تجربة الشيخ عبد الحميد كشك الخطابية (2)

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2023-10-07 - 1445/03/22
التصنيفات: تجارب

اقتباس

وإنني أظن سبب هذا الحماس والثقة في الأداء بعد الإخلاص لله -والذي نحسب شيخنا عبد الحميد كشك يمتلكه- هو اقتناعه بالموضوع وتفاعله معه، نعم -أخي الخطيب- كلما كنت مقتنعًا بموضوعك متفاعلًا معه، كلما كان كلامك أكثر تأثيرًا في مخاطبيك؛ فإنما يؤثر المتأثر...

إنني أقولها بكامل الاقتناع: إن شيخنا عبد الحميد كشك هو "أستاذ خطباء هذا العصر الحديث"؛ وما أعلم من خطيب يعتلي المنابر اليوم إلا وقد سمع للشيخ وسمع به، واستفاد من أسلوبه، وتمنى أن لو أوتي من الملكات الخطابية والمواهب الربانية كما أوتي خطيبنا، وإنك لتستشعر ذلك في شهادات خطبائنا الأفذاذ اليوم، ولولا ضيق المقام لأوردت ها هنا من شهاداتهم، وهي كثيرة، ومن بينهم الشيخ الجليل والخطيب المفوه محمد حسين يعقوب، فقد خطب خطبة على منبر الشيخ كشك في مسجد "عين الحياة" بالقاهرة بعنوان: "الأستاذ"، ومن كان الأستاذ الذي يقصد؟ إنه الأستاذ عبد الحميد كشك، وكان مما قال فيها:

"إخوتي: إن الإنسان وهو يقف هذا الموقف ويتذكر هذا الإنسان العظيم -رحمه الله رحمة واسعة-، الداعية الكبير، الأستاذ الملهم، كيف كان صاحب فضل على هذه الدعوة في مصر، بل في أنحاء العالم، إنني على حدود علمي أن أول من سُجلت له خطبة هو الشيخ كشك، أول من أذيعت ووُزعت له خطبه ليسمعها الناس بعيدًا عن مسجده هو هذا الشيخ الكريم... أخوتي: تعالوا لنلتمس من حياة الأستاذ، الشيخ الكبير، الإمام القدوة، العالم الجهبذ، العلامة البطل، القوي الأمين؛ سماحة الشيخ عبد الحميد كشك -عليه رحمة الله- صفات الداعية الموفق..."([1])، ثم انطلق يعدد مميزات الشيخ وفضائله.

 

ولقد كانت لنا في الجزء الأول من هذه التجربة الخطابية وقفات مع صولات هذا الشيخ الجليل عبد الحميد كشك وجولاته، وأبرزنا ساعتها ثلاثة من مميزاته الخطابية، وهي:

أولًا: النفاذ إلى القلوب والعقول.

ثانيًا: مزج النصوص بالواقع.

ثالثًا: الصدع بالحق... وموعدنا اليوم مع باقة أخرى من مميزات الشيخ الخطابية.

 

رابعًا: الإلقاء القوي الواثق الحماسي:

فأي ثقة تلك التي يتكلم بها شيخنا! أي ثبات هذا الذي يخاطب به جمهوره! أي حماسة تلك التي يخوض بها في أعقد الموضوعات حتى من أول لحظات خطبته!... إنك وأنت تسمع إحدى خطب شيخنا لتظن من فرط ثقته وثباته وحماسته أنه ظل يُحضِّر خطبته تلك طوال شهور طوال، أو أنه قد كررها مئات المرات حتى اكتسب هذا الثبات!

 

وإنني أظن سبب هذا الحماس والثقة في الأداء بعد الإخلاص لله -والذي نحسب شيخنا يمتلكه- هو اقتناعه بالموضوع وتفاعله معه، نعم -أخي الخطيب- كلما كنت مقتنعًا بموضوعك متفاعلًا معه، كلما كان كلامك أكثر تأثيرًا في مخاطبيك؛ فإنما يؤثر المتأثر، نعم، لا يؤثر في الناس إلا المتأثر... وقد قالوا: "ما خرج من القلب وصل إلى القلب، وما خرج من اللسان لا يجاوز الآذان".

 

وكم من خطيب سمعناه يتكلم في فتور وأسلوب باهت متردد، يسرد كلمات خطبته من لسانه دون قلبه، فتخرج الكلمات ميتة هزيلة ضعيفة خالية من الروح، فربما تساقطت كلماته على الأرض قبل أن تصل إلى آذان الناس، وإن بلغت آذانهم بلغتها خائرة متزعزعة صريعة؛ فلا تصل قلبًا، ولا تُغَيِّر واقعًا، ولا تُهذِّب خُلقًا، ولا تُعلِّم طالباً!

 

وأدعوك إلى أن تستمع إلى شيخنا وهو يتكلم عن قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون، وإسقاطاتها على الواقع، وذلك من أولى لحظات خطبته: "محاكمة فرعون"([2])، ولن أنقل لك الكلمات؛ فليس شاهدنا -الذي نقصده هنا- كامنًا في مبانيها ولا حتى في معانيها، وإنما في طريقة إلقائها وفي الحماسة والثقة والرسوخ الذي يتقاطر مع ألفاظها، وهذا ما لا تستطيع أن تنقله لك الحروف المكتوبة.

 

خامسًا: الصوت الجهوري، والأسلوب الفخم:

وإنني لأشهد أنني ما سمعت خطيبًا مشهورًا أو غير مشهور إلا وكان منه -ولو نادرًا- انقطاع النفَس أو التلعثم أو التردد، ما خلا هذا الشيخ الوقور، فإنني مع استماعي له منذ سنوات لم أقف عليه ولو مرة واحدة وقد انقطع نفَسه أو تلعثم نطقه أو ضاع منه اللفظ فلم يدْرِ ما يقول... بل هو يتكلم في ثقة، في معان حاضرة، عميقة غير سطحية، وفي لغة جزلة رصينة، وألفاظ عذبة، ومخارج منضبطة، وتدفق واسترسال قَلَّ أن تراه عند غيره من الخطباء.

 

وإنني لأحار أي نموذج أنقل لكم من خطب فضيلته لأدلل على هذه المزية الخطابية التي يمتلكها فضيلته، لكن يكفي أن تستمع إلى أي جزء من أي خطبة من خطب الشيخ، بل حتى إلى مقدمات خطبه لتدرك تلك الموهبة التي يمتلكها.

 

سادسًا: كثرة الاستشهادات وتنوعها:

فهو حافظ متقن للقرآن الكريم، يستحضر من آياته ما يلائم المقام في تلقائية وسلاسة، بل ها هو شيخنا في إحدى خطبه يسرد أسماء سور القرآن كلها من "الفاتحة" إلى "الناس" في تلقائية وعفوية، لم يخطئ في ترتيب سورة ولم يتلعثم أو يتردد([3]).

 

وشيخنا يعلم كيف يُنزِل الأحاديث النبوية منازلها؛ فلا يستدل بحديث في غير موضعه، غزير الأشعار يحفظها عن ظهر قلب كأنما يقرؤها من كتاب ويرددها من يوم وُلد، ويورد القصص والـمُلح المحببة إلى النفوس...

 

وكثرة الأدلة والشواهد يُكْسِب الخطبة مصداقية وتأثيرًا وقوة، فإن الكلام يظل مرسلًا متأرجحًا بين الصواب والخطأ حتى تؤيده الأدلة والبراهين، وتزينه الأشعار والقصص، وتؤكده الأقوال المأثورة فتَثبُت أقدامه وتترسخ أركانه.

 

سابعًا: لا يضيع للخطابة فرصة، ويراعي كل مقام:

فتجده يخطب في كل محفل يجتمع فيه بشر لأي غرض، وفي كل مناسبة دينية كانت أو اجتماعية أو سياسية... ومن ذكاء الشيخ أنه كان يخطب في كل مقام بما يناسبه من فخامة أو تبسط، في لهجة مفهومة ومعان قريبة؛ فعلى المنبر هو الفارس الثائر القوي الهادر، وفي المناسبات السعيدة هو المتبسم الذي يلقي الفكاهة ويًعلِّم من خلالها، وفي الأحزان هو المواسي للخواطر المطبب للجراح...

 

وعلاوة على الخطبة المنبرية، فقد كان للشيخ دروس مسائية، ودروس في المناسبات الشرعية، وقد وقفتُ في أحد دروسه على قوله: "إخواني المسلمين نحن الآن مع الدرس الخامس والخمسين بعد المائة الخامسة من دروس المساء ما بين المغرب والعشاء، مع تفسير آيات من كتاب صاحب العظمة والكبرياء... وآيات الليلة من سورة هود..."([4])، فهذه (555) درسًا في التفسير وحده، وكان في سورة هود، أي في الجزء الثاني عشر من القرآن الكريم، ومن المعلوم أنه أتم تفسير القرآن كله، فكم عدد دروس التفسير وحده؟!

 

كذلك تلحظ تنوع موضوعاته في خطبه ودروسه، فلا تكاد تجد جانبًا من شريعة الله -عز وجل- إلا وقد طرق شيخنا بابه وأدلى فيه بدلوه.

 

ثامنًا: الحس الفكاهي حتى في أشد المواقف:

فمع أن الشيخ كان يُبكي سامعيه إذا ما تكلم عن المآسي والآلام والجراح والفواجع، فإنه كان أحيانًا يخلط تلك الآلام بالحس الفكاهي الذي ترى أنه مطبوع عليه لا متكلف فيه، فاستمع إلى فضيلته وهو يقص ما وقع بين الأمير أحمد بن طولون الذي أمر بإلقاء العالم أحمد بن بنان إلى أسد جائع، فيقول: "فجوَّعوا له أسدًا... كانوا يجوعون كلابًا لو رأيتها لوليت منها فرارًا، لو رأيتها لملئت منها رعبًا، كلابًا تأكل اللحوم الطازجة؛ تأكل لحوم الضأن والشعب لا يرى لقمة عيش، ولا يرى لحمًا" ثم يلقي فكاهته في هذا المقام المتأجج الملتهب فيقول: "كلاب تأكل اللحوم في السجون، والشعب إذا رأى جزارًا فنظر إلى لحمه وسال ريقه يقول للحم: السلام عليك، إلى اللقاء في دار الخلد إن شاء الله تعالى"([5]).

 

تاسعًا: استقلاليته وتفرد أسلوبه:

فشيخنا لا يقلد أحدًا، بل لقد حاول كثيرون أن يقلدوه فما استطاعوا مجاراته، فإن له مدرسته الخاصة وأسلوبه الفريد، ساعده على ذلك مواهب وهبها الجليل -عز وجل- إياها؛ من صوت ضخم وصدر رحيب ونفَس طويل، وتمكن من اللغة العربية وتطويع لمعانيها...

 

فلم يقع -مثلما وقع غيره- في مزلق التقليد الساذج؛ فقد ينبهر أحد من يمارسون الخطابة بخطيب مشهور معين، فيحاول تقليده في أسلوبه وصوته ووقفته وهيئته ومظهره، لكنه غالبًا ما يفشل؛ إما لأنه لا يمتلك نفس قدرات ومَلكات من يقلده، وإما لأن أسلوب المقلَّد لا يناسب جمهور المقلِّد، ولئن نجح في تقليده فما استفاد الناس شيئًا إلا أنه قد صار عندهم نسختان من الخطيب المشهور!

 

فيا أيها الخطيب اللبيب: استفد ولا تقلد؛ استفد من الخطباء المبرزين المفطورين، لكن كن نفسك، ولا تقلد فتكون مسخًا مشوهًا؛ فقدتَ نفسك وما أصبحت غيرك.

 

عاشرًا: حسن التصوير والتخيل:

الخطيب الموفق الناجح هو من يجيد نقل الناس من واقعهم الذي يحيونه إلى أجواء وأحاسيس وبيئة من يحدثهم عنه، ولقد كان الشيخ كشك من رواد ذلك، يقول في خطبته عن أيوب -عليه السلام-: "أيها الإخوة الأعزاء: كيف مس الشيطان نبي الله أيوب؟ -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-، أجيب على هذا السؤال مع الدرس الرابع والعشرين بعد المائتين، ولكي تكون الإجابة وافية شافية كاملة جامعة مانعة فإنني أطير بحضراتكم الآن إلى بيت نبي الله أيوب"، ثم ينتقل إلى خطاب نبي الله أيوب كأنه وجمهوره يقفون أمامه فيكلمه قائلًا: "السلام عليك يا نبي الله، نحن وفد من أمة محمد رسول الله، جئنا لزيارتك في بيتك لنعلم كيف مسك الشيطان بنصب وعذاب؟"([6])... فتشعر وكأنك في حضرته -عليه السلام-.

 

***

 

فهذه بعض مميزات شيخنا الخطابية، لا كلها، وأعلم أنني بخست الشيخ وما وفيته حقه، لكن تلك النتف التي نقلتها هي ما يناسب المقام، ولو فُتح المجال لكان مزيد بسط وتفصيل، ولقاؤنا -إن شاء الله- مع الجزء الثالث والأخير من هذه التجربة الخطابية الرائعة، والذي أوردنا فيه -على استحياء- عددًا من الملحوظات -ولا أقول العيوب- التي كنا نتمنى أن يتجنبها شيخنا، ولله وحده الكمال المطلق.

([1]) هذا رابط الخطبة، والشاهد في الدقيقة السادسة، والدقيقة الخامسة عشر منها:

https://www.youtube.com/watch?v=cxdQJCMVeuo
([2]) هذا رابط الخطبة:

https://www.youtube.com/watch?v=BI6vk8_SHRA
([3]) هذا رابط المقطع، والشاهد في الدقيقة الثالثة منه:

https://www.youtube.com/watch?v=an6Rzbd0xIs
([4]) هذا رابط المقطع، والشاهد في بداية الدقيقة الثانية منه:

https://www.youtube.com/watch?v=k1qC-M_mngg
([5]) هذا رابط المقطع، والشاهد في الدقيقة التاسعة منه:

https://www.youtube.com/watch?v=shrkRP094yk
([6]) هذا رابط الخطبة، والشاهد في الدقيقة الثالثة:

https://www.youtube.com/watch?v=FpZHnltukcQ

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات