها.

  

رابعًا: حسن الابتداء وبراعة الاستهلال:

فكثيرًا ما يبدأ شيخنا خطبه بإشعار جمهوره بحبه لهم؛ وذلك لتنفتح له قلوبهم ويحسنوا استقبال ما يقول، فتسمعه في مستهل خطبة: "الإسلام الجميل"([1]) وفي غيرها يقول: "والذي برأ النسمة وفلق الحبة إني أحبكم في الله".

 

ويبدأ العديد من خطبه كذلك بالدعاء، وما أحلى توجيه قلوب السامعين إلى ربهم بدعوات تجهز قلوبهم لقبول الهدى والنور، وهذا في خطب شيخنا كثير معلوم. 

 

ومن حسن استهلال شيخنا لخطبه: البدء بسؤال: فتراه يستفتح خطبة: "كيف تريد أن تموت؟"([2])، بسؤال غريب غير معهود، ليبعث الجمهور على التركيز قائلًا: "أحبتي في الله: مَن منكم يشتهي أن يموت الآن؟! من يشتهي، يتمنى بصدق أن يموت الآن؟!".

 

أما هذه المرة فهو يبدأ خطبته لا بسؤال؛ ولكن بالتشويق إلى سؤال، ففي خطبة: "السعادة بالرضا"([3])، يقول فضيلته: "إخوتي في الله إني سائل كل منكم سؤالا واضحًا محددًا صريحًا يحتاج إلى إجابة قاطعة، فهيئ نفسك لتلقي السؤال، وهيئ نفسك للرد وللإجابة، وليست الإجابة مطلوبة لي ولا لغيري، وإنما الإجابة اختص بها نفسك، ولكن اعلمها جيدًا واعرفها جيدًا وافْقَها جيدًا، وتحرى إجابة صادقة، فاللهم ارزقنا لحظة صدق معك يا رب، السؤال: هل أنت سعيد في حياتك"... فأخذ يشوق للسؤال، ويمهد لتلقيه ويلفت الانتباه له، حتى إذا طرحه كان الجميع قد تتطلع واستعد له.

 

فلتحرص -أخي الخطيب- على حسن الابتداء وبراعة الاستهلال؛ فإنها سر البلاغة والفصاحة، يقول أهل البيان: "من البلاغة حسن الابتداء، ويسمى براعة المطلع، وهو: أن يتألق المتكلم في أول كلامه، ويأتي بأعذب الألفاظ، وأجزلها وأرقها وأسلسها وأحسنها، نظمًا وسبكًا، وأصحها مبني، وأوضحها معنى، وأخلاها من الحشو والركة والتعقيد والتقديم والتأخير الملبس والذي لا يناسب"([4])، وقد قيل: "أحسن الابتداءات ما ناسب المقصود"([5]).

 

خامسًا: العناية بالشباب:

إنك لو نظرت حتى في عناوين خطب فضيلته، لاتضح لك قدر اهتمامه بالشباب وقضياهم وهمومهم ومشكلاتهم... فمن عناوين خطبه ودروسه: "هموم الشباب"، و"الجد يا شباب"، و"نداء إلى الشباب"، و"ماذا يريد الشباب"، و"الشباب والتربية"، و"صناعة الشباب"، و"الشباب والزواج"، و"سر الشباب"، و"مشاكل الشباب"، وغيرها... فحق لنا أن نسميه: "خطيب الشباب".

 

وهذا الاهتمام بالشباب اهتمام مبرر؛ فإنهم عماد نهضة الأمة، وأملها، وإنما قامت دعوة الإسلام إلا على أكتاف شباب الصحابة... وفترة الشباب -معاشر الزملاء- هي سن النبوغ والعطاء، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما بعث الله -عز وجل- نبيًا إلا وهو شاب، ولا أوتي عالم علمًا إلا وهو شاب"([6]).

 

وفي نفس الوقت فإن الشباب هم أكثر فئات المجتمع قضايا واحتياجات ومشاكل وأزمات، وهم الأكثر عرضة للانحراف والميل والزيغ... لذلك فالالتفات والاهتمام بهم أولى وأجدر.

 

سادسًا: سبره أغوار النفس البشرية، وملامسته للقلوب:

فشيخنا من "أطباء القلوب"، يشخص أمراضها ثم يصف لها العلاج، تجده يبدأ كلامه بقوله: "كيف حال قلوبكم مع الله؟"، يهتم بترقيقها وبعافيتها، وانظر إلى "شرح مدارج السالكين" لفضيلته، وكذلك شرحه لـ"مختصر منهاج القاصدين"، وتأمل في "سلسلة قصة القلوب"، وهي مكونة من تسعة وعشرين درسًا متوسط مدة الدرس الواحد ساعة كاملة، ومن حلقاتها: "القلب الآثم"، و"معاصي القلوب"، و"زوغان القلوب"، و"شتات القلوب"، و"غرق القلوب"، و"قلوب الغشاشين"...

 

ولا عجب في هذا الاهتمام الكبير من شيخنا بالقلب وأدوائه ولا غرابة؛ فإن صلاح الإنسان وفساده من قلبه، هكذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"([7]).

 

فابدأ -أيها اللبيب- بإصلاح القلوب؛ بزرع العقيدة النقية، وبمداواتها من أمراضها، ثم اغرس فيها ما تريد من الفضائل تستقم لك.

 

سابعًا: إحياء معانٍ كادت أن تموت، وتبسيطها:

فشيخنا مبدع في إحياء المعاني الدارسة، فتجده في دروسه يذكر المعنى الغريب على أهل زماننا ثم يبسطه حتى يستوعبوه، وأكثر ما تلاحظ ذلك في شرحه لكتب الفضلاء التي أشرنا إلى بعضها، خاصة "شرح مدارج السالكين" لابن القيم، واستمع إليه في الحلقة رقم: (407) منه بعنوان: "التدرج في طريق السير إلى الله"([8])، وهو يشرح معنى التدرج، ويبين أنه لا تدرج في ترك الحرام ولا في أداء الفرائض، وإنما هو في النوافل... 

 

وأحيا الشيخ -عمليًا- معنى الوفاء؛ وذلك حين تكلم في خطبته: "الأستاذ"([9]) عن الشيخ عبدالحميد كشك -رحمه الله-، فأخذ يثني عليه، ويدعوه بالأستاذ وأستاذ الأساتذة... وهو من خلال ذلك يوضح صفات الداعية الحق، ويوجه من خلاله رسالة تمس الواقع ساعتها.

 

وفي نفس الخطبة([10]) تراه يحي معنى التواضع الحق، وهو يقول: "إنني وأنا أقف على منبر الأستاذ أرى نفسي قزمًا صغيرًا إلى جانب هذا العملاق -عليه رحمة الله-، ولكن لنا فيه أسوة ونتخذ منه قدوة، ونرى كيف كان هذا الرجل؛ لنسلك سبيله، ونتبع طريقه، لعلنا أن نرزق حسن خاتمة كما رزق، نحسبه كذلك والله حسيبه".

 

وإني -والله- لو تتبعت جميع مميزات شيخنا الخطابية لما اتسع بي المقام، ولعل فيما ذكرنا تنبيها على ما أغفلنا.

 

القسم الثاني: المآخذ والاستدراكات:

أولًا: استخدام بعض الألفاظ التي غيرها أفضل منها:

ككلمة: "نسوان"، فشيخنا مصري، وهذه الكلمة مستهجنة عند المصريين، وبرأيي أن الأولى استعمال غيرها، فإنه لا يقولها في مصر -حسب علمي- إلا العوام، ولو كان نطق شيخنا بها في سياق تحدثه بالفصحى لكان الأمر هينًا -مع أن القرآن استخدم لفظة "نسوة" وليس "نسوان"- ولكنه يقولها عند تكلمه بالعامية المصرية، وغيرها أفضل منها ككلمة: "نساء" و "سيدات" وغيرهما.

 

فتسمع شيخنا يقول في أحد دروسه: "بتبيع دينك عشان إيه؟ عشان نسوان، إوعى تفكر النسوان اللي في الدنيا دول نسوان.. دول فالصو"([11]).

 

وفي محاضرة بعنوان: "رؤية الله في الجنة"، وفي الدقيقة: (49:02) منها يقول فضيلته: "مش حريص على رضاهم نزعلهم، أنت مفكر اللي عندنا دول نسوان، لا يا بني النساء هناك في الجنة... مش دا الأكل، ولا دا الشرب، ولا دا اللبس، ولا دول النسوان..."([12]).

 

ثانيًا: قطع الموضوع بكلمات تُخرج السامع عن متابعته:

وأشهد أني ما رأيت ذلك من شيخنا إلا مرة واحدة، ففي خطبة فضيلته بعنوان: "فالصو"، يقول في الدقيقة: (20:40): "أيها الإخوة: إننا نرى في هذا الزمان، حتى -ومعذرة سامحوني أن أقول-: في معشر إخواننا الملتزمين -لِم رجليك يالا- في معشر إخواننا الملتزمين؛ أصحاب اللحى هَمُّ الدنيا طاغ".

 

فإن قول فضيلته: "لم رجليك يالا" هي كلمات بالعامية المصرية، وتعني: "ضم رجليك يا غلام"، وهي كلمات جاءت مقحمة بين كلمات الخطبة، ولا علاقة لها بها، بل كأن شيخنا قد رأى غلامًا قد مدَّ رجليه أثناء الخطبة، فساءه ذلك فأمره بضمها.

 

ولا نظن في شيخنا إلا أن له في هذه الكلمات غرضًا ساميًا معتبرًا، كأن يكون غلام قد مدَّ رجله في حضرة أشياخ، فأمره بضمها تأدبًا، أو غير ذلك من أغراض صالحة، لكننا كنا ننتظر من شيخنا -أطال الله عمره ونفع به- ألا يقطع استرسال السامعين والمتابعين في الموضوع الهام الذي كان يتحدث فيه.

 

ولا ننكر أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- قد قطع خطبته ونزل من منبره لحمل سبطيه، ثم قال: "نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما"([13])، ولكن هذا ليس قطعًا للخطبة فقط، لكنه قطعها بما شيء أدنى -في نظري-؛ فإن لفظ: "يالا" بالعامية المصرية، ومعناه: "يا ولد"، وهو من الألفاظ التي ينبغي لشيخنا ألا يستعملها.

 

ثالثًا: القسوة على النساء أحيانًا:

وأنا لم ألاحظ هذا على شيخنا الكريم؛ ربما لأنني رجل، لكن نقله إليَّ بعض النساء، بل كثير من النساء اتفقوا عليه قائلين: "إننا نغضب من شيخنا إذا ما قسى في عيب النساء بأنهن "فالصو" كما عبر عنهن في عدة مواضع، وحين يعيبهن بما كتبه الله عليهن من حيض ونفاس وتبول وتغوط..."، فأجبت بعضهن فقلت: بل الله -تعالى- قد أشار إلى ذلك حين قال: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ)[البقرة: 25]، فأجبنني: "شتان ما بين تعبير القرآن الكريم الذي يشير برفق ومن بعيد، وبين هذا التعبير من الشيخ الكريم، ثم أليس قد ابتُلي الرجال ببعض ما ابتُلينا به من بول وغائط وبصاق، فلما لا يعيبهم به؟!".

 

فقلت: إنما يقصد شيخنا تزهيد الشباب في الكاسيات العاريات اللاتي يفسدن قلب من تقع عينه عليهن، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"([14])... فأجبنني: "حتى وإن كانت هذه نيته، فإن فضيلته إذا تكلم عمَّم، ويكرره في مواضع كثيرة، وفي أغلبها لا يكون المقام مقام تحذير من الفاسقات، وإن أغلب من يستمع إلى فضيلته من النساء هن من الصالحات، فما ذنبهن أن يُعَبْن بما فطرهن الله عليه!"...

 

والآن، ومع اعترافي بالتقصير في ذكر محاسن شيخنا الخطابية لعدم استطاعتي الإحاطة بها، فإنني أقر كذلك أنني لم أجد من المؤاخذات غير ما ذكرتُ، ولعلي أكون في بعضها أو كلها متجنيًا أو متحاملًا... فاللهَ أسأل أن يغفر لي... وأن ينفع بشيخنا، وأن يطيل عمره ويحسن عمله، وأن يجعله ذخرًا للإسلام وللمسلمين.

 

 

([1]) هذا رابط الخطبة: https://www.youtube.com/watch?v=2cPUAnl9l7c

([2]) هذا رابط الخطبة: https://www.youtube.com/watch?v=_NBf2cQwLPQ

([3]) هذا رابط الخطبة: https://www.youtube.com/watch?v=ueDoEupHlqQ

([4]) أنوار الربيع في أنواع البديع، لابن معصوم الحسني (حسن الابتداء وبراعة الاستهلال).

([5]) بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح، لعبد المتعال الصعيدي (4/708)، ط: مكتبة الآداب.

([6]) الطبراني في المعجم الأوسط (6421).

([7]) البخاري (52)، ومسلم (1599).

([8]) هذا رابط الحلقة: https://www.youtube.com/watch?v=FFwsuRadies

([9]) هذا رابط الخطبة: https://www.youtube.com/watch?v=13WW2dEsV7g&list=PLDJJY_Mbkad_1ai6JRdyPnc4catU9p2t3&index=15

([10]) في الدقيقة: (41:05).

([11]) هذا رابط المقطع: https://www.youtube.com/watch?v=wOr-inbLiVk

([12]) هذا رابط المحاضرة: https://www.youtube.com/watch?v=0GgFIY1FiRc

([13]) رواه الترمذي (3774)، وأبو داود (1109)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن الترمذي).

([14]) البخاري (5096)، ومسلم (2741).

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات