تأملات في سورة التوبة

محمد الغزالي

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/ موقف الإسلام من أصحاب العهود 2/ خبايا التآمر على الإسلام 3/ وجهة النظر الإسلامية للقتال 4/ تطهير المجتمع من الشرك والنفاق

اقتباس

ولهذا حاولوا النَّيْل منه، وفكروا في أن يتلاعبوا به، وأن يتخذوا طريقا مغشوشاً يستغلون الهدنة التي تُفرض، أو المسالمة التي يبسط المسلمون أيديهم بها، يستغلون هذا للَّعب بالإسلام، والعبث به، فنزلت هذه السورة ترفض كل هذه المحاولات، وتكشف خبايا أصحابها، وتأمر المسلمين أن يعاملوا بالسيف من أبى أن يستمع إلى الحق، وأن يترك غيره يقتنع به إذا شاء. هذه السورة بدأت بداية حاسمة صارمة تمنع التلاعب والعبث؛ ولذلك نزعت معاني الرحمة من صدرها ..

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فإن سورة براءة من آخر الوحي الذي نزل على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الوحي الذي ظل ينهمر قرابة ربع قرن يربي الجزيرة العربية، ويمهد للحق مكاناً حصيناً في ربوعها.

وهذه السورة تميزت بخاصية لم تُر في السور الأخرى، هي أن البسملة انتزعت من صدرها، نزلت هكذا: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [التوبة:1]، والسر في ذلك أن السورة المباركة أنهت وضعاً معلقاً بين المسلمين وخصومهم، فإن الإسلام منح الناظرين فيه والمستمعين إليه حرية واسعة في أن يؤمنوا به إذا شاءوا، وأن يكفروا به إذا شاءوا، لا إكراه ولا ضغط.

هو دين يعتمد على صلاحيته الذاتية، وعلى حقائقه التي تتجاوب مع منطق الفطرة والعقل؛ ولذلك فإنه ما يفكر في القوة يرغم بها الآخرين، إنه يعتمد على بيئة حرة يستمع الناس فيها، ويشعرون بمسؤوليتهم الأدبية بإزاء ما يلقى عليهم، وما يستمعون إليه ببصائرهم وأفكارهم؛ ولذلك طالما قال لمن يعارضونه: (قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سبأ:25].

وعندما أراد المشركون نقل اللجاجة والجدل في شخص الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم ومن معه كان الرد الإلهي على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الملك:28]، ثم يطمئن إلى أن المستقبل على امتداد الأيام للحق الذي يمكن من أن يعرض نفسه، وأن يسمع الآخرين وجهة نظره، وأن يبسط الأدلة التي ترد الشبهات، وتكشف التُّرَّهات، ولذلك يقول: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس:41].

لكن هذه الحرية الواسعة فهمها أعداء الإسلام غلطاً، فهموها خطأ، ظنوا الحرية ضعفاً، ظنوا المرونة ميوعة، ظنوا أن الإسلام إذ يعرض نفسه بهذه الأدلة وحدها، ويدفع نفسه هجوم المعوِّقين فقط، ظنوا ذلك دليل ضعف، ولهذا حاولوا النَّيْل منه، وفكروا في أن يتلاعبوا به، وأن يتخذوا طريقا مغشوشاً يستغلون الهدنة التي تفرض، أو المسالمة التي يبسط المسلمون أيديهم بها، يستغلون هذا للعب بالإسلام، والعبث به، فنزلت هذه السورة ترفض كل هذه المحاولات، وتكشف خبايا أصحابها وتأمر المسلمين أن يعاملوا بالسيف من أبى أن يستمع إلى الحق، وأن يترك غيره يقتنع به إذا شاء.

هذه السورة بدأت بداية حاسمة صارمة تمنع التلاعب والعبث؛ ولذلك نزعت معاني الرحمة من صدرها لأنها تضمنت القصاص من المجرمين، والتأديب للمعتدين، وكان العرب المشركون -عُباد الأوثان- كانوا ثلاثة أصناف: صنف عاهد المسلمين عهداً مغشوشاً فهو يعطي الكلمة ولا يرتبط بها، يظهر أنه أمن غيره وقبل الأمان منه وارتضى أن يعيش مسالماً، ثم في الظلام ومن وراء ستار يبدأ يكيد للإسلام ويؤذي المسلمين، هذا نوع عاهد ولم يرتبط بمعاهداته؛ ونوع آخر عاهد -من المشركين- ووفى بعهده؛ ونوع ثالث لا يدري أن هناك شيئاً يربطه بغيره، أو أن هناك دعوة ينبغي أن يحدد وضعه منها.

وصدر سورة براءة نزل يحدد موقف الإسلام من الفئات الثلاث، فأما الذين تلاعبوا بالعهود فقد أُمر المسلمون أن يضربوهم وأن يؤدبوهم وأن يعالجوهم بالسيف: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ما هو المطلوب؟ لديكم مهلة أربعة شهور تفكرون فيها تفكيراً جادا، فإما كنتم رجالا تحترمون كلمتكم وتؤدون حق الله عليكم، وإما لا مكان لكم في هذا البلد، وإما قطع الرقاب: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة:2-3]، إعلام (إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) يوم عرفة، أو يوم النحر، على الخلاف بين العلماء، (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة:3]، هذا الموقف ممن؟ ممن لعب بالعهود، وعبث بالكلمات أما الذين عاهدوا واحترموا كلمتهم، ولم يحاولوا إيذاء المسلمين والنيل منهم، فقد قال الله فيهم: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:4]، الذين وفوا لهم الوفاء، والذين غدروا لهم السيف، وهذا تصرف حسن.

ثم بعد انتهاء الشهور الأربعة يُضرب المشركون. من الذين يُضربون؟ الذين يضربون الذين نقضوا العهود وعبثوا بها، قال تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة:5].

هناك ناس لا يدرون شيئاً، لا صلة لهم لا بنقض المعاهدات ولا بالوفاء بها، هم ناس عاديون لم يدركوا عن طبيعة الدعوة الإسلامية شيئاً؛ فما المواقف من هؤلاء؟ الموقف من هؤلاء أن يؤمَّنوا على أنفسهم، وأن يعاملوا بكرم وشرف، وألَّا يُروَّعوا، بل يتركون على سجيتهم، إن شاءوا دخلوا في الإسلام وافرين، وإن شاءوا ابتعدوا عنه. قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) [التوبة:6]، هؤلاء الجهلة لهم عذرهم، أمَّنهم على أنفسهم، أبلغهم المكان الذي يطمئنون فيه، ويسترحون به، فإن جاءوا بعد ذلك مؤمنين قبل منهم إيمانهم، فالإسلام لا يعرف الجبروت ولا الضغط.

ثم يبدأ الوحي الإلهي يكشف عن السبب في هذه المعاملة، ويحدد مرة أخرى الموقف ممن وفى بعهوده وممن لم يوف بها، فيقول جل شأنه: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) -ويستثني- (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:7]، ويؤكد أن نقض العهد إنما كان مع من نقض عهده ولعب بكلمته، وعبث بشرفه: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [التوبة:8-9]، هل اعتدينا عليهم؟ لا. هؤلاء هم الذين اعتدوا، ولذلك فإن معاملتهم بهذا الحسم عدالة: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) [التوبة:10]، لا عهد ولا موثق ولا يمين، إذا لا كرامة لهم.

هذا المعنى الذي بدأت به السورة يقتضينا أن نعرض وجهة النظر الإسلامية في القتال، فإن بعض العابثين، بعض الجهال، بعض المبشرين والمستشرقين، لا يدرون جيداً -وربما دروا ولكنهم يغالطون- موقف الإسلام من القتال، العلاقة بين الإسلام وبين سائر الناس من وثنيين، من كتابيين، من ملحدين، العلاقة أساسها على النحو الآتي: نحن أصحاب دين يكلفنا أن نعرضه على الخلق كلهم، هذا الدين يعرض نفسه على كل من يبلغه، على كل من له عقل، نعرض ديننا ثم نقول للناس: أترون أن قواعد هذا الدين سليمة؟ أترون أن مبادئه راشدة؟ أترون أن قيمه صحيحة؟ فإن قالوا: نعم وآمنوا، فهم منا ونحن منهم، لا يفضل أحدنا الآخر في شيء.

وإن قالوا: لا نؤمن بما جئتم به، قلنا لهم: فلنا تساؤل معكم أنتم رفضتم أن تؤمنوا بما جئنا به أو بما عرضناه عليكم، نريد أن نسألكم سؤالا: هل تتركوننا نعرض هذا الدين على غيركم، وإذا قبل الغير هذا الدين هل تعترضون طريقه وتمنعونه من الإيمان؟ فإن قالوا لنا: أنتم أحرار، نحن كفرنا بكم ولم نصدقكم، لكن جربوا حظكم مع غيرنا، فإن آمن بكم آمن، مالنا به صلة ولا لنا عليه اعتراض، إن كان موقفهم هكذا، فلا سبيل لنا عليهم، ولا كلام لنا معهم، ولا يجوز أن نعترضهم بشيء يسوؤهم في أنفسهم أو أموالهم، قال تعالى في هذا: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) [النساء:90].

أما إذا قالوا لنا: لن نؤمن بكم، ولن نسمع دعوتكم، ولن نسمح لكم أن تعرضوا هذا الدين على غيرنا، وإذا حاول أحد من الآخرين أن يدخل فيه اعترضنا طريقه بوسائلنا المادية أو الأدبية؛ قلنا لهؤلاء: فبيننا وبينكم عداوة لا تنتهي إلى آخر الدهر، فأنتم ظلَمة، تكفرون وتصدون.

إن معنى الكفر هو رفضُ الإيمان، رفض شخصي للإيمان؛ ومعنى الصد: أن تمنع غيرك من أن يدخل في الإيمان: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) [النساء:167-169].

هذا موقف الإسلام من أصحاب الأديان الأخرى، أيرى عاقل أن في هذا الموقف إحراجاً للآخرين؟ نحن ندعو، وهذا حقنا، ومن حق من ابتعد عنا أن يبتعد، لكن لا يجوز له أن يكمم أفواهنا، ولا يجوز له أن يفتن من انشرح صدره بديننا ويمنعه من الدخول فيه، هذه عدالة، لكن هذه العدالة لم ترض الكثير من الناس.

هذه العدالة لم تمسح البغضاء من قلوب شُحنت بالكره لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- فنزلت سورة براءة تعامل هؤلاء المعاملة التي لابد منها، معاملة جاءت بعد اثنين وعشرين عاماً من بدء الإسلام، فإن هذه السورة نزلت في السنة التاسعة من الهجرة، وقبل الهجرة ثلاث عشرة سنة، معنى هذا أن السورة نزلت بعد اثنين وعشرين عاماً من بدء الإسلام، لو تأملنا لوجدنا أنه لم تبق إلا سنة واحدة ويذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى، أي أن سورة براءة نزلت قبل سنة من موت نبينا -عليه الصلاة والسلام-، والله -جل شأنه- يعلم أن العرب سيتركهم من رباهم، ومن دعاهم، ومن جمع شملهم، ومن رفع رايتهم؛ سيتركهم بعد سنة، هذا شيء في غيب الله لا يعلمه الناس، ولكن عالم الغيب والشهادة الذي يعرف متى يسترجع نبيه -صلى الله عليه وسلم- إليه، كان عندما أنزل سورة براءة، يعلم أنه سيسترجع نبيه -صلى الله عليه وسلم- بعد سنة، هل يسترجع نبيه -صلى الله عليه وسلم- إليه والمجتمع العربي مختلط مضطرب تعبث فيه جراثيم الفساد والنفاق؟ لا.

لابد إذاً من تطهير هذا المجتمع من الشرك والنفاق، لابد من جعل هذا المجتمع نقيا بعيداً عن الغش والتدليس، هذا هو المحور الذي دارت عليه سورة براءة (تطهير المجتمع الاسلامي)، هذا التطهير هو عملية تنقية المجتمع من الشوائب؛ حتى يستطيع هذا المجتمع المتماسك بروح الله، المستنير بعقيدة التوحيد، هذا الذي كلف أن ينقل دعوة التوحيد إلى العالم أجمع، وأن يصدرها إلى القارات الخمس، هذا المجتمع يجب أن ينقى؛ حتى يقدر على حمل الأعباء، وحتى إذا رفع الراية لم يجيء من الظلام أو من وراء ستار من يعبث أو يحاول تنكيس الراية المرفوعة.

إذا تنزل سورة براءة لجعل المجتمع الإسلامي ينقى من النفاق ومن الشرك. كيف ينقى من الشرك؟ في السنة التاسعة من الهجرة كان المشركون -على ما سمعتم- لا تزال لهم فلول متوارية، حقيقة أنهم انهزموا في معارك كثيرة، ولكن ما تغلغل في صدورهم من حب للأصنام، ومن حنين إلى الجاهلية، ومن تمسك بمآثرها، وما فيها من تقاليد ضالة، كان ذلك موجوداً في الأمة، موجوداً في الجزيرة العربية؛ فكيف الطريق إلى غسل رمل الجزيرة من كل أثارة الشرك؟ الطريق أن يرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- على بن أبي طالب بهذه السورة -بصدرها الأول- إلى موسم الحج، وكان أمير الحج في السنة التاسعة أبا بكر -رضي الله عنه-، فذهب عليّ وابلغ أبا بكر المهمة اتلي كلف بها.

سورة براءة يمكن أن تقسم قسمين متميزين من ناحية الموضوع، النصف الأول أو الثلث الأول من السورة يطهر الجزيرة من الشرك، من عبادة الأصنام، من تقاليد الجاهلية القديمة؛ الثلثان الآخران من السورة يطهران الجزيرة من النفاق.

تطهير الجزيرة من الشرك بدأ على هذا النحو: يذهب على يد أبي طالب -رضي الله عنه- ويقرأ صدر سورة براءة على الناس ويعاونه أبو بكر -رضي الله عنه- فيرسل مُنادين يرددون التعاليم الجديدة في الموسم الجامع.

ما هي التعاليم الجديدة؟ "لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان". كانت الجاهلية تجمع بين ريغ كثير، وحق قليل، كانت بقايا من ديانة إبراهيم تجعلها تحترم الكعبة، ولكن رواسب كثيرة من خرافات الفكر الوثني كانت تسيطر على شعائر الحج، فكان النساء يطفن عرايا، وتقول المرأة كلاماً معيباً لا يقال، هذا كلام يجب تطهير المجتمع الإسلامي منه؛ لذلك نزل في صدر سورة براءة: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة:17-18]، وقد أمر المسلمون أن يمنعوا كل مشرك من أن يجئ إلى البيت حاجاً بتقاليده القديمة، وأوزاره الأولى، إن شاء آمن وطاف، وإلا فلا تقبل هذه الدنايا حول البيت الحرام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [التوبة:28].

لكن هذا الكلام الحاسم له تبعاته، ما تبعاته؟ تبعات عسكرية، وتبعات اقتصادية، فأما التبعات الاقتصادية فإن المسلمين في مكة أحسوا أن منع المشركين من المجيء سيجعل أسواق مكة تفتقر، أو يقل الرواد، وبالتالي إذا ضعف موسم السياحة على هذا النحو قلت أرزاق الناس في مكة، هذا أمر يتصل بالناحية الاقتصادية، وقد قال الله فيه: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً)، أي: فقراً، (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة:28].

وأما الناحية العسكرية فإنه يقول للمسلمين: متى كنتم تنتصرون بقواكم الخاصة؟ متى كنتم تكسبون المعارك بالجهد المادي وحده؟ إن المعارك التي كسبتموها قديما كسبتموها لأن الله رأى أن يرفع خسيستكم، وأن يُعلي شأنكم، وأن يُعِزَّ جانبكم، وإلا فلو ترككم وحولكم وطولكم وقواكم ما كسبتم حرباً.

ثم يقول للمسلمين: وقد كثرتم يوماً وغرتكم كثرتكم، وظننتم أن كثرتكم سوف تغنيكم عن عناية الله، وتأييد السماء، فماذا حدث؟ انهزمتم: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) [التوبة:25-26]، (وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا)، ما هي الجنود التي لا نراها؟ شيء يعلمه الله، ولكن الذي يتأكد منه المؤمن والكافر أن النواحي العصبية والعاطفية والفكرية يمكن أن تستقر وترشد وتضع أفضل الخطط، ويمكن أن تظلم وتضطرب وتعوج وتضع أسوأ الخطط، يمكن أن تصبر وتصابر من أصابع الرحمن، ففي الحديث: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء".

قد يجعلك جريئا جلدا مقداما تطفر بك الوقعات من نصر إلى نصر، وقد يجعلك هيَّاباً قلقاً تتراجع من مكان إلى مكان، لكن هل معنى أن الله -عز وجل- قال: (سأنصر)؟ إن الذين كلفوا بالقتال وحملوا راية الإيمان يتواكلون أو يفرطون؟ لا لقد أُمر المسلمون في صدر هذه السورة بأن يستعدوا استعدادا أوله أن يعالنوا الناس بما عندهم، وأن يقولوا لكل مخلوق: لقد قررنا أن نقيم مجتمعاً للإسلام، ودولة تأخذ لربها ولنفسها ما تريد، فمن أراد أن يعترض فنحن له بالمرصاد، ومن نكص أو عجز أو غلبته الرهبة والخشية فلم يتحمل إقامة الدولة الجديدة فليعلم أنه ضعيف الإيمان، بعيد عن دائرة الإسلام.

ولذلك يقول الله في الصفحة الثانية من هذه السورة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [التوبة:16]، فالله لا يترك المؤمنين يحاولون أن يلعبوا على حبلين، أو أن يعيشوا في الأرض بوجهين، لابد من مصارحة، إما أن تكون مسلما تؤمن بالدين كله، وتحوطه من جوانبه كلها، وتنهض مدافعاً عنه دون قلق، وإما أن تعلم أن الله لا يرضى عنك ولا يؤيدك.

هذا بالنسبة إلى الوثنية التي كانت تحج البيت مشركة، وتطوف به عارية؛ أما أهل الكتاب فإن الإسلام نظر إلى أهل الكتاب فوجدهم أنواعاً، هناك أهل كتاب حقَدة فسَدة، لا يؤمنون بالله ولا بأنبيائهم، ولا بما لديهم من صحائف، هناك أهل كتاب يملؤون الدنيا بالخنا، ويستبيحون في أرضهم الزنا، ويجعلون الاقتصاد قائما على الربا.

هناك أهل كتاب لا دين لهم في الحقيقة، وهؤلاء كلف المسلمون أن يعاملوهم معاملة فيها بأس، لكن ما البأس هنا؟ قال: يجردون من السلاح، ويؤخذ منهم مال يعتبر "بدل عسكرية"، ويبقون على دينهم في حماية الأمة الإسلامية. هذا المسلك أشرف واعدل مسلك عرفته الدنيا، لم؟ أنا سأضرب مثلا صريحاً: اليهود يحاربون "مصر" الآن -ولْأكن مصريا فقط- كان في مصر نحو خمسين ألف أو ثمانين ألف يهودي، إذا كلفنا اليهودي المصري أن يقاتل اليهودي في إسرائيل، فهل أنتظر أن يكون مقاتلا مخلصاً جلداً صبوراً؟ فإذا قلت له: ابق على دينك، وعش في جواري، وادفع مالا هو ثمن ما أدافع أنا به عن هذه الأرض، وعمَّن يعيشون فوقها آمنين، أأكون بهذا ظالما؟ أي مسلك أشرف من هذا المسلك؟ لا أكلفة مقاتلة إخوانه في الدين، ويعينني بمال قليل مثل ما يعين المسلمون بأنفسهم وأقل مما يعين المسلمون بأنفسهم ودمائهم.

هذا المال القليل هو الذي يسمى "جزية" والذي تحدث عنه بعض المسعورين من الحاقدين على الإسلام، قالوا كلاماً مغشوشاً ليس فيه عقل ولا تقدير ولا عدالة، لأن الله يقول: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة:29].

أيا ما كان الأمر فإن هذه البحوث الفرعية ليست من منهجنا في التفسير الموضوعي الذي حرصنا على أن يكون رسم صورة شمسية للسورة الكبيرة من القرآن، وقد قلت: إن سورة براءة تدور حول محور واحد هو: تطهير الأمة العربية المسلمة، تطيرها من الشرك ومن النفاق، وقد انتهينا من هذا الثلث الأول في السورة، بينا فيه كيف طهر المجتمع العربي الأول من الشرك، ولنا عود إن طال بنا الأجل إلى الثلثين الباقيين من السورة نرى كيف طهر الإسلام المجتمع الإسلامي العربي الأول من النفاق.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].

وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وادرسوا أيها المسلمون تاريخكم الغابر والحاضر، القديم والمعاصر، وتأملوا كذلك تواريخ غيركم، فإن تاريخ غيرنا مليء بالمآسي، إن الحروب الدينية لا يعرفها التاريخ الإسلامي أبداً، ولكن عرفتها أراض أخرى لوث أديمها بالدماء المهراقة بغزارة، بسبب الاختلاف لا في الدين فقط، بل في المذهب الديني؛ أما نحن، فديننا بلغ من السماحة حدا لا يعرف لدين آخر أبداً.

لفت نظري شيء، لو أنك اختبرت المثقفين عندنا من الدارسين، لا في المدارس المتوسطة بل في الجامعات، لو حدثتهم عن "شارل مارتل" ما عرف أكثرهم ما شارل مارتل، والذي يقرره التاريخ أن شارل مارتل رجل فرنسوي أوربي هزم المسلمين في معركة "بلاط الشهداء" في الأندلس، وكان سبب انهزام المسلمين أنهم تفرقوا قبائل وعصبيات؛ وانتظروا الغنائم، ونسوا وجه الله، فهزمهم شارل مارتل، وكانت الهزيمة عادلة، وإن كان عدد من المؤرخين -لا أدي أهو حق أم هي أساطير؟- يقول: إنه يمر بمقابر الشهداء المسلمين هناك فيسمع خلالها -أحياناً- أصوات الأذان! لا أدري اهو حق أم خيال؟ لكنه على كل حال يعطي فكرة عن أن المسلمين الأولين قاتلوا من أجل: الله أكبر، وتحت لواء: الله أكبر، وهذا هو الذي جعل الناس يسمعون أو يتخيلون.

المعركة -طبعاً- لا تدرس، ربما يدرس تاريخ نابليون ولا يدرس السر في هزيمة المسلمين في هذه المعركة، لكن أوربا لا تنسى، في الأسبوع الماضي هوجمت سفارة الجزائر، وقتل عدد من الأشخاص، وجرح نحو عشرين شخصاً، وأعلنت الجمعية المسؤولة عن هذا الحدث أنها جمعية "شارل مارتل" وأنها تريد إخراج العرب من فرنسا، وهم يشتغلون هناك عمالا!.

نحن ننسى أما غيرنا فيذكر، نحن أصحاب قلوب بيضاء إلى حد البلَه، أما غيرنا فإن ضغائنه راسبة في أعماقه إلى حد الخبث والدهاء. ألا نرعوي؟ ألا نفكر؟ ألا نتجمع حول ديننا؟ إن اليهود يتحدثون عن أن "مؤتمر جنيف" -لا أسميه مؤتمر السلام- سوف يعطل يوم السبت، لأن العمل يوم السبت لا يجوز عند اليهودية! هل يحترم المسلمون دينهم وشعائرهم ويعلمون أن هناك حلالا وحراماً في دينهم فينبغي أن يراعى هذا، وأن تحترم حدود الله؟ أم لا نفهم؟ وإلى متى لا نفهم؟.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر."

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].

 

 

 

 

المرفقات

في سورة التوبة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات