تأملات في سورة الواقعة

محمد الغزالي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
1/ أهمية ذكر البعث 2/ أصناف الناس يوم القيامة 3/ منازلهم 4/ الأدلة على البعث

اقتباس

إن ديننا أساسه العقل، ومن حق أي عاقل أن يوجِّه لنفسه هذا السؤال، أين كنتُ قبل مائة سنة؟ كنت تراباً في سطح الأرض في بلد ما، كنت قطرة ماء في موج من الأمواج التي تملأ البحار والمحيطات. هذا بدَني، أين كان؟ هذا عقلي، أين كان؟ عندها يسأل القرآنُ سؤال تقرير: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً)..

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فموضوع خطبتنا اليوم تأمل سريع في سورة الواقعة، هذه السورة التي ألِف كثير من الناس قراءتها، وتقرب إلى الله -عز وجل- بتلاوتها، ويمكن أن يلخص موضوعها في جمل يسيرة: موضوع البعث، ومنازل الناس بعده، وأدلة وقوعه. على هذا المحور دارت آيات السورة كلها، ونحن نستعين بالله فنصور هذه المعاني التي تجعل أول السورة تمهيداً لآخرها، وآخر السورة تصديقاً لأولها، لنخرج من هذا التصوير بمعنى متكامل.

(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ) [الواقعة:1-3]

يقال: وقع القول: إذا تحقق وثبت، وقعت الواقعة: إذا أصبحت أمراً واقعاً فتحققت وثبتت. ومع أن في طباع الناس مكابرة مستغربة، ومع أن عدداً كبيراً من الناس أوتي جدلاً فيحب أن يكابر به الواقع، فإنه عندما تقوم القيامة تخرس الألسنة التي تعودت الجدل، وتغلق الأفواه التي ألفت المكابرة، ويشعر الناس جميعاً بأنهم أمام حدث لا بد من الاعتراف به، والانحناء له، والخضوع لآثاره.

(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ)

وهنا نحب أن نشرح: لم كرر القرآن الكريم تصوير مشاهد البعث والجزاء والحساب، وما يتبع الحساب من ثواب وعقاب؟ السبب في ذلك أن هناك علة فاشية في الناس على امتداد القرون، واختلاف الأمكنة، هذه العلة هي عبادة الحياة الدنيا، إن عبادة الحياة الدنيا مرض في الإنسانية قديم، وقد استفحل هذا المرض، وزاد في الحضارة الحديثة؛ فإن هذه الحضارة مهدت للناس طريق المتع، وعلقتهم بتراب الأرض، وسخِرت مما وراء المادة، وجعلت الناس يحسون أنهم ما يحيون إلا هذه الحياة الدنيا، وأن ما بعدها وهْم ما ينبغي الاستعداد له أو التعلق به؛ يصدق في هؤلاء جميعاً قول الله -عز وجل- في كتابه: (إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً)، [الإنسان:27]، وقوله -جل شأنه-: (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) [النجم:29-30].

كرَّر القرآن الكريم في كثير من السور ما نجده في سورة الواقعة هنا، من تصوير لمشاهد الحشر والنشر والمثوبة والعقوبة، والسبب أنه يريد إحداث توازن في الكيان المعنوي للإنسان، فإن الإنسان يحصر بين مشاهد الدنيا وبين واقع الأرض الذي لا شيء بعده، فكيف يستيقظ الإنسان من هذا الحاضر الذي استغرق فيه؟ وكيف يشعر بأن مع اليوم غداً، ومع الحاضر مستقبلاً، ومع لذة الطعام والشراب والشهوة الآن لذات أخرى أرقى وأزكى ينبغي أن يحسها، وأن يستعد لها، وأن يعمل على منالها، وعقوبات وآلام أنكى وأشق ينبغي أن يتحرز منها، ويبتعد عنها، ويتحرج عن الوقوع فيها.

إن إكثار القرآن الكريم من الكلام في الدار الآخرة إنما هو لعمل توازن في وعي الإنسان بين دنيانا التي تحيط بنا وتلفنا في آلامها وآمالها، وبين ما لابد منه في الدار الآخرة؛ لأنه حق، ولكن الناس غافلة عنه؛ ومن هنا جاء الكلام عن الدار الآخرة في هذه السورة على أنها ستقلب الأوضاع.

(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ) [الواقعة:1-3]

ستقلب الأوضاع، فمعنى (خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ) أن ناساً في دنيانا هذه يعتبرون في مرتبة صغيرة أو في درجة وضيعة سوف تعلو أماكنهم، وترتفع مناصبهم، وأن ناساً في دنيانا هذه يشار إليهم بالبنان، ويرمقون في مناصبهم أو في أماكنهم على أنهم سادة وقادة سيكونون صعاليك في الدار الآخرة: (خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ). وقد نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً إلى آفاق الدنيا في ليلة من الليالي كما روي البخاري في صحيحه: "استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فقال: سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن، وماذا فتح من الخزائن، أيقظوا صواحبات الحجر، فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة".

(خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ) فرُب مكسو هنا يزين مفرقة التاج سوف يحشر مفضوحاً عريان، ورب تافه هنا يرد عن الأبواب وتلقي إليه النظرات المنكرة سيكون من ملوك الدار الآخرة.

(خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً * وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً) [الواقعة:3-7].

(وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً) أي: أصنافاً ثلاثة. والناس في الآخرة ثلاثة أصناف، الصنف الأول هم: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة:10-12]. مَن السابقون؟ صح عن النبي صلى -صلى الله عليه وسلم- قوله فيما روي البخاري وغيره: "إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب؛ لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين".

هل نظرت يوماً وأنت في بيتك إلى نجمة في السماء تولد وتختفي من شدة بعد ما بيننا وبينها من سنين ضوئية و مسافات رحبة؟ يبين -صلى الله عليه وسلم- أن منازل الناس في الجنة هكذا! بعضهم في الأرض، وبعضهم كهذا النجم البعيد، هكذا أهل الغرف الذين آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين.

إن الإيمان يصنع العجائب، ويوم يكون الإنسان مؤمناً حقاً، ودفعه إيمانه هذا إلى أن يؤدي حق الله عليه كاملاً، فإنه يكون سابقاً. و الصنف الثاني هم: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ) [الواقعة:27-34]. إلى آخر ما وصف القرآن الكريم.

ونعوذ بالله من الصنف الثالث: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ) [الواقعة:41-44] لماذا؟ (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) [الواقعة:45]، كانوا منعمين في الدنيا ما يحسبون للآخرة حساباً، (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ) [الواقعة:46]ـ كانوا يغدرون في عقائدهم فيقولون: الله أكثر من واحد! وكذبوا، فإن الله واحد، واحد فقط، وكما أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) [الزخرف:81]، ولكن ليس له ولد ليس له ولد، (وَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ) هذه منازل الناس على اختلافها كما صورتها الصفحة الأولى من سورة الواقعة.

فإذا انتقلنا إلى الصفحة الثانية من هذه السورة وجدنا أدلة البعث كأن المستمع أو القارئ يتساءل أصحيح هذا كله؟ أصحيح أن هذه الدنيا سيخرب عمرانها، ويهدم بنيانها، ويفض سرادقها، ويتنقل الناس منها إلى هذه الأماكن المختلفة، أو الدرجات المتباينة؟! هذا سؤال يرد، ومن عظمة القرآن الكريم، ومن إعجازه الخالد أنه يعرض عقائده على كل عقل في كل عصر بالأدلة المقنعة، والبراهين الساطعة؛ ولذلك في هذه السورة سرد القرآن الكريم خمسة أدلة على صدق البعث والجزاء، هذه الأدلة الخمسة بدأت من قوله تعالى: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ؟) [الواقعة:57].

هذا هو الدليل الأول، والدليل الثاني: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ؟ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ؟) [الواقعة:58-59].

والدليل الثالث: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ؟ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟) [الواقعة:63-64].

والدليل الرابع: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ؟ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ؟) [الواقعة:68-69].

والدليل الخامس: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ؟ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ؟) [الواقعة:71-72].

فلنلق نظرات سراعاً على هذه الأدلة الخمسة؛ لنعرف ما قيمة كل دليل في إقناعه بالحقيقة التي تصدي للبرهنة عليها.

(نحن خلقناكم) هذا دليل بديهي، الله يقول لمنكر البعث: لم تنكر أن أوجدك وقد سبق أن أوجدتك؟ لقد أوجدتك؟ لقد أوجدتك أولاً، فما يمنعني من أن أوجدك ثانياً؟ وفي تصوير القرآن لهذه الشبهة التي مسحها مسحاً نجد أنه استعراض هذه الشبهة حديث نفس في بعض السور، وصراخ مبطلين في بعض السور: (وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً؟ * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) [مريم:66-67].

هذا هو الجواب يجيء أيضاً نوعاً من التذكير النفسي للتساؤل النفسي الذي تحرك في ضمير المرء وهو يتساءل عن البعث. البعض الآخر: (وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً؟) [الإسراء:49]، والجواب: (قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الإسراء:50-51] هذا هو الجواب.

الدليل الأول في جملة لا تستغرق نصف سطر: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ. فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ؟) [الواقعة:57]، فهلا تصدقون بعد ذلك؟.

الدليلان الثاني والثالث يعودان إلى معنى لطيف أساسه أنك قد ترتاب في إنسان يعدك أنه سيعطيك كذا، رأيته يمنح الألوف دون عجز، ويهب الكثير دون بخل، فمن حقه عليك أن تقول: إن وعده هذا ميسور التصديق، ولم أكذبه وهو يقول سأعطيك، وفي الوقت نفسه يعطي الآن الكثير. إن عطاءه الآن يشرح ويمهد لتصديق عطائه فيما بعد.

الدليلان الثاني والثالث: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ) [الواقعة:58]، (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ) [الواقعة:63]، أساسهما أن الخالق الذي يقول سأخلق بعد عدم لا يقول ذلك وهو عاطل الآن، بل يقول ذلك وهو يخلق الآن بالفعل، ومن حق كل إنسان أن يسأل نفسه: أين كنتُ قبل مائة سنة؟ سل نفسك. إن ديننا أساسه العقل، ومن حق أي عاقل أن يوجه لنفسه هذا السؤال، أين كنت قبل مائة سنة؟ كنت تراباً في سطح الأرض في بلد ما، كنت قطرة ماء في موج من الأمواج التي تملأ البحار والمحيطات. هذا بدَني، أين كان؟ هذا عقلي أين كان؟ عندها يسأل القرآن سؤال تقرير: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً) [الإنسان:1].

نعم، أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فكيف وجدت؟ ننظر كيف وجدت؟ أكل أبوك وأكلت أمك، أكلا من خيرات الأرض، أكلاً من أي شيء وصل إلى بدنيهما، ثم اشتغلت في هذا البدن غدد، اشتغلت الغدة المنوية في جسمك، إنها تشتغل دون أن تستأذنك، دون أن تتلقي منك أمراً، دون أن تعرف عنها شيئاً. إنها تشتغل وتكون الحيوان المنوي وفيه خصائص جنس، فيه الأخلاق الأصلية والمكتسبة من أبيك وجدك، وربما تضمنت الغرائز التي انحدرت إليك عبر القرون من أول آدم! مَن فعل هذا؟ من الذي خلق هذا الحيوان الذي أثبت العلم أن به خصائص الجنس كاملة؟.

بل بلغ دقته أن النطفة في الجنس الزنجي تحمل خصائص سواد الجلد والشعر المجعد بطريقة معينة وما إلى ذلك من انفعالات سريعة، أو حدة في المزاج، أو ما إلى ذلك. أأنت الذي صنعت هذا؟ أنت الذي يأكل ولا يدري! هذه الغدة، ما الذي جعلها تفعل ذلك؟ هذا هو تفسير قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ؟ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ) [الواقعة:58-62].

كما أنشأناكم بطريقة معروفة، الآن ننشئكم بطريقة أخرى لا تعرفونها، هذا جسم الإنسان: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ؟). دليل آخر: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ؟) الزرع الذي يموِّن البشرية باستمرار بقناطر مقنطرة من الحبوب والفواكه، مَن الذي صنع ذلك في الحقول والحدائق؟ من؟ من صنع ذلك إلا الله؟ إن الفلاح يلقي البذور، ويذهب إلى بيته، ما يدري كيف يتحول الطين إلى نسيج أحمر في البطيخة مليء بالماء الحلو، والسكريات، والفيتامينات، والمعادن! وما يدري كيف تصنع القشرة فيها هذه الألوان التي يعجز الفنان العادي عن صنعها، وترمي في صفائح القمامة إهمالاً لها لكثرة ما يصنع الخالق منها، غني مطلق: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ؟ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟).

وهنا، في الماء وفي النار إشارات غريبة إلى أن عناصر المخلوقات تشرف عليها قدرة تصنع العجائب، إن الماء الذي نشربه كما أثبت الكيماويون هيدروجين وأكسجين، في شوارع القاهرة "لحام بالأكسجين" لحام بالنار، وفيما سمعتم أن "القنبلة الهيدروجينية" أساسها ذرة الهيدروجين، ومع ذلك فالله الكبير هو الذي يجعل من هذه العناصر الملتهبة مصدر ري لك يطفئ ظمأك! وكما يفعل هذا بالماء يجئ بالنار من الحقول المليئة بالنضارة المليئة بكل ما يوحي بالحياة.

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ) [الواقعة:75-80]، هل للنار شجرة؟ نعم؛ ويقول العلماء: كما أتنفس -والتنفس أساس حياتي- فأرمي بالكربون وآخذ الأكسجين في جسمي فإن النباتات تصنع عملية عكسية، ترمي بالأكسجين وتختزن الكربون. وما الكربون؟ هو الفحم، هو النار هذه، هو الشجرة التي تختزن النار في كيانها.

الذي يصنع الماء بهذا الأسلوب، والذي يصنع النار بهذا الأسلوب، أهو عاجز عن أن يعيد الحياة مرة أخرى؟ لا. (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) [الواقعة:75-79]، انتظروا، انتظروا الساعة التي لابد منها، ساعة الاحتضار لكل إنسان، قد تغيب عنا ساعة البعث التي تطوي الحياة الدنيا ثم تنشرها، ولكن كل واحد له ساعته التي لابد أن يذوقها.

لقد وصف الله -عز وجل- هذه الساعة فقال: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الواقعة:83-87]، ثم بين أن الأرواح عندما تفارق الأجساد تأخذ منازلها على النحو الذي بدأ أول السورة: أصحاب السبق وهم المقربون، أصحاب اليمين، أصحاب الشمال.

(فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة:88–96].

ختم البخاري صحيحه بحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" متفق عليه. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله، (هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26]. وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين.

وأشهد أن محمداً رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، وبالتأمل في كتابه العظيم، وبالتدبر فيما أحكم من هذا الأسلوب، وأودع من تلك المعاني في المصحف الذي بين أيدينا، نستطيع أن نقرأ فيه، وأن نتدبر معانيه.

واعلموا -أيها المسلمون- أن الدنيا مليئة بالنحل المختلفة، والملك الكثيرة؛ والحق واحد لا يتعدد، هو الصراط المستقيم، هو القرآن الكريم، هو الإسلام العظيم؛ لكن الذي لاحظته أن الباطل انتعش أمره، وارتفع علَمه؛ لأمر فاتنا نحن! هل تظنون أن من يعبد البقرة يشعر أنه مضل أو ضال؟ لا، إن الذين يعبدون البقر يعتقدون أنهم على صواب، وقد نبهنا الله لهذا في مواضع من كتابه: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف:104].

إن الذين يشركون أو يجعلون لله أولاداً وصاحبة، أو يعبدون بعض الحيوانات، لا يتصورون في أنفسهم أنهم ضالون! لقد حكى القرآن أصناف الناس في أول سورة البقرة، ثلاث آيات في وصف المؤمنين، آيتان في وصف الكافرين، ثلاث عشرة آية في وصف المنافقين.

في وصف المنافقين قال الله لنا منبهاً عن طبائع هؤلاء: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء؟ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) [البقرة:11-13].

طبائع الضالين أنهم متعصبون لما لديهم من ضلال، المشكلة العويصة أو المعقدة التي أحسها وأنا أرمق المؤامرات التي تحاك للعالم الإسلامي، والحفر التي تبعثر في طريقه، المشكلة هي أن بعض المضلين متحمس لضلاله، مستعد للتضحية من أجله، أضحك وأنا أتصور -والصورة خطرت ببالي- لِمَن يكون النصر إذا كان الأمر هكذا؟.

رجل يعبد بقرة! في الهند، إذا اعترضت البقرة قافلة سيارات في ميدان كميدان التحرير هنا في القاهرة وقف الميدان كله، فما يتحرك أحد، ولا تنطلق السيارات إلا عندما تتحرك البقرة إلى مكان آخر! فإذا ذهبت البقرة إلى دكان فاكهي وأكلت قفص عنب مثلاً استراح الرجل، وحلت البركة عنده، واطمأن، وذهب إلى أهله مسروراً! إذا كان صاحب هذا الضلال يستريح لفقد قفص من العنب في سبيل وثنيته ثم وجدنا رجلاً ينتسب إلى الإسلام ثم قيل له: أخرج هذا القفص من العنب لله فرفض، وأبى أن يضحي، فطبيعة الحياة أن من ضحى من أجل الباطل لابد أن يهزم من بخِل من أجل الحق!.

فإذا وجدت رجلاً يتحمس للضلال، بينما عقيدة التوحيد عند بعض الناس ينظر إليها ببرود، ويرمق معناها كأن المعنى تافه، فإذا كلف بشيء استثقل التكليف، واستغلظ الفرض؛ هذا النوع من الناس هازم الإسلام حتماً، والمشكلة أن عدداً من المسلمين كبيراً إما جاهل بالإسلام وهو ينتسب إليه، وإما يعرفه ولكنه ميت الشعور والحماسة بالنسبة له، هذا النوع من الخلق لا تنتصر به أمة، ولا ترتفع به راية، ولا تستحكم به نهضة؛ والمسلمون -للأسف- من هذا النوع، فيهم عدد قليل لا شك متحمس لربه، غاضب من المنكر إذا وقع، قرير العين بالفريضة إذا استقرت، وبالمعروف إذا رسخ وتمكن.

ولكن الله تعالى لا يحاسب الأمم بالقلة الصالحة فيها وإنما، يحاسب الأمم بالكثرة الفاسقة فيها. إننا نريد أن نكون ناساً عاديين، لا أقول عباقرة، لا، ولكن كما يخدم عبيد البقر بقرهم ينبغي أن يكون أهل الحق كذلك، ومع هذا، فالذي أقوله غير ما قاله القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم يقول: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ، وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ) [البقرة:165].

يجب أن يكون تعصبناً للحق أشد من تعصب غيرنا للباطل، يجب أن يكون احترامنا للتوحيد أقوى من احترام غيرنا للشرك والتثليث، أريد من أمتنا أن تعرف واقعها، فإنني ألحظ في شيوخ المسلمين وشبابهم أنهم يكثرون من اللغو ويقلون من الجد، وما بهذا تنتصر أمة.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر" رواه مسلم والنسائي وأحمد.

عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون) [النحل:90].

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فموضوع خطبتنا اليوم تأمل سريع في سورة الواقعة، هذه السورة التي ألِف كثير من الناس قراءتها، وتقرب إلى الله -عز وجل- بتلاوتها، ويمكن أن يلخص موضوعها في جمل يسيرة: موضوع البعث، ومنازل الناس بعده، وأدلة وقوعه. على هذا المحور دارت آيات السورة كلها، ونحن نستعين بالله فنصور هذه المعاني التي تجعل أول السورة تمهيداً لآخرها، وآخر السورة تصديقاً لأولها، لنخرج من هذا التصوير بمعنى متكامل.

(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ) [الواقعة:1-3]

يقال: وقع القول: إذا تحقق وثبت، وقعت الواقعة: إذا أصبحت أمراً واقعاً فتحققت وثبتت. ومع أن في طباع الناس مكابرة مستغربة، ومع أن عدداً كبيراً من الناس أوتي جدلاً فيحب أن يكابر به الواقع، فإنه عندما تقوم القيامة تخرس الألسنة التي تعودت الجدل، وتغلق الأفواه التي ألفت المكابرة، ويشعر الناس جميعاً بأنهم أمام حدث لا بد من الاعتراف به، والانحناء له، والخضوع لآثاره.

(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ)

وهنا نحب أن نشرح: لم كرر القرآن الكريم تصوير مشاهد البعث والجزاء والحساب، وما يتبع الحساب من ثواب وعقاب؟ السبب في ذلك أن هناك علة فاشية في الناس على امتداد القرون، واختلاف الأمكنة، هذه العلة هي عبادة الحياة الدنيا، إن عبادة الحياة الدنيا مرض في الإنسانية قديم، وقد استفحل هذا المرض، وزاد في الحضارة الحديثة؛ فإن هذه الحضارة مهدت للناس طريق المتع، وعلقتهم بتراب الأرض، وسخِرت مما وراء المادة، وجعلت الناس يحسون أنهم ما يحيون إلا هذه الحياة الدنيا، وأن ما بعدها وهْم ما ينبغي الاستعداد له أو التعلق به؛ يصدق في هؤلاء جميعاً قول الله -عز وجل- في كتابه: (إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً)، [الإنسان:27]، وقوله -جل شأنه-: (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) [النجم:29-30].

كرَّر القرآن الكريم في كثير من السور ما نجده في سورة الواقعة هنا، من تصوير لمشاهد الحشر والنشر والمثوبة والعقوبة، والسبب أنه يريد إحداث توازن في الكيان المعنوي للإنسان، فإن الإنسان يحصر بين مشاهد الدنيا وبين واقع الأرض الذي لا شيء بعده، فكيف يستيقظ الإنسان من هذا الحاضر الذي استغرق فيه؟ وكيف يشعر بأن مع اليوم غداً، ومع الحاضر مستقبلاً، ومع لذة الطعام والشراب والشهوة الآن لذات أخرى أرقى وأزكى ينبغي أن يحسها، وأن يستعد لها، وأن يعمل على منالها، وعقوبات وآلام أنكى وأشق ينبغي أن يتحرز منها، ويبتعد عنها، ويتحرج عن الوقوع فيها.

إن إكثار القرآن الكريم من الكلام في الدار الآخرة إنما هو لعمل توازن في وعي الإنسان بين دنيانا التي تحيط بنا وتلفنا في آلامها وآمالها، وبين ما لابد منه في الدار الآخرة؛ لأنه حق، ولكن الناس غافلة عنه؛ ومن هنا جاء الكلام عن الدار الآخرة في هذه السورة على أنها ستقلب الأوضاع.

(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ) [الواقعة:1-3]

ستقلب الأوضاع، فمعنى (خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ) أن ناساً في دنيانا هذه يعتبرون في مرتبة صغيرة أو في درجة وضيعة سوف تعلو أماكنهم، وترتفع مناصبهم، وأن ناساً في دنيانا هذه يشار إليهم بالبنان، ويرمقون في مناصبهم أو في أماكنهم على أنهم سادة وقادة سيكونون صعاليك في الدار الآخرة: (خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ). وقد نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً إلى آفاق الدنيا في ليلة من الليالي كما روي البخاري في صحيحه: "استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فقال: سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن، وماذا فتح من الخزائن، أيقظوا صواحبات الحجر، فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة".

(خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ) فرُب مكسو هنا يزين مفرقة التاج سوف يحشر مفضوحاً عريان، ورب تافه هنا يرد عن الأبواب وتلقي إليه النظرات المنكرة سيكون من ملوك الدار الآخرة.

(خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً * وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً) [الواقعة:3-7].

(وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً) أي: أصنافاً ثلاثة. والناس في الآخرة ثلاثة أصناف، الصنف الأول هم: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة:10-12]. مَن السابقون؟ صح عن النبي صلى -صلى الله عليه وسلم- قوله فيما روي البخاري وغيره: "إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب؛ لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين".

هل نظرت يوماً وأنت في بيتك إلى نجمة في السماء تولد وتختفي من شدة بعد ما بيننا وبينها من سنين ضوئية و مسافات رحبة؟ يبين -صلى الله عليه وسلم- أن منازل الناس في الجنة هكذا! بعضهم في الأرض، وبعضهم كهذا النجم البعيد، هكذا أهل الغرف الذين آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين.

إن الإيمان يصنع العجائب، ويوم يكون الإنسان مؤمناً حقاً، ودفعه إيمانه هذا إلى أن يؤدي حق الله عليه كاملاً، فإنه يكون سابقاً. و الصنف الثاني هم: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ) [الواقعة:27-34]. إلى آخر ما وصف القرآن الكريم.

ونعوذ بالله من الصنف الثالث: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ) [الواقعة:41-44] لماذا؟ (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) [الواقعة:45]، كانوا منعمين في الدنيا ما يحسبون للآخرة حساباً، (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ) [الواقعة:46]ـ كانوا يغدرون في عقائدهم فيقولون: الله أكثر من واحد! وكذبوا، فإن الله واحد، واحد فقط، وكما أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) [الزخرف:81]، ولكن ليس له ولد ليس له ولد، (وَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ) هذه منازل الناس على اختلافها كما صورتها الصفحة الأولى من سورة الواقعة.

فإذا انتقلنا إلى الصفحة الثانية من هذه السورة وجدنا أدلة البعث كأن المستمع أو القارئ يتساءل أصحيح هذا كله؟ أصحيح أن هذه الدنيا سيخرب عمرانها، ويهدم بنيانها، ويفض سرادقها، ويتنقل الناس منها إلى هذه الأماكن المختلفة، أو الدرجات المتباينة؟! هذا سؤال يرد، ومن عظمة القرآن الكريم، ومن إعجازه الخالد أنه يعرض عقائده على كل عقل في كل عصر بالأدلة المقنعة، والبراهين الساطعة؛ ولذلك في هذه السورة سرد القرآن الكريم خمسة أدلة على صدق البعث والجزاء، هذه الأدلة الخمسة بدأت من قوله تعالى: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ؟) [الواقعة:57].

هذا هو الدليل الأول، والدليل الثاني: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ؟ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ؟) [الواقعة:58-59].

والدليل الثالث: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ؟ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟) [الواقعة:63-64].

والدليل الرابع: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ؟ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ؟) [الواقعة:68-69].

والدليل الخامس: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ؟ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ؟) [الواقعة:71-72].

فلنلق نظرات سراعاً على هذه الأدلة الخمسة؛ لنعرف ما قيمة كل دليل في إقناعه بالحقيقة التي تصدي للبرهنة عليها.

(نحن خلقناكم) هذا دليل بديهي، الله يقول لمنكر البعث: لم تنكر أن أوجدك وقد سبق أن أوجدتك؟ لقد أوجدتك؟ لقد أوجدتك أولاً، فما يمنعني من أن أوجدك ثانياً؟ وفي تصوير القرآن لهذه الشبهة التي مسحها مسحاً نجد أنه استعراض هذه الشبهة حديث نفس في بعض السور، وصراخ مبطلين في بعض السور: (وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً؟ * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) [مريم:66-67].

هذا هو الجواب يجيء أيضاً نوعاً من التذكير النفسي للتساؤل النفسي الذي تحرك في ضمير المرء وهو يتساءل عن البعث. البعض الآخر: (وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً؟) [الإسراء:49]، والجواب: (قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الإسراء:50-51] هذا هو الجواب.

الدليل الأول في جملة لا تستغرق نصف سطر: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ. فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ؟) [الواقعة:57]، فهلا تصدقون بعد ذلك؟.

الدليلان الثاني والثالث يعودان إلى معنى لطيف أساسه أنك قد ترتاب في إنسان يعدك أنه سيعطيك كذا، رأيته يمنح الألوف دون عجز، ويهب الكثير دون بخل، فمن حقه عليك أن تقول: إن وعده هذا ميسور التصديق، ولم أكذبه وهو يقول سأعطيك، وفي الوقت نفسه يعطي الآن الكثير. إن عطاءه الآن يشرح ويمهد لتصديق عطائه فيما بعد.

الدليلان الثاني والثالث: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ) [الواقعة:58]، (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ) [الواقعة:63]، أساسهما أن الخالق الذي يقول سأخلق بعد عدم لا يقول ذلك وهو عاطل الآن، بل يقول ذلك وهو يخلق الآن بالفعل، ومن حق كل إنسان أن يسأل نفسه: أين كنتُ قبل مائة سنة؟ سل نفسك. إن ديننا أساسه العقل، ومن حق أي عاقل أن يوجه لنفسه هذا السؤال، أين كنت قبل مائة سنة؟ كنت تراباً في سطح الأرض في بلد ما، كنت قطرة ماء في موج من الأمواج التي تملأ البحار والمحيطات. هذا بدَني، أين كان؟ هذا عقلي أين كان؟ عندها يسأل القرآن سؤال تقرير: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً) [الإنسان:1].

نعم، أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فكيف وجدت؟ ننظر كيف وجدت؟ أكل أبوك وأكلت أمك، أكلا من خيرات الأرض، أكلاً من أي شيء وصل إلى بدنيهما، ثم اشتغلت في هذا البدن غدد، اشتغلت الغدة المنوية في جسمك، إنها تشتغل دون أن تستأذنك، دون أن تتلقي منك أمراً، دون أن تعرف عنها شيئاً. إنها تشتغل وتكون الحيوان المنوي وفيه خصائص جنس، فيه الأخلاق الأصلية والمكتسبة من أبيك وجدك، وربما تضمنت الغرائز التي انحدرت إليك عبر القرون من أول آدم! مَن فعل هذا؟ من الذي خلق هذا الحيوان الذي أثبت العلم أن به خصائص الجنس كاملة؟.

بل بلغ دقته أن النطفة في الجنس الزنجي تحمل خصائص سواد الجلد والشعر المجعد بطريقة معينة وما إلى ذلك من انفعالات سريعة، أو حدة في المزاج، أو ما إلى ذلك. أأنت الذي صنعت هذا؟ أنت الذي يأكل ولا يدري! هذه الغدة، ما الذي جعلها تفعل ذلك؟ هذا هو تفسير قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ؟ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ) [الواقعة:58-62].

كما أنشأناكم بطريقة معروفة، الآن ننشئكم بطريقة أخرى لا تعرفونها، هذا جسم الإنسان: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ؟). دليل آخر: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ؟) الزرع الذي يموِّن البشرية باستمرار بقناطر مقنطرة من الحبوب والفواكه، مَن الذي صنع ذلك في الحقول والحدائق؟ من؟ من صنع ذلك إلا الله؟ إن الفلاح يلقي البذور، ويذهب إلى بيته، ما يدري كيف يتحول الطين إلى نسيج أحمر في البطيخة مليء بالماء الحلو، والسكريات، والفيتامينات، والمعادن! وما يدري كيف تصنع القشرة فيها هذه الألوان التي يعجز الفنان العادي عن صنعها، وترمي في صفائح القمامة إهمالاً لها لكثرة ما يصنع الخالق منها، غني مطلق: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ؟ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟).

وهنا، في الماء وفي النار إشارات غريبة إلى أن عناصر المخلوقات تشرف عليها قدرة تصنع العجائب، إن الماء الذي نشربه كما أثبت الكيماويون هيدروجين وأكسجين، في شوارع القاهرة "لحام بالأكسجين" لحام بالنار، وفيما سمعتم أن "القنبلة الهيدروجينية" أساسها ذرة الهيدروجين، ومع ذلك فالله الكبير هو الذي يجعل من هذه العناصر الملتهبة مصدر ري لك يطفئ ظمأك! وكما يفعل هذا بالماء يجئ بالنار من الحقول المليئة بالنضارة المليئة بكل ما يوحي بالحياة.

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ) [الواقعة:75-80]، هل للنار شجرة؟ نعم؛ ويقول العلماء: كما أتنفس -والتنفس أساس حياتي- فأرمي بالكربون وآخذ الأكسجين في جسمي فإن النباتات تصنع عملية عكسية، ترمي بالأكسجين وتختزن الكربون. وما الكربون؟ هو الفحم، هو النار هذه، هو الشجرة التي تختزن النار في كيانها.

الذي يصنع الماء بهذا الأسلوب، والذي يصنع النار بهذا الأسلوب، أهو عاجز عن أن يعيد الحياة مرة أخرى؟ لا. (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) [الواقعة:75-79]، انتظروا، انتظروا الساعة التي لابد منها، ساعة الاحتضار لكل إنسان، قد تغيب عنا ساعة البعث التي تطوي الحياة الدنيا ثم تنشرها، ولكن كل واحد له ساعته التي لابد أن يذوقها.

لقد وصف الله -عز وجل- هذه الساعة فقال: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الواقعة:83-87]، ثم بين أن الأرواح عندما تفارق الأجساد تأخذ منازلها على النحو الذي بدأ أول السورة: أصحاب السبق وهم المقربون، أصحاب اليمين، أصحاب الشمال.

(فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة:88–96].

ختم البخاري صحيحه بحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" متفق عليه. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله، (هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26]. وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين.

وأشهد أن محمداً رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، وبالتأمل في كتابه العظيم، وبالتدبر فيما أحكم من هذا الأسلوب، وأودع من تلك المعاني في المصحف الذي بين أيدينا، نستطيع أن نقرأ فيه، وأن نتدبر معانيه.

واعلموا -أيها المسلمون- أن الدنيا مليئة بالنحل المختلفة، والملك الكثيرة؛ والحق واحد لا يتعدد، هو الصراط المستقيم، هو القرآن الكريم، هو الإسلام العظيم؛ لكن الذي لاحظته أن الباطل انتعش أمره، وارتفع علَمه؛ لأمر فاتنا نحن! هل تظنون أن من يعبد البقرة يشعر أنه مضل أو ضال؟ لا، إن الذين يعبدون البقر يعتقدون أنهم على صواب، وقد نبهنا الله لهذا في مواضع من كتابه: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف:104].

إن الذين يشركون أو يجعلون لله أولاداً وصاحبة، أو يعبدون بعض الحيوانات، لا يتصورون في أنفسهم أنهم ضالون! لقد حكى القرآن أصناف الناس في أول سورة البقرة، ثلاث آيات في وصف المؤمنين، آيتان في وصف الكافرين، ثلاث عشرة آية في وصف المنافقين.

في وصف المنافقين قال الله لنا منبهاً عن طبائع هؤلاء: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء؟ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) [البقرة:11-13].

طبائع الضالين أنهم متعصبون لما لديهم من ضلال، المشكلة العويصة أو المعقدة التي أحسها وأنا أرمق المؤامرات التي تحاك للعالم الإسلامي، والحفر التي تبعثر في طريقه، المشكلة هي أن بعض المضلين متحمس لضلاله، مستعد للتضحية من أجله، أضحك وأنا أتصور -والصورة خطرت ببالي- لِمَن يكون النصر إذا كان الأمر هكذا؟.

رجل يعبد بقرة! في الهند، إذا اعترضت البقرة قافلة سيارات في ميدان كميدان التحرير هنا في القاهرة وقف الميدان كله، فما يتحرك أحد، ولا تنطلق السيارات إلا عندما تتحرك البقرة إلى مكان آخر! فإذا ذهبت البقرة إلى دكان فاكهي وأكلت قفص عنب مثلاً استراح الرجل، وحلت البركة عنده، واطمأن، وذهب إلى أهله مسروراً! إذا كان صاحب هذا الضلال يستريح لفقد قفص من العنب في سبيل وثنيته ثم وجدنا رجلاً ينتسب إلى الإسلام ثم قيل له: أخرج هذا القفص من العنب لله فرفض، وأبى أن يضحي، فطبيعة الحياة أن من ضحى من أجل الباطل لابد أن يهزم من بخِل من أجل الحق!.

فإذا وجدت رجلاً يتحمس للضلال، بينما عقيدة التوحيد عند بعض الناس ينظر إليها ببرود، ويرمق معناها كأن المعنى تافه، فإذا كلف بشيء استثقل التكليف، واستغلظ الفرض؛ هذا النوع من الناس هازم الإسلام حتماً، والمشكلة أن عدداً من المسلمين كبيراً إما جاهل بالإسلام وهو ينتسب إليه، وإما يعرفه ولكنه ميت الشعور والحماسة بالنسبة له، هذا النوع من الخلق لا تنتصر به أمة، ولا تر

المرفقات

في سورة الواقعة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات