تأملات في محراب الصلاة

علي بن عمر با دحدح

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/المقصود بإقامة الصلاة وبعض صور إقامتها 2/أهمية المداومة على الصلاة وبعض مظاهر اهتمام الشرع بذلك 3/المقصود بأصالة الصلاة وبعض القصص في ذلك 4/ارتباط الصلاة بأحكام وآداب الإسلام

اقتباس

إذا جئنا بالصلاة على هذا النحو رأينا أنها هي العبادة التي نقول فيها إنها صلة بين العبد وربه، فالقلب حينئذ منذ التهيؤ، ومروراً بتكبيرة الإحرام يكون موصولاً بالله -جل وعلا-، تاركاً الدنيا وراءه؛ لأن الله أكبر منها، تاركاً كل ما يشغله عنها؛ لأنه مقبل على ما هو أعظم، مخلفاً وراءه همه وغمه ليفضي به إلى خالقه ومولاه -سبحانه -، متناسياً لكل أسباب القوة والمدد؛ لأنه متصل برب الأرباب ومسبب الأسباب وملك الملوك -جل وعلا- يسأله كل أمر صغر أو كبر، لنفسه أو لأمته، فـ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إخوة الإيمان: وصية الله -جل وعلا- لكم في القرآن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

معاشر المؤمنين: ما زلنا في محراب الصلاة، نتأمل في أسرارها، ونتزوّد من زادها.

 

ولعلنا في ذلك نتوجه التوجه المناسب المطلوب في مثل حال أمتنا على وجه العموم، وحال آحادنا في كل جانب من جوانب هذه الحياة.

 

أول المعالم معلم: الإقامة، فكل ما جاء في القرآن في أمر الصلاة جاء بلفظٍ خاص يتعلق بإقامة الصلاة، وليس بأدائها، وليس بفعلها، وإنما كما تنوعت الأوامر الربانية: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ)[هود: 114].

 

(وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ)[البقرة: 43].

 

(وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ)[الأحزاب: 33].

 

وكما جاءت كذلك الآيات في الأوصاف المتعلقة بالأفعال: (وَأَقَامَ الصَّلاةَ)[البقرة: 177].

 

(وَإِقَامِ الصَّلَاةِ)[النور: 37].

 

وكذلك على مستوى الوصف بالمصدر: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ)[النساء: 16].

 

(وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةَ)[الحج: 35].

 

كل ذلك لدلالة عظيمة تدل عليها هذه اللفظ.

 

فالإقامة، تعني أننا عندما نريد أن نقيم بناءاً أو نقيم أي أمرٍ، فإن ذلك يقتضي تصوراً مسبقاً، وتهيأً واستعداداً.

 

ويعني أنك تعلم الأمر بكل جوانبه وأهميته وتقيمه شيئاً فشيئاً، لو اعوّج أمر فيه أو قصر شيء منه لما قام البناء ولما استقام.

 

وكذلكم هي هذه الفريضة العظيمة، فإن إقامتها تقتضي أن تكون مقبلاً عليها بقلبك، وأن تكون متقرباً إليها بما هيأ الله من الشرائع؛ كالطهارة قبلها، والسعي ، وشهودها في بيوته جل وعلا.

 

وشهودها مع جماعة المسلمين، كل ذلك من صور التهيؤ للإقامة.

 

وما سبق أن ذكرناه من بعد ذلك في التكبير والقراءة والتلاوة ، ونحو ذلك.

 

قال الطبري في تفسيره -رحمه - في شأن إقامة ، قال: "أداؤها بحدودها ، والواجب فيها على ما فُرضت عليه".

 

ونقل ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس في إقامة ، قال: "إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها".

 

أي إن كنت في الصلاة فتكون مقبلاً عليها، وليس سارحاً بذهنك، وشارداً ، ومشغولاً بقلبك عنها، فذلك لا يؤدي صورة الإقامة التي أُمرت بها.

 

وقال السعدي في تفسيره: "إقامتها ظاهراً بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها وإقامتها باطناً بإقامة روحها، وهو حضور القلب فيها، وتدبر ما يقوله ويفعله منها".

 

فإذا جئنا بالصلاة على هذا النحو رأينا أنها هي العبادة التي نقول فيها إنها صلة بين العبد وربه، فالقلب حينئذ منذ التهيؤ ، ومروراً بتكبيرة الإحرام يكون موصولاً بالله -جل وعلا-، تاركاً الدنيا وراءه؛ لأن الله أكبر منها، تاركاً كل ما يشغله عنها؛ لأنه مقبل على ما هو أعظم، مخلفاً وراءه همه وغمه ليفضي به إلى خالقه ومولاه -سبحانه -، متناسياً لكل أسباب القوة والمدد؛ لأنه متصل برب الأرباب ومسبب الأسباب وملك الملوك -جل وعلا- يسأله كل أمر صغر أو كبر، لنفسه أو لأمته، فحينئذ تكون الصلاة بالفعل هي التي أمرنا الله بأن نقيمها: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ).

 

والسمة الثانية بعد ، هي: الإدامة، فنحن لو كنا نريد أن نقيم مبنى، فلن نقيم في كل لحظة مبنى، ولا في كل يوم ولا في كل شهر، بينما على فترات متباعدة.

 

لكن هذه الصلاة المطالبين بإقامتها متكررة مستوعبة للزمان والمكان والأحوال.

 

ولننظر إلى أصل فرضيتها في الفرائض الخمس، فإنها منذ انبثاق ضوء الفجر إلى دخول عتمة الليل في ، وبعد ذلك تتوزع الفرائض في كل هذه الأوقات.

 

وإذا نظرنا من جهة أخرى إلى السنن والنوافل، فإننا نجدها تتوزع الأوقات، فمن صلاة الضحى أو مما يكون بعد شروق الشمس إلى نوافل الصلوات كلها، إلى صلاة التسابيح بعد الغروب، إلى ما يكون في الليل كله من صلاة الليل، فكأنها تستوعب كل الوقت فيها وفي نوافلها كذلك، وما يتعلق بالأسباب من الصلوات المتصلة بها، سواء كان عند الخوف في صلاة الخسوف أو الكسوف، أو كان عند التضرع لله -عز وجل- وطلب السقيا في صلاة الاستسقاء، أو كان عند حدوث النعمة في صلاة الشكر، أو كان في كل وجه من الوجو.

 

فأنت أيضاً مرتبط بهذه الصلاة، ولا تنسى مع إدامتها إقامتها، وذلك في قوله جل وعلا الذي يبين أن الصلاة على كل حال لابد من أدائها مهما كان العارض، كما قال جل وعلا: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ)[النساء: 103].

 

وبيّن الحق -سبحانه وتعالى- أن: (الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً)[النساء: 103].

 

ولكن قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ليبين لنا أن هذه الأوقات، وأن العوارض لا تقطع هذه الصلاة: "صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب".

 

وكما يقول أهل العلم من الفقهاء: "إذا لم يستطع ولو أن يومئ إيماءاً لكنه يصلي".

 

ولو فقد الماء تيمم، ولو لم يستطع أن يتيمم ولا أن يتوضأ يصلي على أي حال، يستر عورته فإن لم يجد ما يستر عورته صلى على حاله بكل ما يستطيع، ثم نجد الصلاة كذلك في سائر الأحوال.

 

حتى عند التحام الصفوف والقتال، فالله -جل وعلا- يقول: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ...)[النساء: 102].

 

إلى آخر ما هو مذكور في الآية.

 

ومعلوم في صفة صلاة الخوف، السيوف مشرعة، والرؤوس تتطاير، والمعركة محتدمة، وإقامة الصلاة قائمة، لا تتوقف أبداً.

 

وحتى عند السفر أو عروض العوارض تقصر الصلاة ولا تنتهي، ولا يتوقف الإنسان عنها مطلقاً: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ)[النساء: 101].

 

وإذا نظرت فإنك واجدٌ تشريعات الإسلام في كل الجوانب والرخص تؤكد على أن الصلاة وإقامتها لا يتوقف، ولا يمتنع عنها الإنسان حتى يكون ليس له عقل ولا إدراك أو حتى تدركه الوفاة.

 

وكان من آخر ما قال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم".

 

حتى النوافل استقبال القبلة لكن إن كان على سفر وأراد أن يصلي النافلة فله أن يصلي، ولو لم يكن على القبلة؛ لأن المراد أن يكون العبد موصولاً بالله -سبحانه وتعالى- في سائر الأوقات وفي كل الأحوال وعلى سائر ظروفه التي تعرض له.

 

وبيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك عن الصلاة، فقال: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما موضع أدركتكم الصلاة فصلوا".

 

نعم في بيوت الله، لكن إن كنت في بلد ليس فيه مساجد فصلِّ في أي مكان، فالصلاة أساس لأنها؛ هي التي تصل العبد بالله -جل وعلا-.

 

ولو تأملنا في هذه الإدامة لوجدنا المعنى العظيم الذي أشرنا إليه من قبل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ) [البقرة: 153].

 

فأنت تستعين بمدد دائم وقوة عظمى مذخورة بين يديك ليس بينك وبينها إلا أن تتهيأ للصلاة وتدخل فيها.

 

وهذا على ذلك المدى الواسع يدلنا على عظمة هذه العبادة والفريضة، وأنها لو أقيمت كما أمر الله بإقام الصلاة لكان حال المؤمن فيها وبها، وحال الأمة معها ولها غير الذي نحن عليه.

 

ومن هنا لا بد أن ننتبه إلى أننا عندما نتحدث عن العبادات، وهي فرائض قد نتحدث عن فضائلها، وقد نتحدث عن أحكامها، ولكننا كذلك يجب أن نتحدث عن حكمها وأسرارها، وعن ثمارها وآثارها التي هي جوهر ما يكون في صلة الإنسان بربه -سبحانه وتعالى-.

 

والسمة الثالثة، هي: الأصالة في الصلاة، وهي كذلك من الوجوه العظيمة، فالصلاة افترضت على سائر الرسل والأنبياء، ومذكورة في سائر الشرائع والنبوات، وقد جاء في كتاب الله -عز وجل- بعض ذلك؛ كما في قوله سبحانه وتعالى عن إسماعيل -عليه السلام-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً) [مريم: 54-55].

 

وكذلك ما جاء في قصة عيسى: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً)[مريم: 31].

 

وأُمِر النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)[طه: 132].

 

هذه صورة تدل على العظمة لهذه العبادة والفريضة.

 

 

وإذا تأملناها نحن معاشر المؤمنين فيما جاء في كتاب ربنا لوجدنا بالفعل أننا أمام أعظم الفرائض بعد توحيد الله -عز وجل-، فالله -جل وعلا- لما عيّن الفلاح وجعله خاصاً بالمؤمنين: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)[المؤمنون: 1].

 

ذكر الأوصاف، فكانت أول الأوصاف متعلقة بالصلاة وآخر الصفات كذلك متعلق بالصلاة: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)[المؤمنون: 2].

 

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)[المؤمنون: 9].

 

فهذه الصلاة أول الأمر وآخره، ومبتدؤه ومنتهاه، وهي التي عند السبق إليها والبدء بها تفيض على ما بعدها من الفرائض والأركان والنوافل والعبادات وسائر الطاعات.

 

وعندما تكون هي الخاتمة فهي الضمان والأمان الذي يؤكد أن الصلة بالله -عز وجل- ستدوم وتعم في خلُق الإنسان وفي سلوكه وقوله ولفظه وحاله وفعله؛ لأنه موصول بالله أولاً وآخراً ابتداء وانتهاء.

 

وإذا نظرنا إلى الحال الذي فيه الخسران فإننا سنجد أن النجاة موصولة موكولة بالصلاة ابتداء وانتهاء؛ كما جاء في قول الحق -جل وعلا-: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ)[المعارج: 19-22].

 

وجاءت الصفات مرة أخرى مبتدئة بالصلاة ومنتهية بالصلاة: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج: 23].

 

وفي ختامها مرة : (يُحَافِظُونَ).

 

وهنا نلاحظ المحافظة والمداومة، وهي من طبيعة هذه الفريضة فالفلاح إنما هو مرتبط بها كأساس وقاعدة لا بد أن يُبنى عليها.

 

وهي كذلك الأساس في منع الخسران والسلامة من الشر والجزع.

 

وكل الأنواع التي هي موجودة في خلقة الإنسان إن لم يهذبه الإيمان وإن لم تمنعه هذه الصلاة وإلا كان هلوعاً جزوعاً، وكان طاغياً، وكما نعلم من الأوصاف الواردة في القرآن عن طبيعة الإنسان.

 

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في جوامع كلمه كلمات معدودة لكنها عظيمة في دلالتها ومعناها: "رأس الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد".

 

والعمود كما نعلم إذا سقط أو تصدع أو ضعف إما أن يسقط البناء وإما أن يكون على وشك السقوط.

 

وأحسب أن كثيراً مما نحن فيه من ضعف في اليقين أو الإيمان أو من ضعف في الأخلاق والقيم أو من ضعف في المعاملات والسلوكيات فيما بيننا كثير منه متصل بهذا، أي: بضعف صلتنا بالصلاة أو إقامتنا لها أو محافظتنا عليها أو استمرارنا على الصلة بالله -عز وجل- من خلالها.

 

وهذا يفسر كثيراً مما يأتي ذكره كذلك.

 

وفي حديث المصطفى الصحيح أيضاً عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله".

 

فتأمل هذه المحورية الجوهرية الأصيلة لهذه العبادة والفريضة، بل انظر إلى جوامع كلمه وشواهد نبوته عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث العظيم الذي يفسر كثيراً من أحوالنا: "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخره الصلاة".

 

فإن وجدت غلبة في الأمة بتضييع الصلاة أو تركها أو عدم القيام بها على وجهها، فاعلم أن هذا من أعظم ملامح ومعالم الخطر الذي ينبغي التنبه له والحذر منه.

 

فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعيذنا من أن نكون غير مقيمين للصلاة، وغير محافظين عليها.

 

ولا بد لنا أن ندرك أن هذه المحورية الأصيلة لها أثر كبير وعظيم مع ما يكون فيها من الإقامة والإدامة على الفرد المسلم وحده، فيكون قوي الإيمان، راسخ اليقين، حسن القول، مهذب الخلق، وفياً في وعده، قائماً بأمره، منتمياً لأمته، ولياً لأولياء الله، ومعادياً لأعداء الله، ويكون حينئذ مستكملاً للصفة التي ينبغي أن يكون عليها العبد المؤمن.

 

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من المصلين الخاشعين، وأن يجعلنا من المقيمي الصلاة المحافظين عليها.

 

 

الخطبة الثانية:

 

معاشر المؤمنين: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

 

واعلموا أن الصلاة عماد التقوى، وأنها الباب المشرع لدوام التضرع والابتهال إلى الله -سبحانه وتعالى-، والاستمداد والاستنصار به جل وعلا، ومن ثم فإن تدبراً في آيات الصلاة يبيّن لنا أنها مؤثرة ومرتبطة بسائر أنواع العبادات والفرائض، وبسائر أنواع التعلق بالله -جل وعلا- في قضايا الإيمان بالغيب، وفي كل ما يتصل بذلك.

 

ولعلي هنا أشير إشارات مهمة لما تنعكس به هذه الصلاة من خلال ارتباطها ببقية الأحكام والآداب في شريعة الإسلام.

 

ومن ذلك: التمسك بكتاب الله -سبحانه وتعالى- والارتباط به، فالحق -جل وعلا- يقول: (وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ)[الأعراف: 170].

 

فهنا تلازم وارتباط، وهو ظاهر كذلك، فنحن عندما نقيم الصلاة نقرأ فاتحة الكتاب، وهي خلاصة رسالة التوحيد والإسلام، ونقرأ القرآن بكل الآيات ويطول القنوت ويطول القيام فتكون الصلة بالله -جل وعلا- في تلاوة القرآن والتمسك به والتذكر له وتدبر معانيه والتأثر بها في الصلاة أعظم ما يكون؛ كما قال الحق -جل وعلا-: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وطئا وَأَقْوَمُ قِيلاً)[المزمل: 6].

 

أي: مواطئة بين القلب واللسان، فذلك بابٌ أيضاً عظيم من أبواب آثار الصلاة على صلتنا بكتاب الله -جل وعلا- حتى لو لم تقرأ القرآن كورد، فإنك إن أقمت الصلاة وأطلت فيها، وأكثرت النوافل، فإنك ستقرأ من القرآن حظاً وافراً يجعلك مرتبطاً به فضلاً عما أشرتُ إليه من التدبر والتأمل والتأثر بهذا القرآن العظيم.

 

وأمر ثانٍ: وهو الأمر الذي يحتاجه الإنسان دائماً ويطلبه ويرجوه ويترقبه من كون الناس يكونون معه ويكونون معينين له، ومحبين له، ومن كون طلبه للرزق الذي يقيم أوده ويوسع عليه في حياته، وكلا الأمرين مذكور في القرآن في قصة أبي الأنبياء خليل الله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[إبراهيم: 37].

 

لما كانوا لإقامة الصلاة عند هذا الموضع جعل الله القلوب والأفئدة وفئام الناس تهفو إليهم، وساق الله الرزق كما ساق الخلق إلى ذلك الموضع الذي ترك فيه إبراهيم زوجه وابنه الرضيع وليس معهم إلا جراب من تمر وقليل من ماء في صحراء، جرداء لا شجر فيها ولا ظل ولا ماء، ولا إنس ولا جن، حتى تغيرت البشرية والكرة الأرضية كلها بفضل الله -جل وعلا- من أثر هذا الدعاء الذي يربط بين هذه الصلاة وبين كما ذكر الله -جل وعلا- في هذه الآية: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).

 

وأمر ثالث من الأمور المهمة في حياة الإنسان المؤمن: عندما بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أهمية ذلك في قوله: "إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله".

 

ومسألة ولاية المؤمنين ومعاداة الكافرين المحاربين مسألة مهمة نراها مرتبطة في كتاب الله -جل وعلا- بالصلاة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ)[التوبة: 71].

 

هذا الترابط: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ)[لقمان: 17].

 

ترابط: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)[المائدة: 55].

 

ترابط، لا تقيموا الصلاة حتى تكون منتمياً لهذا الدين ولهذه الأمة وموالياً لكل المسلمين الموحدين ومحارباً لكل المقاتلين المعادين للإسلام والمسلمين.

 

وذلك هو مؤشر الإقامة الحقيقي في التوجه الصحيح والاعتقاد السليم والارتباط الوثيق بالله -سبحانه وتعالى- والقيام بالواجب تجاه الأمة وتجاه أبنائها وتجاه قضاياها قلباً وقالباً، بالتعاطف والقلب المحب والشعور بالحزن والدعاء لله -سبحانه وتعالى-، وقالباً بالنصرة والتأييد لكل مسلم يعتدى عليه في شرق الأرض وغربها.

 

وهذه مسألة في بوصلة الصلاة وفي أثرها.

 

والآيات كثيرة في صلة الصلاة بسائر الفرائض.

 

وكلنا يعلم الصلة المتكررة في القرآن: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ) [البقرة: 43].

 

فالصلة بالله تورث صلة حسنة بخلق الله، والقيام بأداء الصلاة يلزم منه ومعه وبه، كذلك أداء الزكاة لتنتظم كل هذه الفرائض في صورة تمثل الإسلام الكامل وتعطي للمسلم صورته الحقيقية وسمته التي يتميز بها في كل ذلك إيماناً واعتقاداً وصلاة وزكاة وصياماً وحجاً.

 

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعظم إيمانناً، وأن يزيد يقيننا، وأن يكمل إسلامنا، وأن يجعلنا به واثقين، وعليه متوكلين، ومنه خائفين، وإليه داعين، وله راجين.

 

نسأله سبحانه وتعالى أن يعلق قلوبنا بطاعته ومرضاته، وأن يجعلنا أوثق الخلق به، وأغنى خلقه به، وأضعف خلقه إليه، وأن يجعل قلوبنا موصولة به، وأن يرزقنا إقامة الصلاة على الوجه الذي يرضى به عنا.

 

 

 

المرفقات

في محراب الصلاة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات