عناصر الخطبة
1/ الحديث عن المناسبات عند وقتها ليس من البدع 2/ منزع بدعة المولد وصور من تعظيمها 3/ الحديث عن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من ولادته 4/ بطلان إرهاصات ومعجزات ولادته صلى الله عليه وسلم 5/ من أباطيل المؤرخين عن مولده عليه الصلاة والسلام 6/ إبطال المرويات لا تعني إبطال ما جاء من معجزات 7/ خطورة التساهل بالمرويات الكاذبة 8/ كتاب الله تعالى أعظم معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم غفلنا عن تعظيمه 9/ الجهل والتخلي عن الشرع سببان في الوقوع في الشرور 10/ أحاديث الهجرة هي أعظم ما يتحدث عنهاقتباس
.. وعمدًا فعلتُ ذلك، أن أعطف بالحديث عن المولد إلى الحديث عن الوفاة، حيث انقطاع الرسالة وإكمال الدين وإتمام النعمة، ولكن لم يكن صرف الحديث عن المولد إلى الوفاة قصدًا إلى معارضة الاحتفال بالتأبين والتناوح، ولا إلى مقابلة الأفراح بالأتراح، ولكنه الحديث الذي تقتضيه مناسبته؛ فمن مفارقات الأقدار أن يكون مولدُ النبي صلى الله عليه وسلم وهجرتُه ووفاته في شهر واحدٍ ..
أما بعد: كان حديثُ الجمعة الماضية عن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، في وقتٍ كان كثيرون قد تهيؤوا للاحتفال بذكرى مولده عليه الصلاة والسلام بمدائح نبوية لا تخلو غالبًا من غلوٍ في الإطراء كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه حتى في مرض موته، وفي جو تحيط به طقوسٌ لم يأذن بها الله.
وعمدًا فعلتُ ذلك، أن أعطف بالحديث عن المولد إلى الحديث عن الوفاة، حيث انقطاع الرسالة وإكمال الدين وإتمام النعمة، ولكن لم يكن صرف الحديث عن المولد إلى الوفاة قصدًا إلى معارضة الاحتفال بالتأبين والتناوح، ولا إلى مقابلة الأفراح بالأتراح، ولكنه الحديث الذي تقتضيه مناسبته؛ فمن مفارقات الأقدار أن يكون مولدُ النبي صلى الله عليه وسلم وهجرتُه ووفاته في شهر واحدٍ، في شهر ربيعٍ الأول، ولكن في أيام مختلفة.
على أنه ليس من البدعة في شيء أن يُجرى الحديث عن حادثة عند مرور مناسبتها أيا كانت الحادثة، فلكل حادثة حديثُها الذي نجده أنسبَ ما يكون عند مرور مناسبته، وإذا كنا نستحسن الحديثَ عن التوبة وحسنِ الخاتمة أو عن أهميةِ الوقت في أول كل سنةٍ هجرية؛ فليكن الحديثُ عن هجرة النبي ووفاته أمرًا حسنًا هذه الأيام، كما يحسنُ كلُّ حديث يُساق عند مناسبته.
ولا يندرج هذا في البدع، ولا يسوغ أن تبلغ بنا الحساسية من البدع أن نتخوف من مجرد الحديث عن حادثةٍ ما متى مرّت مناسبتُها وسنحت ذكراها.
ولْنفهم حقيقة البدعة ولنميّز حدودَها حتى لا نخلطَ غيرها بها، وننسبَ إليها ما ليس منها، وحتى لا نُدخلَ في دائرة المحظور الممنوعِ العملَ الحسنَ المشروع.
إن منزع البدعة في احتفالات المولد هو في تعظيم اليوم نفسه تعظيمًا يجعله مُشاكلاً لصورة العيد.
ومن صور تعظيمه: اعتقادُ فضلِ يومِه أو ليلتِه وتفضيلُهما على ما فضله الله من الأيام والليالي.
ومن صور تعظيمه: الاحتفالُ بذكراه وإحياءُ ليلته وصيامُ يومه اعتقادًا بمزيتهما، فذلك تعظيمٌ لما لم يعظِّمه الشرع، فلم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أحيا ليلة مولده أو ليلة إسرائه أو هجرته، مع عظيمِ توقيره لشعائر الله وحرصه على التقرب إلى الله بأحب الأعمال إليه سبحانه.
أما الحديثُ عن وفاته صلى الله عليه وسلم أو هجرته أو بعثته أو حجته إلى غير ذلك من مشاهد سيرته - فإنما هو حديثٌ يُساق لمناسبته، واستلهامٌ للدروس والعبر من حدثٍ يُذكر كلما لاح للخيالِ طيفُ ذكراه, فالأمر لا يعدو أن يكون ذكرى وتذكيرًا وحديثًا مجردًا عن تخصيص المناسَبةِ بمزيد تعبدٍ وتعظيم.
أيها الأحبة في الله: في شهر ربيعٍ الأول وُلدَ النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه هاجر، وفيه لحِق بالرفيق الأعلى؛ فلماذا إذًا يُقصر بالحديث على المولد دون الوفاة؟! ولماذا تُصرفُ الأنظار إلى مشهدِ مولده وما يحتف به وهو المشهد الصامت الذي لا يُلهمنا بأي صورة من صور التأسي والاتباع؟! إنما هو مشهد صامت غايةُ ما فيه أنه مولدُ نبيٍ كريم، وبشرى بفجر جديد يبدد ظلمة الشرك والظلم والجهل؛ فلماذا لا تستذكر العقول إلا إشراقةَ البداية وتنسى مواطن التأسي في النهاية؟!
إن الحديث عن المولد ليس بأولى من الحديث عن الهجرة والوفاة، بل لك أن تقول ما هو أبعدُ من ذلك؛ لينقلب الأمر على خلاف ما يبدو ولكن على صورته الصحيحة.
لك أن تقول: إن الحديث في هذه الأيام عن دروس الهجرة والوفاة أولى من الحديث عن قصة المولد بسبعين مرة. وقد يعجب لهذا من يعجب، ولكن ليستأنِ بنا؛ فلعل أن يبدو له ما يُذهب عنه عجَبَه.
إننا لننظر بعين التحقيق والتمحيص في شأن مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يزيدُ ما نراه عن أن يكون مولدَ نبيٍ عظيم مُؤذِنًا بزوال ظلمة الشرك بنور الدين الخالص واندكاك معالم الظلم بظهور شارات العدل الإلهي.
هذا كل ما تُريناه عين التحقيق والتمحيص في أمر المولد، وأما ما يحكيه المؤرخون والقصاصون من إرهاصات المولد ومعجزاته وكراماته فأقاويل باطلة مروية بأسانيد مظلمة، ونحن مُلزمون بالقاعدة الشرعية؛ وهي أن كل ما لا يصح سنده فلا يسوغ قبوله، فكيف إذا خالف منطق صريح العقل؟!
لا يعز علينا أن يكون لمولد نبينا صلى الله عليه وسلم إرهاصات من كرامات ومعجزات، فهو سيد البشر وأكرمهم على الله، إنما الذي يعز علينا هو أن نخالف المنهج الشرعي بتصديق كل ما يقال بلا تثبّت ولا تمحيصٍ لسنده، لمجرد أنه يزيد في الإجلال والتعظيم ويشبع نهمة الإعجاب والتوقير.
إن الإسلام بمنهجه العلمي الفريد يمنعنا أن نندفعَ بعاطفة التعظيم لجنابه الأكرم إلى أن نصدق كل ما قيل لأجل أقاويلَ تقال فتُقبل بلا تثبّت، فلا بد قبل تصديق أي خبر أن يصح سنده.
روى المؤرخون أنه لما كانت الليلةُ التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم ارتج إيوان كسرى -أي: رجف-، وسقطت منه أربع عشرة شُرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضتْ بحيرة ساوة، وأنه قد خرج معه عند ولادته صلى الله عليه وسلم نورٌ أضاء ما بين المشرق والمغرب، حتى أضاءت له قصور الشام وأسواقُها، إلى آخر تلك الروايات التي هي أشبه ما تكون بالأحاجي والقصص.
وقد محص علماء الجرح والتعديل المهرةُ بتمييز الخبر الصحيح من الضعيف، محصوا ما يروى من إرهاصات المولد فلم يجدوا لها سندًا صحيحًا تحتمل به التصديق.
على أننا حين نرفض ما نرفض من ذلك فلا نرفضها لأنها خارقة للعادة مخالفة للسنن ومنطقِ العقل، فقد آمنا بما هو أعظم منها وأبعدُ في هذا الشأن، لقد آمنا وما ارتبنا في شأن الإسراء والمعراج، مع أن العقول لا تحيط به ولا يجري على سنن العادة، فآمنا به من غير تردد؛ لأنه ثابت بآيات محكمات وأحاديث صحاح، وكذلك كان شأنُنا مع المعجزات الثابتة الأخرى، صحّ خبرُها فآمنا بها وصدّقنا ولم نلتفت إلى منطق العقل المحدود.
وليس في إبطال تلك المرويات إبطالٌ لما صح من معجزات النبي الأخرى؛ لأن إبطال تلك المرويات إنما هو من أجل ضعف أسانيدها لا لمخالفتها لمنطق العقل.
فحسبنا ما صحّ من معجزات النبوة وكرامات الرسالة، ففيه الغنية والكفاية عن الاستكثار بما لم يصح والتزيدِ بما لم يثبت.
وحسبنا أن نقول عن مولده صلى الله عليه وسل: إنه إيذانٌ بزوال الظلم واندثار عهده واندكاك معالمه، وإشراقٌ لنور العدل والهداية، وبشرى بانشراح الصدور بدين الله الخالص من لوثات الشرك والخرافات، وإنه لمولد الرحمة للإنسانية كلها بعربها وعجمها وأبيضها وأسودها ومسلمها وكافرها، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]
هذا كل ما نستطيع أن نقوله عن مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في وسعنا أن نتكلف ما لا يثبت ولو بحجة تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وأن مولدَه ليس كمولد أحدٍ من البشر إلى غير ذلك من حجج العاطفة، ولا يصح التساهل في رواية إرهاصات المولد المكذوبة بحجة أنها إن لم تنفع فهي لا تضر، ونذهل عن مضرتها الكبرى وهي الإخلال بالمنهج الحق في تلقي المرويات ونقل الأخبار.
وإن التساهل في رواية الأحاديث الضعيفة والأقاويل المكذوبة تشوّش وتشغب على قبول الأخبار الصحيحة، وشأن من يتساهل في رواية ذلك كشأن من يتساهل في حكاية الأخبار الكاذبة أو يُكثِر من الغرائب، فيقف الناس منه موقفَ الشك والريبة في كل ما يرويه، فلا يصدقون منه حتى الأخبار الصحيحة.
ومن أراد أن يتتبع معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ليزداد إيمانًا بالله وتعظيمًا لنبيه فبين يديه أعظمُ معجزةٍ جاء بها نبيٌ من عند الله، بين يديه معجزةٌ خالدةٌ يراها ويسمعها ويتلوها كل من شاء، بين يديه كتابُ الله العظيم المعجزة الخالدة المحفوظة بحفظ الله، (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:41، 42]، (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) [الشورى:52]
وفي القرآن من العبر والآيات واللطائف ما لا نحتاج أن نتكلف معه معجزاتٍ أو كراماتٍ لا تثبت عند التحقيق. وفي صحاح السنن من الأحاديث من دلائل عظمة النبي صلى الله عليه وسلم وشرف نفسه ونقاء سيرته وحسن هديه وسمته ما يغنينا عن تتبع غرائب الأخبار وأحاديثِ القُصّاص.
وإذا غلب الناس الجهل وأخلّوا بمنهج الشرع وضوابطه فلا تعجبنّ أن تراهم واقعين في أحابيل الشيطان من حيث أرادوا الخير أو قصدوا التعبد وزيادة الإيمان؛ فها نحن نراهم في احتفالات المولد قد أصابوا الشر من حيث أرادوا الخير، ووقعوا في المأثم من حيثُ طمعوا في الأجر والمغنم، وظنوا أن حسن القصد يضمن لهم عدم الوقوع في الزلل، وقعد لهم الشيطان هذا المرصد، يصنع لهم من حُسن نواياهم أعمالاً باطلة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
وذهبوا ليتحدثوا عن محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعظيمه فيأبى الشيطان إلا أن ينحرف الحديث عما كان يهدف إليه من التوقير للنبي والتأسي به ومحبته إلى الغلو في إطرائه بما كان صلى الله عليه وسلم ينهى عنه من وصفه بما لا يليق إلا بالرب جل جلاله. وشغلهم الشيطانُ بالحديث عن إرهاصاتِ المولد وكراماته عن تدبر المعجزات الحقة الثابتة، والتي هي محل الاعتبار والتفكر، وصرفهم عن الحقائق إلى الدجل والخرافات.
إن في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الدروس والعبر ما هو أولى بالحديث من المولد وإرهاصاته المكذوبة، فإذا كنا نعيش في هذه الأيام ذكرى المولد فنحن نعيش معها ذكرى الهجرة والوفاة، بل في الهجرة ما ليس في المولد من مواطن التأسي والاقتداء، ويكفي أن تنفرد حادثة الهجرة بهذا عن المولد أعني بما تحمله من صور التأسي والاقتداء.
ولن نجاوز القولَ المنصفَ الحق إذا قلنا: إن حادثة الهجرة هي أعظم حادثة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد فطن لذلك الفقيه المحدَّثُ الملهم عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه حين عمد إلى التأريخ بالهجرة، ولم يؤرخ بالمولد ولا بالبعثة ولا بالوفاة، واستحسن الصحابة ذلك.
إن هذه الأيام ميقاتُ الحديث عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بما فيها من حادثة الهجرة والبعثة والوفاة والمولد، وليست ميقاتًا لتعظيم هذه الأيام بإحياء ليل ومزيد عبادة واعتقاد فضل يضارع فضل أيام أخرى، وليس ميقاتًا للاجتماع بقصد التهييج على الفرح والطرب لذكرى المولد، أو مأتمًا للتناوح على ذكرى وفاته صلى الله عليه وسلم، أو غير ذلك مما تختلط فيه لواعج الفرح بالحزن.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم