عناصر الخطبة
1/أهمية سورة العصر 2/دلالة القسم بالزمن 3/مقاصد سورة العصر 4/العمل الصالح من لوازم الإيمان 5/فضل الصبر وأهميته 6/سبيل النجاة في الدنيا والآخرة.اقتباس
وَالصَّبْرُ خُلُقٌ عَظِيمٌ نَفِيسٌ، وَيَعْنِي: حَمْلَ النَّفْسِ عَلَى لُزُومِ الطَّاعَةِ، وَكَفَّهَا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَاحْتِمَالَ الْمَصَائِبِ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ، وَعَدَمَ التَّسَخُّطِ عِنْدَهَا؛ وَمَنْ رُزِقَ الصَّبْرَ أَعْطَاهُ اللهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَجَعَلَ الْعَسِيرَ عَلَيْهِ يَسِيرًا.
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: سُورَةٌ قَصِيرَةُ الْمَقَاطِعِ، كَالْبَدْرِ السَّاطِعِ، عَظِيمَةُ الْمَعَانِي، بَلِيغَةُ الْمَبَانِي؛ قَالَ عَنْهَا الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إِلاَّ هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ"؛ إِنَّهَا سُورَةُ الْعَصْرِ الَّتِي صَدَّر اللهُ -جَلَّ وَعَلاَ- بِهَا الْقَسَمَ بِالْعَصْرِ؛ وَهُوَ الزَّمَانُ الَّذِي هُوَ مَيْدَانُ الأَعْمَالِ وَمَجَالُ الطَّاعَاتِ أَوْ غَيْرِهَا.
فَالزَّمَانُ مَيْدَانُ الْعَامِلِينَ وَمِضْمَارُ الْمُتَسَابِقِينَ، أَقْسَمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلاَ- بِهِ؛ لِتَعْظِيمِ مَنْزِلَتِهِ وَتَبْيِينِ مَكَانَتِهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ: أُمَّةٌ تَذْهَبُ وَأُمَّةٌ تَأْتِي، وَقَدَرٌ يَنْفُذُ وَآيَةٌ تَظْهَرُ، وَهُوَ لاَ يَتَغَيَّرُ، لَيْلٌ يَعْقُبُهُ نَهَارٌ، وَنَهَارٌ يَطْرُدُهُ لَيْلٌ، إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ وَمَا عَلَيْهَا.
وَالزَّمَانُ فِي نَفْسِهِ آيَةٌ، سَوَاء فِي مَاضِيهِ لاَ يُعْلَمُ مَتَى كَانَ، أَوْ فِي حَاضِرِهِ لاَ يُعْلَمُ كَيْفَ يَنْقَضِي، أَوْ فِي مُسْتَقْبَلِهِ عَلَى أَيِّ حَالٍ يَكُونُ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَجَدَ أَنَّهَا تُقَرِّرُ حَقِيقَةً وَاضِحَةً بَيِّنَةً، وَهِيَ: أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّ الرِّبْحِ فِيمَا وَصَفَتِ السُّورَةُ مَنْهَجَهُ وَحُدُودَهُ وَمَعَالِمَهُ وَعَمَلَهُ، وَكُلُّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ ضَيَاعٌ وَخُسْرَانٌ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ فِيهَا: (إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)[العصر:2]؛ أَيْ: جِنْسُ الإِنْسَانِ فِي غَبْنٍ، وَنَقْصٍ، وَعُقُوبَةٍ، وَهَلَكَةٍ، فَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ فِي الْخُسْرَانِ وَمُحِيطٌ بِهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ!
لأَنَّهُ بَاعَ الْبَاقِيَ النَّفِيسَ وَاشْتَرَى الْفَانِيَ الْخَسِيسَ، وَاسْتَبْدَلَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ بِالْغَادِيَاتِ الْمُهْلِكَاتِ، فَخَسِرَ الْخُسَارَةَ الَّتِي لاَ تُعَوَّضُ -أَعْنِي: خَسَارَةَ الآخِرَةِ- لأَنَّ خَسَارَةَ الدُّنْيَا قَدْ يُعَوِّضُهَا الإِنْسَانُ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْخَسَارَةُ فِي الآخِرَةِ فَإِنَّهَا لاَ تُعَوَّضُ أَبَدًا؛ لأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهَا خَسَارَةُ النَّفْسِ وَالأَهْلِ وَالْمَالِ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)[الزمر: 15].
ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمَوْلَى مِنْ تِلْكَ الْخَسَارَةِ أَهْلَ الصَّفْقَةِ الرَّابِحَةِ، وَالْمَنْفَعَةِ الْجَامِعَةِ، الَّذِينَ اسْتَكْمَلُوا أَسْبَابَ النَّجَاةِ وَأَخَذُوا بِأَسْبَابِهَا، فَقَالَ: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 3].
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)؛ أَي: الَّذِينَ حَقَّقُوا الإِيمَانَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَرَسُولاً؛ آمَنُوا باللهِ وَبِكُلِّ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ -سُبْحَانَهُ-؛ عَلِمُوا أَنَّ الإِيمَانَ يَبْعَثُ فِي الْقَلْبِ الثِّقَةَ بِاللهِ، وَالأُنْسَ بِهِ، وَالطُّمَأْنِينَةَ بِذِكْرِهِ، وَهُوَ أَسَاسُ الْفَرَحِ وَالأَمَانِ، وَبَابُ السُّرُورِ وَالاِطْمِئْنَانِ.
وَعَلِمُوا أَيْضًا أَنَّ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ: اسْتِثْمَارَ وَتَسْخِيرَ الْجَوَارِحِ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ خَالِصٍ للهِ، صَوَابًا عَلَى سُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مِنْ لَوَازِمِ الإِيمَانِ بِاللهِ، فَكُلَّمَا زَادَ الْعَمَلُ وَكَانَ صَالِحًا زَادَ الإِيمَانُ، وَكُلَّمَا قَلَّ الْعَمَلُ قَلَّ الإِيمَانُ؛ لأَنَّهُ كَمَا قِيلَ: الإِيمَانُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَاعْتِقَادٌ بِالْجَنَانِ، وَعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْعِصْيَانِ.
وَعَلِمَ هَؤُلاَءِ أَنَّ النَّجَاةَ لاَ تَكْتَمِلُ إِلاَّ بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَالْحَقُّ هُوَ لُزُومُ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَامْتِثَالُ أَمْرِهِمَا، وَاجْتِنَابُ مَا نَهَيَا عَنْهُ، فَيُوصُونَ أَهْلَهُمْ وَأَرْحَامَهُمْ، وَأَقَارِبَهُمْ، وَجِيرَانَهُمْ، وَأَصْدِقَاءَهُمْ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَنَيْلِ الْحَسَنَاتِ.
وَخَاتِمَةُ صِفَاتِ أَهْلِ النَّجَاةِ عِنْدَ أَهْلِ الإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ: التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 3]؛ وَالصَّبْرُ خُلُقٌ عَظِيمٌ نَفِيسٌ، وَيَعْنِي: حَمْلَ النَّفْسِ عَلَى لُزُومِ الطَّاعَةِ، وَكَفَّهَا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَاحْتِمَالَ الْمَصَائِبِ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ، وَعَدَمَ التَّسَخُّطِ عِنْدَهَا؛ وَمَنْ رُزِقَ الصَّبْرَ أَعْطَاهُ اللهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَجَعَلَ الْعَسِيرَ عَلَيْهِ يَسِيرًا.
قَالَ سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: إِنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِندَهُ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ أَنْفْقَ كُلَّ شَيءٍ بِيَدِهِ: "مَا يَكُنْ عِنْدي مِنْ خَيْر فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ"(متفق عليه).
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ إِيمَانًا بِكَ وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ يَا رَحِيمُ يَا رَحْمَنُ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى-، وَاعْلَمُوا أَنَّ السَّلاَمَةَ وَالنَّجَاةَ مِنَ الْخَسَارَةِ وَالْهَلاَكِ لِلْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ هُوَ تَحْقِيقُ الإِيمَانِ، وَتَرْجَمَةُ ذَلِكَ عَلَى أَرْضِ الْوَاقِعِ أَعْمَالاً صَالِحَةً، وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ لِيَسْلَمَ مِنَ الْخَسَارَةِ، وَتَسُودَ الْمَحَبَّةُ وَالأُخُوَّةُ، وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ.
فَالإِيمَانُ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الَّذِي يَغْرِسُ خَوْفَ اللهِ وَخَشْيَتَهُ فِي الْقُلُوبِ، وَيَرْدَعُ النُّفُوسَ عَنِ الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ، فَيُحْفَظُ الدِّينُ، وَتُحْفَظُ النُّفُوسُ، وَالأَمْوَالُ، وَبِدُونِهِ تَحْصُلُ الْخَسَارَةُ، وَتَفْتَرِقُ الْكَلِمَةُ، وَتَضْعُفُ الشَّوْكَةُ، وَيَخْتَلُّ الْمُجْتَمَعُ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم