تجارة العلماء

تركي بن عبدالله الميمان

2022-10-14 - 1444/03/18 2022-10-15 - 1444/03/19
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/مكانة النية 2/من عجائب النية الصالحة

اقتباس

وبِقَدْرِ الجِدِّ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ، وَمُحَاسَبَةِ النَّفْس تَحْضُرُ النِيَّةُ فِي القَلْبِ؛ حَتَّى تَصِيْرَ حَاضِرَةً في كُلِّ وَقْت، قالَ أَحَدُ السَّلَف: "أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي فِي كُلِّ شَيْءٍ نِيَّةٌ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

أَمَّا بَعْد: فأُوْصِيْكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ فِي السِّرِّ والعَلَن؛ فَإِنَّهُ يَرَاكُمْ، وَيَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَنَجْوَاكُمْ.

 

عِبَادَ الله: إِنَّهَا التّجَارَةُ الخَفِيَّة، مَعَ رَبِّ البَرِيَّة، وَهِيَ رُوْحُ الأَعْمَال، وَالْإِكْسِيْرُ العَجِيْبِ: الَّذِي إِذَا وُضِعَ عَلَى نُحَاسِ الْأَعْمَالِ؛ قَلَبَهَا ذَهَبًا خَالِصًا؛ إِنَّهَا النِيَّةُ الصَّالِحَةُ.

 

والأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ: قَالَ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: "تَعَلَّمُوا النِّيَّةَ؛ فَإِنَّهَا أَبْلَغُ مِنَ الْعَمَلِ!".

 

وَتِجَارَةُ النِيَّات: هِيَ تِجَارَةُ العُلَمَاء! فَهُمْ يَسْتَحْضِرُوْنَ نِيَّاتٍ كَثِيْرَة، فِي أَعْمَالٍ قَلِيْلَة؛ وَهَذَا لِعِلْمِهِمْ بِالله، وَاتِّبَاعِهِمْ لِرَسُوْلِ الله. قالَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه: "اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ، خَيْرٌ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ!".

 

وَتِجَارَةُ النِيَّات: تَجْمَعُ لَكَ الحَسَنَات، فِي أَقَلِّ الأَوْقَات! قالَ ابنُ القَيِّم: "عِمَارَةُ الْوَقْتِ: الِاشْتِغَالُ فِي جَمِيعِ آنَائِهِ بِمَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ، أَوْ يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ: مِنْ مَأْكَلٍ أَوْ مُشْرَبٍ، أَوْ مَنَامٍ أَوْ رَاحَةٍ؛ فَمَتَى أَخَذَهَا بِنِيَّةِ الْقُوَّةِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ؛ كَانَتْ مِنْ عِمَارَةِ الْوَقْتِ!".

 

وَ"رُبَّ عَمَلٍ صَغِيرٍ: تُعَظِّمُهُ النِّيَّةُ، وَرُبَّ عَمَلٍ كَبِيرٍ: تُصَغِّرُهُ النِّيَّةُ" (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء: 114]. قالَ ابْنُ رَجَب: "فَجَعَلَ ذَلِكَ خَيْرًا، وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ الْأَجْرَ إِلَّا مَعَ نِيَّةِ الْإِخْلَاصِ!".

 

وَمِنْ عَجَائِبِ النِّيَّةِ الصَّالِحَة: أَنَّهَا تَقْلِبُ العاداتِ إِلَى عِبَادَات؛ قالَ ابنُ القَيِّم: "خَاصَّةُ المُقَرَّبِين: انْقَلَبَت الْمُبَاحَاتُ فِي حَقِّهِمْ إلى طَاعَاتٍ بِالنِّيَّةِ؛ فَلَيْسَ في حَقِّهِمْ مُبَاحٌ، بَلْ كُلُّ أَعْمَالِهِمْ رَاجِحَةٌ!".

 

وَالنَّفَقَةُ الوَاجِبَةُ، تَتَحَوَّلُ إِلى تِجَارَةٍ رَابِحَة، بِالنِيَّةِ الصّالِحَة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَنْفَقَ المُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً"(رواه البخاري، ومسلم).

 

قالَ العُلَمَاء: "لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ أَنْفَقَهَا ذَاهِلًا! وَلَكِنْ يَدْخُلُ الْمُحْتَسِبُ؛ فَيُنْفِقُ بِنِيَّةِ أَدَاءِ مَا أُمِرَ بِهِ".

 

وَهَذِهِ النِيَّةُ يَغْفُلُ عَنْهَا الكَثِيْر! (وما يَعْقِلُهَا إلا الْعَالِمُون)[العنكبوت:43]! وَمِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَنْوِيَ فِي ذَهَابِهِ إِلَى الوَظِيْفَة: تَحْصِيْلَ الحَلَال، وَالإِنْفَاقَ عَلَى العِيَال. وَيَنْوِيَ في زِيَارَةِ الأَقَارِب: صِلَةَ الرَّحِم، والتَّعَاوُنَ عَلَى الخَيْر، وَيَنْوِي في الزَّوَاج: إِعْفَافَ نَفْسِهِ وأَهْلِه، وَتَحْصِيْلَ ذُرِّيَّةٍ تَدْعُوْ لَهُ بَعْدَ مَوْتِه!

 

والرَّاحَةُ إِذَا قُصِدَ بِهَا الإِعَانَةُ عَلَى الطَّاعَة؛ تَحَوَّلَتْ إِلَى عِبَادَة! قالَ مُعَاذٌ رضي الله عنه: "إِنِّي أَحْتَسِبُ نَوْمَتِي، كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي!"(رواه البخاري).

 

والعِبَادَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِالنِّيَّاتِ: في صِحَّتِهَا، وَفِي مضَاعَفَةِ أَجْرِهَا، وَقَدْ تَتَحَوَّلُ الطَّاعَةُ الوَاحِدَة، إِلَى طَاعَاتٍ مُتَعَدِّدَة، بِتَعَدُّدِ النِيّات! قال -صلى الله عليه وسلم-: "الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ: صَدَقَةٌ. وَالصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ، اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ"(رواه أحمد، وحسنه الألباني).

 

وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ لِصَلاةِ الفَجْر، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَنْوِي بِهِمَا: سُنَّةَ الفَجْر، وَسُنَّةَ الوُضُوْء، وَسُنَّةَ تَحِيَّةِ المَسْجِد؛ وَسُنَّةَ الصَّلَاةِ مَا بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْن؛ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ في رَكْعَتَيْنِ فَقَط! وَهَذَا "مِنْ نِعْمَةِ الله: أَنَّ العَمَلَ الوَاحِد: يَقُوْمُ مَقَامَ أَعْمَال!".

 

وَمِنْ بَرَكَةِ النِيَّةِ الصَّادِقَة: أَنَّهَا تَجْلِبُ لَكَ الحَسَنَاتِ بِلَا عَمَل! فَإِذَا هَمَّ العَبْدُ بِالخَيْر، ثُمَّ حِيْلَ عَنْه: كُتِبَتْ حَسَنَةٌ كَامِلَة! قالَ -صلى الله عليه وسلم- -فِي إِحْدَى الغَزَوَات-: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ-أَيْ في نِيَّاتِهِمْ-، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ"(رواه مسلم). و"مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّيَ مِنَ اللَّيْلِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ حَتَّى يُصْبِحَ؛ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ!"(رواه النسائي، وصححه الألباني).

 

وَمِنْ عَجَائِبِ النِّيَّةِ الصَّادِقَة: أَنَّهَا تَرْفَعُ صَاحِبَهَا؛ حَتَّى تَصِلَ بِهِ إلى مَصَافِّ الشُهَدَاء؛ فَفِي الحَدِيث: "مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ!"(رواه مسلم). قالَ النَّوَوِي: "فِيهِ: اِسْتِحْبَابُ سُؤَالِ الشَّهَادَة، وَاسْتِحْبَابُ نِيَّةِ الْخَيْر".

 

والنِيَّةُ الصَّادِقَةُ؛ لَهَا أَثَرٌ في حصول المَال، بمَا لَا يَخْطُرُ على البَال، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا؛ أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ"(رواه البخاري). قالَ العُلَمَاء: "فِيهِ التَّرْغِيبُ فِي تَحْسِينِ النِّيَّةِ، وَأَنَّ مَنْ اسْتَدَانَ نَاوِيًا الْإِيفَاءَ: أَعَانَهُ الله".

 

وَمُرَاقَبَةُ النِيَّة، تَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ وَمُلَازَمَة؛ فَيُلَازِمُ الصَّبْرَ على اسْتِصْحَابِ النِّيَّة، حَتَّى لا يَفُوْتَهُ الأَجْر، قالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِي: "ما عَالَجْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عليَّ مِنْ نِيَّتِي؛ لأنَّها تَتَقَلَّبُ عَلَيَّ!".

 

وبِقَدْرِ الجِدِّ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ، وَمُحَاسَبَةِ النَّفْس تَحْضُرُ النِيَّةُ فِي القَلْبِ؛ حَتَّى تَصِيْرَ حَاضِرَةً في كُلِّ وَقْت، قالَ أَحَدُ السَّلَف: "أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي فِي كُلِّ شَيْءٍ نِيَّةٌ، حَتَّى فِي طَعَامِي وَشَرَابِي!".

 

أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.

 

عِبَادَ الله: المُسْلِمُ الفَطِنُ، يَغْتَنِمُ هَذِهِ الحَيَاةَ القَصِيْرَة، بِجَمْعِ الحَسَنَات، بِالنِيَّاتِ الصَّالِحَات! واسْتِحْضَارِ النِيَّةِ للهِ، في جَمِيْعِ شُؤُوْنِ الحَيَاة! (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام:162-163].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.

 

اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا.

 

عِبَادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90].

 

فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].

 

المرفقات

تجارة العلماء.pdf

تجارة العلماء.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات