تاريخ الجماعات الخفية (1) يهود المارانو

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: تفسير التاريخ

اقتباس

هكذا استطاع يهود المارانو التغلغل في المجتمعات الأوروبية والغربية والتنقل عبر دولها وأمريكا الشمالية والوصول إلى مواقع كبرى وحساسة سياسياً واقتصادياً وتجارياً وثقافياً وفكرياً ودينياً أيضا، في هذه الدول عبر عمل دؤوب ومستمر وهادئ خلال...

من أبرز التساؤلات التي تثور في عقول كثير من أبناء المسلمين في هذه الأيام : كيف استطاع اليهود وهم قلة قليلة -أقل من 20 مليون نسمة- أن يسيطروا على العالم سياسياً واقتصادياً، ويحاصروا أمة الإسلام وهي أكثر من مليار ونصف مليار؟!

 

والحقيقة إن دراسة الظاهرة اليهودية تحتاج للتخلي عن كثير من الاختزال والتسطيح الذي عليه التفكير لدى قطاع كبير من أبناء المسلمين؛ فإن العقل الإنساني إذا لم يجد تفسيراً مقبولاً لظاهرة ما -مثل سيطرة الأقلية اليهودية على العالم -، فإنه يميل إلى اختزالها وتسطيحها أو ردها لجهات ومصادر مجهولة، وبالتالي فإن الحديث عن إن اليهود المتحكمين في العالم هم فقط العشرين مليون المعلنون بصورة رسمية هو ضرب من الخيال؛ فهناك العديد من الجماعات اليهودية التي تعمل في الخفاء بعد أن غيرت جلدها، وتظاهرت بالانتماء إلى الإسلام أو المسيحية منذ قرون، ومازالت حتى الآن تعمل لصالح أفكارها ومعتقداتها، ونحن في هذه السلسلة التاريخية سنلقى الضوء على بعضٍ من أهم هذه الجماعات اليهودية المتخفية والمندسة في بلاد العالم.

 

مدخل تأسيسي

اليهود الظاهرون أو الصريحون في العالم المعاصر مقسمون إلى ثلاثة طوائف كبرى -حسب تقسيم الدكتور المسيري في موسوعته الشهيرة-:

1 - الإشكناز.

2 - السفارد.

3 - يهود العالم الإسلامي.

 

ويُلاحَظ أن الجماعات الثلاث الأساسية تُشكل، من ناحية الكم، ما يزيد على 98%، ويمتد وجودها إلى عدة قرون ويستمر حتى الوقت الحاضر. وتدور الجماعات الثلاث في إطار اليهودية الحاخامية أو التلمودية. كما أنها تنتمي إما إلى العالم الغربي أو العالم الإسلامي. أما الجماعات المنقرضة والهامشية، فهي جماعات كبيرة أو صغيرة اندثرت تماماً أو على وشك الاندثار (الخَزَر - السامريين - الكر مشاكي - يهود الصين)، أو جماعات صغيرة للغاية (العبرانيون السود - يهود كوشين). كما نُلاحظ أن معظم هذه الجماعات الهامشية قد انفصل عن تيار الجماعات اليهودية الأساسي وأحياناً عن اليهودية الحاخامية ( يهود مانيبور - يهود الصين - الفلاشاه - القرَّائين). ويُلاحَظ أن الجماعات الهامشية هذه، نظراً لانفصالها عن المراكز الدينية والثقافية اليهودية الكبرى، قد استوعبت عناصر إثنية ودينية من محيطها الحضاري بشكل ملحوظ وانفصلت عن أية معيارية يهودية، مما يعني أنها اندمجت في بيئتها اندماجاً ثقافياً واجتماعياً ودينياً أيضا بحيث أصبحت جزءاً أصيلاً من هذه المجتمعات بعد أن فقدت وصف وظاهر الشخص اليهودي.

 

يهود المارانو التسمية والنشأة

المارانو مصطلح ظهر بالتزامن مع ظهور مصطلح آخر وهو مصطلح " الموروس" وكلاهما ظهر في بلاد الأندلس أو شبه الجزيرة الأيبرية بعد زوال الحكم الإسلامي عنها وسقوطها بيد الإسبان والبرتغاليين سنة 897 ه-، فقد أعقب هذا السقوط بداية حملة اضطهاد ديني لم يعرف التاريخ لها مثيلاً من قبل النصارى ضد المسلمين واليهود بغرض الإبادة أو الإجبار على التنصر. فكان وصف " الموروس " لمن بقي من المسلمين بأرض الأندلس وهي كلمة إسبانية معناها : " السمر -لأصلهم العربي- أو الرجل المضروب عليه الصغار والذلة ".

 

أما وصف المارانو فقد كان لوصف اليهود المتخفين في الأندلس والذين تظاهروا باعتناق الكاثوليكية والارتداد عن اليهودية. وقد قيل في معناها عدة أقوال منها : الخنزير بالعامية الإسبانية القديمة، وقيل الملعون، وقيل مشتقة من الكلمة العربية " المرائي " أي المنافق، وقيل غير ذلك، والشاهد أن الوصف كان للتحقير والتقليل من الشأن كما هو الحال في وصف المسلمين بالموروس.

 

نشأت هذه الجماعة السرية كما أسلفنا الذكر في أعقاب سقوط معظم قواعد الأندلس بيد الإسبان والبرتغاليين والبداية تحديداً لهذه الجماعة بدأ سنة 1391 ميلادية عندما اندلعت اضطرابات عنيفة ضد يهود إسبانيا بدعوى إفسادهم للنصرانية وعداوتهم لها، وقد طالبت الجماهير بقتل اليهود جميعاً، مما أدى لموجة تنصير كبيرة داخل الوسط اليهودي بشكل قسري اتقاءً لمجزرة شبيه بالتي وقعت بمسلمي الأندلس. ولكن مع مرور الوقت أخذ اليهود في التنصر طواعية، فأصبح المجتمع اليهودي يضم الطائفتين : المتنصرين قسراً، والمتنصرين طواعية.

 

بعد سقوط غرناطة واجه الحكام الجدد للأندلس معضلة ديموغرافية وهي أن معظم سكان البلاد كانوا إما مسلمين أو يهود أو من أصول مسلمة ويهودية، ولم تكن توجد سوى أقلية مسيحية، ومن هنا كان لابد من طرد العناصر غير المسيحية، لخلق التوازن السكاني لصالح المسيحيين. فعُرض على المسلمين واليهود إما التنصر أو مغادرة البلاد. فتنصر الكثيرون من اليهود ولكن الكتلة الصلبة من اليهود هاجرت إلى البرتغال التي قدمت لهم حق اللجوء المؤقت من أجل الاستفادة من خبراتهم وثرواتهم المالية، وقد بلغ تعداد اليهود المهاجرين إلى البرتغال نحو 10% من إجمالي سكان البرتغال وكان لهم اتصالات تجارية واقتصادية مع أطراف كثيرة خارج البرتغال، وقد أدى ذلك لشيوع وصف "البرتغالي" للتعبير عن اليهودي في أوروبا الغربية وقتها.

 

في سنة 1495 تغيرت السياسة المتسامحة للبرتغال تجاه اليهود مع وصول مانويل الأول لسدة الحكم وكان مشهوراً بتمسكه الشديد بالنصرانية وكراهية المسلمين واليهود. كان مانويل صاحب مشروع صليبي كبير يهدف لإعادة أجواء الحملات الصليبية في القرون الوسطى، وكان يفكر في إقامة تحالف صليبي كبير يضم إسبانيا والبرتغال تحت هيمنة وسيطرة كرسي البابوية، فقرر تزويج ابنه من ابنة ملك إسبانيا الذي اشترط من أجل إتمام هذا الزواج طرد كل يهود البرتغال، ولكن مانويل خاف من غائلة طردهم أن ينهار اقتصاد البرتغال ففرض عليهم التنصير القسري مع إعفائهم من محاكم التفتيش، مما سمح لليهود المتنصرين أن يمارسوا شعائرهم اليهودية سراً، ومن ثم ظهرت جماعة المارانو أو اليهود المتخفين.

 

المارانو ومحاكم التفتيش

تأخر إنشاء محاكم التفتيش في البرتغال عن نظيرتها في إسبانيا إلى سنة 1536ميلادية وكان المارانو هم أول مستهدف من المحاكم على الرغم من اندماج معظمهم في المجتمع النصراني فنتج عن ذلك أكبر موجة هجرية ليهود المارانو إلى دول أوروبا للفرار من وطأة تعذيب ووحشية محاكم التفتيش، فذهبت أعداد كبيرة منهم إلى الدولة العثمانية واستوطنوا في سالونيكا، فكان عددهم يفوق عدد اليهود الأصليين في المدينة حتى أن المدينة قد أُطلق عليهم اسم أورشليم البلقان، ولعب اليهود المارانو فيها دوراً خطيراً في الانقلاب على الدولة العثمانية والإطاحة بالسلطان القوي عبد الحميد الثاني.

 

كما اتجه المارانو إلى الدول البروتستانتية التي كانت في حالة عداء تقليدي مع البابوية والكاثوليكية، فاستوطنوا انجلترا وهولندا وألمانيا، وكانوا يعاملون في هذه الدول على أنهم يهود على الرغم من نصرانيتهم الظاهرة، مما فتح المجال أمامهم للعودة لممارسة شعائرهم الدينية في السر مع المحافظة على الشكل النصراني الظاهري، كما سمحت لهم هذه الحرية بالتغلغل داخل المجتمعات الأوروبية والتأثير فيها كجماعة وظيفية مؤثرة، وقوة ضغط على الكثير من القرارات السياسية والاقتصادية في البلاد المذكورة.

 

المارانو والتأثير على أوروبا والعالم

كانت بعض الدول الأوروبية خاصة البروتستانتية تشجع يهود المارانو على الاستيطان بها من أجل إسناد بعض المهام والوظائف التجارية والاقتصادية التي كان الأوروبيون وقتها يرونها رجس من عمل الشيطان لا يقوم بها إلا يهودي؛ مثل الربا وتجارة المصوغات والملابس القديمة والدعارة، وهم ما يطلقون عليهم في العلوم السياسية اسم "الجماعة الوظيفية".

 

وبالفعل لعب يهود المارانو دوراً مهماً وفعالاً في تأسيس الشركات التجارية ذات الطابع الاستعماري والاستيطاني؛ مثل شركتي الهند الشرقية والهند الغربية وكلاهما صاحب دور كبير في فترة الاحتلال الأوروبي لأفريقيا وآسيا، كما أسس المارانو -بسبب خبراتهم المالية خاصة القذرة والمشبوهة- شركات التأمين واحتكروا تجارة الرقيق خاصة في منطقة غرب أفريقيا وجنوب شرق أسيا، وكان المارانو أول من أسس بنك حديث في أوروبا، وأول نظام ائتماني عالمي يربط المستعمرات في الشرق والغرب، ويجب الملاحظة أن يهود المارانو طوروا شكل التجارة الدولية والعمل المصرفي والائتماني بشكل مؤسسي كبير ودولي لا يتشابه من قريب أو بعيد نظام الربا البدائي الذي كان يشتغل به اليهود الأصليون أو الإشكناز من قبل.

 

والواقع أن الصناعات والتجارات التي اشتغل بها يهود المارانو واستثمروا فيها كانت إلى حد كبير صناعات وتجارات رأسمالية بمعنى الكلمة، كما سهل لهم اندماجهم داخل المجتمعات الأوروبية واستخفاؤهم باليهودية وعدم انغلاقهم المعروف عن اليهود الأصليين، كل ذلك ساهم في تغلغل المارانو في صلب وقلب المجتمع الغربي، وبالتالي لم يكن هؤلاء المارانو يمثلون إشكالية للواقع الأوروبي مثلما هو الحال بالنسبة للإشكناز والسفارد أو اليهود الأصليين الذين خطط الأوروبيون للتخلص منهم بنقلهم أو تصدير مشاكلهم إلى العالم الإسلامي عبر سلسلة من الإجراءات والقوانين والوعود بداية من قوانين نابليون لإصلاح اليهود الإشكناز في فرنسا، ثم قانون الغرباء في هولندا وبولندا وألمانيا، ثم مشروع شرق أفريقيا، وأخيرا وعد بالفور في إنجلترا؛ فالهدف من كل هذه المراسيم كان إبعاد الهجرة الإشكنازية عن أوروبا الغربية وتصديرها إلى العالم الإسلامي من أجل ضرب عدة عصافير بحجر واحد.

 

المارانو ونشر الفكر العلماني

يرى علماء الاجتماع الأوروبيون خاصة الألماني سومبارت أن يهود المارانو قد لعبوا دوراً أساسياً وحاسماً في تحديث وعلمنة أوروبا، والمساهمة بشكل فعال في ظهور الحكومات المطلقة التي تأخذ بالمنفعة والولاء والمصلحة بديلاً عن الانتماء الديني معياراً للحكم على الأمور والأفراد.

 

وكما لعب يهود المارانو دوراً حيوياً في نشر العلمانية في المجتمعات الأوروبية نجد أن لهم تأثيراُ كبيراً على الكتلة اليهودية الأصلية بسبب ازدواجية الهوية لديهم فهم يمثلون المجتمعين النصراني واليهودي في نفس الوقت، ولكنهم كانوا يرفضون انعزالية الحاخامية اليهودية وفكرة الجيتو المتوارثة عند اليهود الأصليين منذ الشتات والسبي الثاني، وهذا الرفض أدخلهم في صراع مع طبقة الحاخاميين وأظهرهم في المجتمع الأوروبي بصورة مثالية ترفض التعصب والانعزال، كما إن نجاح تجربة يهود " المارانو" في أوروبا وتبوؤهم مكانة اقتصادية رفيعة أدى لحدوث هزة كبيرة داخل اليهودية الحاخامية من جذورها، وقسم يهود أوروبا ومهد السبيل لظهور النزعة المشيخانية -التي تؤمن بعودة المسيح كمهدي مخلص لليهود- داخل أوساط اليهود وتأثرهم بها وزيادة أعداد معتنقي الفكرة التي يرفضها الحاخاميون بشدة ويكفرون أتباعها.

 

أيضا ساهم المارانو في نشر التصوف داخل اليهود الأصليين أو ما يعرف حالياً باسم يهود الكبّالاه أو متصوفة اليهود الذين يؤمنون بأن اليهود عماد الخلاص في العالم، ويرى كثير من المحللين أن الصهيونية هي في الأصل من صنع يهود المارانو؛ لأنها تعتبر عملية تحديث لليهودية تسقط الشريعة وتحل إشكالية عدم المشاركة في السلطة، ويرجع الفضل ليهود المارانو في بلورة وظهور فكر موسى مندلسون (1729-1786) وهو يهودي من بيلاروسيا، دعا لاندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية وأسس حركة هاسكالا هي حركة تنوير يهودية، بدأت الحركة بين يهود أوروبا في القرن 18 والقرن 19 الميلاديين، تدعو الحركة لتبني قيم عصر العلمانية، والضغط للاندماج في المجتمع الأوروبي، وزيادة التعليم في الدراسات العلمانية، واللغة العبرية والتاريخ اليهودي. يعتبر مصطلح هاسكالا علامة على بداية انخراط يهود أوروبا مع العالم العلماني، مما أدى في نهاية المطاف إلى إنشاء أول حركة سياسية يهودية من أجل التحرر اليهودي وبناء الدولة وهو ما تم على أرض فلسطين المغتصبة.

 

هكذا استطاع يهود المارانو التغلغل في المجتمعات الأوروبية والغربية والتنقل عبر دولها وأمريكا الشمالية والوصول إلى مواقع كبرى وحساسة سياسياً واقتصادياً وتجارياً وثقافياً وفكرياً ودينياً أيضا، في هذه الدول عبر عمل دؤوب ومستمر وهادئ خلال خمس قرون متتالية، مما جعل لفكرتهم أعواناً وأنصاراً من النصارى البروتستانت في أوروبا يؤمنون بها إيماناً عقائدياً راسخاً وهم ما يطلق عليهم اسم المسيحية الصهيونية وهي الحركة التي سوف نتكلم عنها في الجزء الثاني من سلسلة "الجماعات الخفية".

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
21-12-2023

الله يفتح لك