بيوتنا بين نار القسوة وبرد الرحمة

الشيخ شايع بن محمد الغبيشي

2024-05-17 - 1445/11/09 2024-05-26 - 1445/11/18
عناصر الخطبة
1/نموذج من رحمة النبي بالأطفال 2/الأسرة كيان أساسه الرحمة 3/من صور القسوة في بيوتنا 4/من آثار القسوة وضررها على الأولاد 5/إشاعة النبي للرحمة في بيته

اقتباس

يقول أحد المربين عن آثار القسوة على الأسرة: "كراهية الأطفال لمنازلهم وأسرهم، وعدم الرغبة في البقاء فيها، أو استمرار حياتهم مع والديهم أو ذويهم، ومن هنا يفرون إلى الشوارع والطرقات، والتجمعات المختلفة، حيث يجدون حرية أوسع وأكبر، الأمر الذي يعرضهم إلى الكثير...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الْحَمْدَ لِلَّهِ رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

 

عباد الله: أوصيكم بلزوم تقوى الله حتى نلقاه؛ قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

إخوة الإيمان: تأملوا هذه القصة عن أَبي هريرة -رضي الله عنه- قَالَ: قبَّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "من لا يرحم لا يرحم"(مُتَّفَقٌ عَلَيهِ)، وعائشة -رضي الله عنها-: قالت: جاء أعرابيّ إِلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إِنَّكُمْ تُقَبِّلُونَ الصِّبيان، ولا نُقَبِّلُهم، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : "أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَن نَزَعَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِن قَلبِكَ؟"(أخرجه البخاري، ومسلم).

 

عباد الله في القصة السابقة دروس وهدايات منها:

أولاً: خلق القسوة الذي اكتسبه هذا الأعرابي -رضي الله عنه- من طبيعة الصحراء، فها هو يستنكر تقبيل النبي -صلى الله عليه وسلم- للحسن بن علي، ويستنكف أن يكون ممن يقبل الأطفال؛ فقد علمته الصحراء أن القسوة في التربية تخرج رجلاً قوي الشكيمة شديد البأس، وأن الرقة والرحمة تورث الضعف والخور، وغاب عنه أنها تورث الضغينة، وتفرق الشمل، وتشتت الأسرة، وتحرم من رحمة الله.

 

فأراد محمد -صلى الله عليه وسلم- الرحمة المهداة أن ينتزع هذا الخلق المشين من قلبه فقال: "أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَن نَزَعَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِن قَلبِكَ؟"، ويا لها من عبارة قوية تستقبح قسوة القلوب وتعد ذلك نوع من الحرمان، ثم يعيد النبي -صلى الله عليه وسلم- الكرة على قلب الأقرع فيقول: "من لا يرحم لا يرحم"، فمن الذي يستغني عن رحمة الله؟! لذا علينا أن نجتهد في التربية على أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن أعظمها خلق الرحمة، واستنكار صورة القسوة والفضاضة.

 

ثانياً: القصة تكشف خطر القسوة على البناء الأسري وأنها معول في هدم الأسرة وتفرقها؛ تملأ القلوب بغضاً وكراهية، فلا تعاطف ولا تراحم ولا محبة ولا وداد، عندما تحدث الله -جلا وعلا- عن بناء الأسرة امتن علينا بأن هذا البناء أنما يكون بلبنات المودة والرحمة، فقال -سبحانه-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم: 21]، وقال -سبحانه- عن علاقة الأبناء بوالديهم: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 23، 24]، قال المناوي -رحمه الله-: "ومن لم يعط حظه من الرحمة غلظ قلبه وصار فظًا، لا يرق لأحد ولا لنفسه، فالشديد يشد على نفسه ويعسر ويضيق، فهو من نفسه في تعب، والخلق منه في نصب".

 

ها كم -عباد الله- القسوة:

أم تشتكي من قسوة أبنائها فتقول: أشتاق لرؤيتهم تمر الأيام والأسابيع والكل مشغول بزوجه وأولاده وعمله، وتناسوا أن هناك قلب يشتاق إليهم وعينان تريد أن تكتحل برؤيتهم، كم من ليلة تذكرتهم فيها فكان سميري الزفرات والدموع!.

 

أب يقول: كبر سني وخارت قواي، وأصبحت وحيداً في حاجة إلى العطف والإحسان، وأبنائي كل واحد منشغل عني بحياته، أكثر ما يؤلمني سؤال الناس: أين أبناؤك عنك؟ أعتذر لهم بلسان وقلبي يكذب تلك الأعذار، ليتهم يعلمون كم تعبت وتغربت وسهرت وعرقت من أجلهم!.

 

زوجة تقول: زوجي كثير الخصام لأتفه الأسباب يقيم الدنيا ويقعدها، كريم جواد لكن مشكلته في سرعة الغضب، صحيح أنه سرعان ما يعتذر ولكن غضبه وقسوته أحياناً علي وعلى أبنائي تجعلنا نتضجر من تلك الحياة مع حبي الشديد له.

 

وأخرى تقول: زوجي مغترب عني سنين طويلة، ولا يخلو اتصال بي من العتاب، يتجاهل أني احتاج إليه احتاج إلى قربه افتقد رؤيته، النساء حولي ينعمن برؤية أزواجهن، وأنا يمر عليّ العام تلو العام لم اكتحل برؤيته، ألا ما أقسى الحياة!.

 

ابن يشتكي: أبي يشتمني يعنفني يضربني أمام إخوتي، احتمي بأمي ومع ذلك لا يتورع عن ضربي وتقبيحي والسخرية مني، فلا تملك أمي إلا انت تشاركني البكاء، كرهت الحياة، أتساءل: أبي لماذا تريدني أن أكرهك؟!.

 

شاب في الثانوية يقول: زارني زملائي يوماً فتمازحت مع أبي وتعاركنا، وامتلأ المجلس بالأنس والضحك، فقال لي أحد زملائي: ليت أبي مثل أبيك، ليته يعاركني ويضمني إلى صدره، إنني أخاف من نظراته رغم حبي الشديد له!.

 

سألت طفلاً يوماً: أين والدك؟ قال بفرح طفولي: الحمد لله أبي مسافر، قلت له: كيف تفرح بسفر أبيك؟! فقال: نرتاح من المشاكل ولو يومين.

 

تلك صور واقعية تكشف قبح القسوة والفضاضة وخطرها على الأسرة والمجتمع، وهذا يوجب عينا أن نجتهد في اقتلاع القسوة من بيوتنا ونزرع فيها الرحمة والمحبة، والسلامة من أثارها المدمرة، يقول أحد المربين عن آثار القسوة على الأسرة: "كراهية الأطفال لمنازلهم وأسرهم، وعدم الرغبة في البقاء فيها، أو استمرار حياتهم مع والديهم أو ذويهم، ومن هنا يفرون إلى الشوارع والطرقات، والتجمعات المختلفة، حيث يجدون حرية أوسع وأكبر، الأمر الذي يعرضهم إلى الكثير من ألوان الانحرافات السلوكية المختلفة، أو أن يمارسوا ألواناً من السلوك المضاد للمجتمع، يُعَدّ التشرد والإجرام أبرزها وأوضحها".

 

فعلينا -عباد الله- أن نجنب بيوتنا ويلات القسوة وأثارها.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَى نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.

 

عباد الله: من هدايات القصة:

ثالثاً: أن الرحمة أعظم ما ينبغي أن يعامل به المرء من يخالطهم، وأنه لا ينال رحمة الله حتى يعاملهم بذلك؛ ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "من لا يرحم لا يرحم"، وما أجمل قول ابن القيم -رحمة الله-: "من رفق بعباده رفق به، ومن رحم خلقه رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن صفح عنهم صفح عنه، ومن تتبع عورتهم تتبع عورته، ومن هتكهم هتكه وفضحه، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن شاق شاق الله -تعالى- به، ومن مكر مكر به، ومن خادع خادعه، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله -تعالى- بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة؛ فالله -تعالى- لعبده على حسب ما يكون العبد لخلقه".

 

عباد الله: ما أحوجنا إلى خلق الرحمة، هذه مقتطفات من حياة محمد -صلى الله عليه وسلم- وسيرته مع أهل بيته، وأيم الله إنها أعظم مدرسة لتعليم السعادة الأسرية، فتعالوا نتسلل إلى حياته -صلى الله عليه وسلم- الأسرية: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: "زَارَتْنَا سَوْدَةُ يَوْمًا فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنِي وَبَيْنَهَا إِحْدَى رِجْلَيْهِ فِي حِجْرِي، وَالْأُخْرَى فِي حِجْرِهَا، فَعَمِلْتُ لَهَا حَرِيرَةً، أَوْ قَالَ: خَزِيرَةً، فَقُلْتُ: كُلِي، فَأَبَتْ فَقُلْتُ: لَتَأْكُلِي، أَوْ لَأُلَطِّخَنَّ وَجْهَكِ، فَأَبَتْ، فَأَخَذْتُ مِنَ الْقَصْعَةِ شَيْئًا فَلَطَّخْتُ بِهِ وَجْهَهَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رِجْلَهُ مِنْ حِجْرِهَا تَسْتَقِيدُ مِنِّي، فَأَخَذَتْ مِنَ الْقَصْعَةِ شَيْئًا فَلَطَّخَتْ بِهِ وَجْهِي، وَرَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَضْحَكُ، فَإِذَا عُمَرُ يَقُولُ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "قُومَا فَاغْسِلَا وُجُوهَكُمَا، فَلَا أَحْسِبُ عُمَرَ إِلَّا دَاخِلًا"(رواه النسائي وحسنه الألباني).

 

لقد كانت السمة البارزة للنبي -صلى الله عليه وسلم- الرحمة وإدخال الأنس والسرور على من يعاشره، بل  كان -صلى الله عليه وسلم- يستغل الفرص والأحداث اليومية لتعميق الحب وإضفاء الأنس على حياته الزوجية، فعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ جَارًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَارِسِيًّا كَانَ طَيِّبَ الْمَرَقِ، فَصَنَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ جَاءَ يَدْعُوهُ، فَقَالَ: "وَهَذِهِ لِعَائِشَةَ"، فَقَالَ: لاَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ"، فَعَادَ يَدْعُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَهَذِهِ"، قَالَ: لاَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ"، ثُمَّ عَادَ يَدْعُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَهَذِهِ"، قَالَ: نَعَمْ، فِي الثَّالِثَةِ، فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ حَتَّى أَتَيَا مَنْزِلَهُ"(رواه مسلم).

 

عباد الله: كم نحن في أمس الحاجة إلى أن نتأسى برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليحل السعد في بيوتنا، فقد كان يغمر ابنته فاطمة بحبه واحترامه وتقديره، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها فقبلها، وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيد فقبلته، وأجلسته في مجلسها"(رواه أبو داود وصححه الألباني)، وتقول -رضي الله عنها-: "اجتمع نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يغادر منهنّ امرأة، فجاءت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "مرحباً بابنتي"، فأجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم إنه أسر إليها حديثاً فبكت، ثم إنه سارها فضحكت"(رواه مسلم).

 

عباد الله: هكذا كان محمد -صلى الله عليه وسلم- يملأ بيته بالرحمة والمحبة والوداد، ولا تخلو حياته من المزاح والبهجة، ولم تذكر عنه -صلى الله عليه وسلم- صورة واحدة من صور القسوة والفضاضة، فما أحوجنا أن نجنب بيوتنا نار القسوة ونذيقها برد الحب والرحمة.

المرفقات

بيوتنا بين نار القسوة وبرد الرحمة.doc

بيوتنا بين نار القسوة وبرد الرحمة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات