تأملات في وصايا لقمان -1

عبدالله بن عبده نعمان العواضي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/خصائص القصص القرآني 2/حقيقة الحكمة التي أوتيها لقمان 3/وصايا ومواعظ لقمان لابنه.

اقتباس

إن لقمان كان رجلاً حكيماً حُفظت عنه حكِم كثيرة، خصوصاً في تربية الولد، وفي هذه الآيات بعضٌ من تلك الحكم, فقد اجتمعت في هذه الآيات الكريمة من وصيته لابنه أمثلة من أصول الشريعة كلها وهي: الاعتقادات والأعمال والآداب، فما أحوجنا إليها تعلماً وتعليماً وعملاً...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده؛ ليكون للعالمين نذيرا، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيرا، أحمده على نعمة الإسلام حمداً كثيرا، وأشكره على نعمة الهدى والقرآن شكراً غزيرا.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدّره تقديرا, وأشهد أن نبينا وهادينا محمد بن عبدالله، بعثه الله إلى الجن والإنس بشيراً ونذيرا، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، أنار بالقرآن العقول، وشرح به الصدور، وشفى به القلوب؛ فامتلأت به حبوراً وسرورا، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- فبتقوى الله تستنير البصائر، وتستريح الضمائر؛ فتفرق بين الحق والباطل، والسليم والسقيم، قال -تعالى-: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الأنفال: 29].

 

أيها المسلمون: لقد تعاقبت القرون، وتآلفت السنون، وهو لا يزال المنهلَ الصافي الذي لا تكدره الدلاء، والنورَ الساطع الذي ليس به خفاء، والحجة الدامغة والبرهان الجلي الذي لا يبطله تعدد الأفهام والآراء، والقولَ الصادق، والأسلوب الرائق، والإعجاز الناطق بأنه كلام الخالق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, تنزيل من حكيم حميد.

 

عباد الله: هذا هو القرآن الكريم، أنزله الله ليكون كتابَ هداية وإرشاد، وحجة وحكمة، وعلم وإيمان، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم, من تمسك به نجا، ومن ضل عنه هلك، احتوى على عجائب لا تنفد، وفتح أبواباً للنور لا توصد.

 

فحري بنا أن نتأمله ونتدبر آياته؛ لنفتح أقفال قلوبنا، وغِشاوة عقولنا، نتنقل بين رياض آياته التي تتحدث عن الله -تعالى-، وعن رسله وتشريعاته لخلقه، وقصصه عن الغابرين؛ لنستلهم من تلك القصص العظات والعبر، فنتمثل الحق من ذلك في حياتنا.

 

ولقد اشتمل القرآن الكريم على عدد من القصص التي تحكي الأحداث؛ إما عن الأنبياء وما جرى لهم مع المؤمنين بهم أو الكافرين، وإما عن أفراد وطوائف جرى لهم ما فيه عبرة، وإما عن حوادث وأقوام في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

وقصص القرآن أصدق القصص؛ كما قال -تعالى-: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً)[النساء: 87]؛ وذلك لاشتمالها على موافقة الخبر للحدث, وهي أحسن القصص؛ كما قال -تعالى-: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)[يوسف: 3]؛ لأنها احتوت على أعلى درجات البلاغة الأسلوبية، والفصاحة اللفظية، والجلالة المعنوية.

 

وهي أنفع القصص؛ كما قال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[يوسف: 111]؛ وذلك لقوة تأثيرها في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق، فلا تساق هذه القصص البديعة للتسلية ومعرفة الحدث مجرداً، وإنما يؤتى بها لخير يُتّبع، وهدي يستمسك به، أو لشر يُجتنب، أو مثَل سوءٍ يبتعد عنه، أو مثل حسنٍ يقتدى به.

 

عباد الله: يقول الله -تعالى- في كتابه العزيز: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)[لقمان: 12-19].

 

هذا نموذج فريد من القصص القرآنية يحكي قصة العبد الصالح لقمان في سورة سميت باسمه؛ إعلاء لشأنه، ذكر الله فيها ما جرى له مع ابنه من حديث مؤثر في التربية والنصيحة، وقد صُدِّرت هذه السورة الكريمة بإشارة تلميحية إلى تميز قصص القرآن الكريم على قصص غيره؛ إذ تورد القصة القرآنية لهداية الناس، وتبصيرهم طريق الحق، بخلاف قصص ما سواه، ففي قوله -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ)[لقمان: 6], إيماء إلى القصاصين الملهين للناس المعرِضين بهم عن القرآن؛ كالنضر بن الحارث الذي كان يسافر إلى بلاد الفرس ويقتني كتبَ قصصِ ملوكهم، ويأتي مكة يحدث بذلك؛ ليشغل أهل مكة عن سماع رسول الله.

 

فبينت السورة بهذا التصوير أن القرآن في قصصه يشتمل على ما فيه هدى وإرشاد للخير، ومُثُلِ الكمال، فجاءت بهذه القصة لتكون أنموذجاً عن هذه المقاصد الشريفة من القصص.

 

 

أيها المسلمون: إن تربية الجيل أمانة عظيمة، تتطلب تظافر الجهود ابتداء من البيت الذي يعد عنصر التأثير والتأثر الأول في نفس النشء، فتربية الأولاد مهمة تقف على كاهل الأب والأم؛ لكونهما راعيين عمن استرعاهما الله عليه، فالأب راعٍ في بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها، كما قال نبينا الكريم -عليه الصلاة والسلام-.

 

عباد الله: إن لقمان كان رجلاً حكيماً حُفظت عنه حكِم كثيرة، خصوصاً في تربية الولد، وفي هذه الآيات بعضٌ من تلك الحكم, فقد اجتمعت في هذه الآيات الكريمة من وصيته لابنه أمثلة من أصول الشريعة كلها وهي: الاعتقادات والأعمال والآداب، فما أحوجنا إليها تعلماً وتعليماً وعملاً!.

 

عباد الله: إن نعم الله على عباده كثيرة متنوعة ومن أعظم هذه النعم الصواب في المعتقدات، والفقه في الدين، والعلم والعمل والفهم الصحيح، وهذه هي الحكمة، ومن يُرزقُها فقد رزِق خيراً كثيراً، قال -تعالى-: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)[البقرة: 269]، وهذه العطية الحسنى لن تدوم ولن تزيد إلا بشكر واهبها قولاً وفعلاً بتحقيق نتائجها في الإصلاح لا الإفساد.

 

والله -تعالى- غني غنىً مطلقاً, لا يحتاج الشكر ولا ينفعه حصوله، وإنما عائد ذلك الشكر على الشاكر ببقاء النعمة وزيادتها؛ ولهذا قال -تعالى- هنا: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)[لقمان: 12].

 

معشر المسلمين: إن محبة الولد والشفقة والحرص عليه فطرة وجبلة في قلب أبويه؛ ولذا هما يحرصان على جلب ما يسعده ودفع ما يضره، ولكن للأسف -يا عباد الله- فقد اقتصر فهم كثير من الناس في إسعاد الأولاد على توفير الطعام والشراب والكساء والدواء والمسكن وغير ذلك من حاجات الجسد، ولا ينظرون إلى أهم من ذلك كله وهو إسعاد الروح وإصلاح السلوك، فأقل الناس من يفعل هذا.

 

لقد قام لقمان -رحمه الله- بوعظ ابنه مرغّباً ومرهباً-, وقبل أن يزرع فيه بذور الخير والصلاح أراد أن يزيل ما في نفسه من الشر حتى تخلو وتصفو، وبعد ذلك يضع ما يريد من الخير, وإن أعظم الشر: الشرك بالله -تعالى- والكفر به، بصرف شيء من حق الله لغيره، وهذا هو الظلم العظيم حقاً؛ فلا أظلم ممن سوَّى المخلوق من تراب بمالك الرقاب، وسوى الذي لا يملك من الأمر شيئاً بمالك الأمر كله، وسوى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه، وسوى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرة من النعم، بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ودنياهم وأخراهم وقلوبهم وأبدانهم إلا منه، فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟!.

 

روى الشيخان في صحيحيهما عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)[الأنعام: 82], قلنا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟! قال: "ليس كما تقولون (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) بشرك، أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ", ومن هنا تبدأ وصايا لقمان؛ قال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13].

 

عباد الله: لا حقَّ أوجب تأديةً بعد حق الله من حق الوالدين, اللذين كانا سبب الوجود للولد في هذه الحياة؛ ولهذا يقرن الله -تعالى- بين حقه وحقهما في آيات من القرآن الكريم كهذه الآية؛ لأن لله -تعالى- نعمةَ الإيجاد، وللوالدين نعمة التربية والإيلاد.

 

إن بر الوالدين -معشر المسلمين- فريضة في كل الشرائع والأديان، ويأمر بها العقل السليم ومنهج العدل القويم، وردُ الجميل والمعروف, فكم قدم الوالدان من كفاية ورعاية وعناية، وتحملا من شقاء وعناء، وحرمانٍ من هناء، تعبا ليستريح الولد، وسهرا لينام، وبذلا ليستغني، وجاعا ليشبع، وعطشا ليروى, تتسع الحياة بهما إن ضحك وسلِم، وتضيق عليهما إن حزن أو سقِم، وكل تعب تحملاه، وكل عطاء قدماه؛ ليكبر ويحيا, أفلا يستحقان بهذا طاعةً وخفضَ جناح، وكلمة لينة، ورداً جميلاً، وإحساناً ورحمة، وبراً ورعاية؟!.

 

ألا ما أفظع العقوق وأسوأ فعله! وآكد عاقبته وعقوبته، يوم يقلب العاق -ابناً أو بنتاً- لوالديه ظهر المجن، ويكفر المعروف؛ فيرفع صوته فوق صوت أبيه، ويميل إلى العطوف الرؤوم إلى أمه فيسقي خدودَها دمعَها الهتان؛ جراءَ عصيانه وعقوقه، وقد يتعدى ذلك السوء إلى الضرب والإهانة.

 

ألا فليحذر العاق، وليستدرك قبل نزول العقوبة وفوات زمن الاستدراك، وليبشر البار المحسن بسعادة الدنيا ونجاة الآخرة؛ فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها"، قلت: ثم أي؟ قال: "ثم بر الوالدين", قلت: ثم أي؟ قال: "ثم الجهاد في سبيل الله"(متفق عليه), وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ -ثلاثا-: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور -أو قول الزور -، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متكئاً فجلس فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت"(متفق عليه)؛ ولهذا قال -تعالى- هنا: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[لقمان: 14-15].

 

عباد الله: إن بر الوالدين واجب الأداء مالم يتعارض مع حق الله، كأن يأمرا بمعصية الله، أو ينهيا عن طاعته، فإن فعلا فلا طاعة لهما، ولكن لا يعقان، بل يحسن إليهما في حدود الطاعة.

 

أيها المسلمون: أين يذهب الإنسان عن علم الله ونظره؟ هل هناك أرض غير أرضه؟ وكون غير كونه، وملك غير ملكه؟ حتى يتمكن العاصي من فعل معصيته دون رؤية خالقه ونظره وعلمه؟!.

 

أيها العبد المسلم: راقب حركاتك وتصرفاتك أن تزل أو تضل؛ فهناك من يرقُب، فلا تستصغر ذنباً تعصي الله به وتقول: "إنه صغير حقير"، فكل ذلك مسجل عليك لا يفوت اللهَ منه شيء، والصغير بالتواتر كبير, إذا أردت أن تعصي الله فتذكر قدرته وعلمه وعظمته؛ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك: 14].

 

وأنت -أيها الطائع- لا تحتقر المعروف لصغره وقلّته، فإن فعلته فتيقن أن ذلك لن يذهب ما دام خالصاً صوابا، بل هو مسجل لك عند المحيط بكل شيء، قال -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً)[النساء: 40]؛ ولهذا قال لقمان لابنه واعظاً: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)[لقمان: 16].

 

إذا ما خلوتَ الدهر يوماً فلا تقل *** خلوتُ ولكن قلْ عليّ رقيب

ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تُخفي عليه يغيب

 

أيها الناس: إن الصلاة هي أكبر العبادات البدنية، وعمود الإسلام وعماد الأعمال، وأعظم الطاعات وأدومها، وفريضة السماء، وأحب الأعمال إلى الله، وكفارة الذنوب ومحرقتها، ومهذبةُ النفوس ومُصلِحتُها.

 

الصلاة اعتراف بطاعة الله، وطلب الاهتداء للعمل الصالح، الصلاة اتصال بالله وقربٌ منه ومناجاة وابتهال، الصلاة تواصل مع العبادة، وهجر لمشاغل الدنيا وإقبال على الآخرة.

 

الصلاة في حقيقتها ليست حركات جوفاء، وعادةً تُؤدى بأفعال محدودة ويُنتهى منها، إن الصلاة بتلك الحركات التي لا معنى لها صلاة ميتة، أما حياة الصلاة فباستعدادٍ قبلها، وتوجهٍ أثناءها، وتأثر بعدها, فالمصلي الحي يجمع في صلاته حضورَ القلب، وتفهّم معنى الكلام المتلو أو المسموع، واستحضار تعظيم الله وهيبته، من معرفة جلال الله -تعالى-، ومعرفة حقارة النفس واستعبادها لمعبودها الجليل، فإذا سمع المسلم النداء لها تذكر النداء للقيامة فلينظر ماذا يجيب، وإذا ستر عورته فليعلم أن المراد من ذلك تغطية فضائح بدنه عن الخلق، فليذكر عورات باطنه، وفضائح سره التي لا يطلع عليها إلا الخالق -تعالى-.

 

وإذا استقبل القبلة فقد صرف وجهه عن الجهات إلى جهة بيت الله -تعالى-، فصرف قلبه عن كل شيء إلا إلى الله وحده، فإذا كبّر استشعر بحسه وفعله أن الله أكبر من كل شيء؛ فلا يقدم عليه شيئاً، وإذا ركع استشعر في ركوعه التواضع والعبودية، وفي سجوده الذل والانكسار للعظيم سبحانه.

 

فمن أراد الفلاح يوم المزيد فعليه إقامة الصلاة في أوقاتها بأركانها وشروطها وواجباتها، وسننها وخشوعها وحقيقتها.

 

وعلى الوالدين أن يعلموها الأولاد ذكوراً وإناثاً؛ كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع"(رواه أبوداود)؛ ولهذا قال لقمان لابنه موصياً: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ).

 

أيها المسلمون: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم قواعد الدين، وهو المهمة التي ابتعث الله لها المرسلين؛ قال -تعالى-: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[آل عمران: 104], فبهذه الشعيرة صلاحُ الدين والدنيا، فلو تُرك الناس وأهواءهم لكثر الفساد، وخربت البلاد، وطغى العباد، فنزل العذاب والنقم، ورفعت الخيرات والنعم.

 

إن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس وظيفة ينهض بها بعض الناس، بل كل مسلم مأمور به على قدر علمه واستطاعته؛ ولهذا جاء هذا العمل العظيم من أوصاف هذه الأمة؛ كما قال -تعالى-: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ)[آل عمران: 110]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"(رواه مسلم).

 

إخواني الأفاضل: يقول أبو حامد الغزالي مبيناً عظم شأن هذه الشعيرة وخطر التخلي عنها: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهمة التي ابتعث الله لها النبيين أجمعين، ولو طُوي بساطه، وأهمل علمه وعمله؛ لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمّت الفترة -أي: الجاهلية-، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد".

 

ولما كانت هذه المهمة الشريفة تخالف أهواء الناس وشهواتهم, فإنها تجر إلى صاحبها معاداةَ الناس وأذاهم؛ لذلك كان على الآمر والناهي التدرعُ بالصبر وعدم الجزع، وهنا لقمان يوصي ولده قائلاً: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[لقمان: 17].

 

فنسأل الله أن يصلح قلوبنا، وأن يوفقنا لبر والديِنا، وأن يجعلنا من أهل خشيته، وأداء فريضته، ومن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ابتغاءَ مرضاته.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يكن له من خلقه صاحبة ولا ولد، والصلاة والسلام على نبينا محمد، صلاة وسلاماً دائمينِ إلى يوم الدين، أما بعد:

 

أيها المسلمون: إن تهذيب النفس وإصلاح عوجها، وتحسين علاقاتها مع الناس، وإكسابها الآداب الفاضلة، والأخلاق الكاملة، وإزالة رذائل صفاتها أمور في غاية الأهمية، فمن أصلح علاقته مع الله بأداء حقه من الطاعة والانقياد، ومع خلق الله بإيفائهم ما يجب لهم عليه، وترك مطالبتهم بما ليس له فيه حق، فقد سعد ونجا.

 

وما أحسن أن يكون الإنسان محبوباً عند الله وعند خلقه، وما أبغض أن يكون مكروهاً مرفوضا في السماء والأرض.

 

إن النفوس قد طُبعت على محبة من يتواضع لها ولا يتكبر عليها، ولا يسعى مفتخراً مؤذياً لها، فالتواضع -معشر المسلمين- خلق كريم يجيء الإنسانَ من معرفته حقيقةَ نفسه؛ فمن نظر إلى نفسه بعين بصيرة وجد فيها عيوباً كثيرة, تدعوه إلى أن لا يغترّ على غيره وعنده تلك الآفات الكبيرة.

 

فالمتواضع لين الجانب، لطيف الخطاب، متودد إلى الناس، حسن الخُلق معهم، محسن إليهم، كريم المعشر، سهل المعاملة، ينزل الناس مقاماتهم ولا يحتقرهم، يقبل الحق ممن جاء به ولو كان أدنى منه في جميع منازل الدنيا، يخدم نفسه ويساعد أهله في مهمات البيت وحوائجه.

 

إن مشى مشى مشية معتدلة لا يتبختر ولا يتماوت، وإن جلس، جلس جِلسة مستوية حيث انتهى به المجلس, ولا يتخير رؤوس المجالس ووجوهها، وإن تكلم لم يتفيهق ولم يتشدق، ولم يثرثر ويرفع صوته، فكلامه حسن اللفظ، جميل المعنى، معتدل الصوت.

 

وإن لبس لبس ما وجد، فلم يتكلف أو يتشبع بما ليس عنده، فيلبس الرخيص من الثياب والنفيس منه، ولكنه لا يقصد به علواً على الآخرين وكسراً لقلوبهم، ولكن ليحدِّث بنعمة الله عليه؛ ولأن الله جميل يحب الجمال, فبهذا أحبه الناس وسودوه عليهم ورفعوه بينهم.

 

تواضع تكن كالنجم تبصر وجهَه *** على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخّان يعلو بنفسه *** إلى طبقات الجو وهو وضيع

 

أما الكبر فما أسوأها من شيمة، وأقبحها من صفة ذميمة، يرى المتكبر نفسه بين الناس كالطائر العالي في السماء، ولا يدرك أنه كلما ارتفع صغر في أعينهم كذلك، المتكبر يرد الحق، ويحتقر الناس، ويصعّر وجهه وينظر شزراً إليهم، يحب أن يحترمه الناس ويعرفوا مكانه ولو بغير الحق، إن تكلم رفع صوته من غير حاجة، وبحث عن أوابد الكلام وغرائبه؛ حتى يقال: "ما أبلغه وما أعلمه"!.

 

وإن لبس لبس لباس الشهرة, وجر ثوبه خيلاء، وأعجب بما لديه، وإن جلس جلس مرتفعاً على الآخرين، يتخير أماكن محددة، فحركاته وسكناته، وقيامه وقعوده، وسكوته ونطقه، ومشيه ووقوفه إعجاب بنفسه، واستصغار لغيره, وكل متكبر مقل من هذه الصفات أو مستكثر.

 

ما أجهلَ المتكبر وأحقر نفسه! أراد أن يرتفع فوضع، وأن يعز فذل، وأن يتميز فغاب عن مشهد الاحترام، فما أحراه ببغض الناس وإبعادهم.

 

أحبتي الكرام: ما أحسن ما وصف الله المتواضعين ومدحهم؛ فقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً)[الفرقان: 63]، وما أعظم جزاءهم في قوله: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص: 83].

 

وما أخوف ما جاء في حق المتكبرين من الوعيد؛ كقوله -عليه الصلاة والسلام-: "تحاجت النار والجنة؛ فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين"(رواه مسلم).

 

فمن أراد أن ينفي الكبر عن نفسه، ويستعمل التواضع فعليه بسيرة الرسول -عليه الصلاة والسلام-, ففيها القدوة والكفاية.

 

وهنا لقمان يربي ولده على التواضع ويحذره وسائل الكبر والغرور؛ فيقول: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)[لقمان: 18-19].

 

أيها المسلمون: ما أجمع هذه الوصايا، وأجمل هذا التعليم، وأحسن نتائج هذه الحكمة، وأسعد من تمسك بها، فأحرِ بنا أن نتعلمها، ونعلمها أبناءنا وبناتنا, ألا فلنتبع -عباد الله- هذه الوصايا؛ لننال السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة.

 

وندعو الله أن يصلح نفوسنا، ويهذب أخلاقنا، وأن يعيينا على تقويم سلوكنا؛ إنه سميع مجيب.

 

 

المرفقات

تأملات في وصايا لقمان -1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات