عناصر الخطبة
1/تفاوت الناس في الرزق والمعيشة 2/حال المؤمن في السراء والضراء 3/الحث على كرامة النفس وصفات أهلها 4/النهي عن سؤال الناس أموالهم 5/وجوب تحري المستحقين للصدقاتاقتباس
في المُجْتَمَعِ مَنْ أَجْهَدَهُمُ الفَقْرَ، أُسَرٌ عَنِ المَسْأَلَةِ تَتَعَفَّفُ، أَظْهَرَتِ الدَّلائِلُ والقَرائِنُ شِدَّةَ حاجَتِهِا، ضَعْفُ المَوَارِدِ مَعَ قِلَّةُ ذاتِ اليَد، أَو مَرَضُ العائِلِ مَعَ فَقْرِه، أَو غِيابُ الرَّاعِي أَو فَقْدِه، أَو تَراكُمُ الدُّيُونِ، أَو غَيْرِ ذلِكَ مِن القَرائِن التي هِيَ مِنْ سِيما المُتَعَفِّفِيْنَ وعَلامَاِتهِم...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أَيُّهَا المُسْلِمُوْنَ: فَقِيْرٌ يَتأَلَمُ لِفَقْرِه، وغَنِيٌّ يَزْهُو في غِناه، ضَعِيْفٌ يَتَأَلَمُ لِضَعْفِهِ، وقَوِيٌّ يَتَبَاهَى بِقُواه، شَرِيْفٌ لَهُ الطُرُقَاتُ تُفْرَشُ، ومَغْمُورٌ يْدْفَعُ بالأَبَواب، مَنازِلُ تَتَفاوَتُ، ومَراتِبُ تَتَبايَنُ، وأَرزَاقٌ مِنَ الرَّحْمَنِ قَدْ قُسِمَتْ؛ (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[الزخرف: 32].
والحَياةُ قُلَّبٌ والأَيامُ دُوَلٌ، والمرءُ يَتَعَبُدُ للهِ بِما قَسَمَ لَه؛ فَيَشْكُرُ في السَّرَّاءِ، ويَصْبِرُ في الضَّراءِ، ويَسْتَعِيْذُ باللهِ من البَلاءِ، ويَسأَلُ رَبَهُ دَوامَ العَافِيَة، لا يَتَكَبَّرُ إِنْ مَلَك، ولا يَتفاخَرُ إِنْ وجَد، ولا يَبْطُرُ إِن اغْتَنَى، ولا يَيأَسُ إِن ضَاقَتْ بِهِ الحِيَل.
وكَرامَةُ النَّفْسِ لا يَصْنَعُها غِنَى، ولا يُسْلُبُها فَقْر، كَرامَةُ النَّفْسِ ملازِمَةُ للمَرءِ إِنْ هُوَ لِدِيْنِه أَقامَ، ولأَخلاقِهِ هَذَّبَ، ولمروءَتِهِ حَمَى، ولماءِ وجههِ حَفِظ، كَرامَةُ النَّفْسِ أَنْ يَنَأَى بِها المرءُ عَنْ كُلِّ سُلُوكٍ يَشِيْنُها، وعَنْ كُلِّ عَملٍ يُحُطُّها.
كَرامَةُ النَّفْسِ لا تُصْنَعُ بالمَظاهِرِ، ولا تُجْلَبُ بالغِنَى، ولا تُسْلَبُ بالفَقْرِ، ولا تُنْتَقَصُ بِضَعْفِ الجَاه، ففي الحَدِيْثِ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوْعٍ بِالأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ"(رواه مسلم).
تَتَلاشَى كَرامَةُ المرْءِ إِنْ تَجَرَّدَ مِنْ لِباسِ التَقْوَى؛ (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)[الأعراف: 26]، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13]، ومَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَ رَبِهِ كَرَمٌ، فأَنَى لَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَرَمٌ مِنْ سِوَاه؟!.
لَمْ يَزَلِ الشُرَفاءُ يَحْمُونَ كَرامَتَهُم، خَاضُوا لأَجْلِها كُلَّ كَرِيْهَةٍ، وواجَهُوا لأَجْلِها كُلَّ عَناءَ، تَمُرُّ عَلى أَحِدِهِم نَوائِبُ مِن الدَّهْرِ قاسِيَةٌ، فَيَتَجَلَّدُونَ لَها تَجَلُّدَ الكِرامِ، يأَكُلُ أَحُدُهُم لَحْمِ نَفْسِهِ، ولا يُرِيْقُ للنَّاسِ ماءَ وَجْهِه، وتَلُوحُ لأَحَدِهِم مَطامِعُ فَاتِنَةِ لا يُتَوَصَّلُ إِليها إِلا على جٍسْرٍ مِنْ التَّزَلُّفِ أَو التَّوَسُّلِ أَو الإِذْلال، فَيُشِيْحُونَ عَنْها ولا يُرْخِصُونَ لأَجْلِ المَطامِعِ كَرامَتَهُم.
كُرمَاءُ النُّفُوسِ أَغْنياءُ بِقَناعَتِهِم، أَقْوِياءُ بِصَبْرِهِم، شُرَفاءُ بِتَعَفُّفِهِم، يُكابِدُونَ في سبيل الكَسْبِ كُلَّ نَصَبٍ؛ لِيَسْتَغْنُوا عَنْ ذُلِّ المَسْأَلَة، ويُقَاوِمُونَ في الحَياةِ كُلَّ عَناءٍ ولا يَلْجَؤُونَ لِدَرْبِ هَوان، وكَذا الإِسْلامُ هَذَبَهُم، عَنْ الزُّبَيْرِ بنِ العوَّامِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُم أَحبُلَهُ، ثُمَّ يَأْتِيَ الجَبَلَ، فَيَأْتِي بحُزْمَةٍ مِن حَطَبٍ عَلى ظَهْرِهِ فَيَبيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَن يَسْأَلَ النَّاسَ، أَعْطَوْهُ، أَوْ مَنَعُوهُ"(رواه البخاري).
مُقْتَدِرٌ على السَّعْيِ في تَحْصِيْلِ ما يُغْنِيْهِ عَنِ سُؤَالِ النَّاسِ، ثُمَّ يَعْجَزُ عَنْ القَيامِ في طَلَبِ الكَسْبِ، ويَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَلى النَّاسِ عَالَة، بَائِعٌ عِفَّتَهُ بِثَمَنٍ بَخْس، ومُهْدِرٌ كَرامَتَهُ بِأَرْخَصِ ثَمَن، يُدُهُ سُفْلَى ونَفْسُهُ للنَّاسِ مُنْكَسِرَة، وفي الحَدِيْثِ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ، وخَيْرُ الصَّدَقَةِ عن ظَهْرِ غِنًى، ومَن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ"(رَواه البخاري)، واليَدُ العُليا: هيَ المُنْفِقَة، واليَدُ السُّفْلَى: هِيَ الآخِذَة.
أَوْقَاتُ الشِّدَةِ والفَقْرِ والحَاجَةِ والعَوَز مِنْ أَقْسَى المَواقِفِ التي يُواجِهُا المَرْءُ في حَياتِهِ، مَعْتَرَكٌ تَعْتَلِجُ فيهِ قَسْوَةُ الحَاجَةِ مَعَ مَرارَةٍ المسأَلَة، ويَتَنازَعُ فيهِا أَلَمُ الفَقْرِ مَعَ عِفَّةِ النَّفْسِ، الفَقْرُ يُؤْلِمُ والكَرَامَةُ تَنْثَنِيْ، والنَّفْسُ تَطْلُبُ والفُؤَادُ خَجُولُ، مُعْتَرَكٌ لا يَشْعُرُ بِقَسْوَتِهِ إِلا مَنْ اصْطَلَى بِنارِ الفَقْرِ، لا يَشْعُرُ بِهِ مَنْ نَشأَ في اليُسْرِ وتَرَبَى في الغِنَى، الفَقْرُ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللهِ، واللهُ يُجْزِيْ الصَّابِرِيْن، وفي الحَدِيْثَ: كَانَ مِنْ دُعاءِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهمَّ إِنِّيْ أَعُوْذُ بِكَ مِنَ الفَقْرِ، وَأَعْوْذُ بِكَ مِنَ القِلَّةِ والذِّلَّةِ، وَأَعُوْذُ بَكَ أَنْ أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ"(رواهُ النَّسائِيْ وصححه الأَلْباني).
وأَمامَ ذاكَ الصِراعِ انْقَسَمَ الفُقَراءُ إِلى فَرِيْقَيْن: فَرِيْقٌ مَدَّ يَدَهُ يَسأَلُ النَّاسَ عَطاءً يُقِيْمُ بِهِ أَوَدَهُ، ويَدْفَعُ بِهِ فَقْرَه -ولا يُلامُ-، وفَرِيْقٌ انْطَوَى في بَيْتِهِ يُقَاوِمُ الفَقْرَ لَحْظَةً بِلَحْظَةٍ، أَبَتْ عِفَّتُهُ أَنْ تَنْهَزِمَ أَمَامَ فَقْرِه، فَأَخْفَى عَنَّ النَّاسِ فَقْرَهُ، وما مَدَّ لِمَخْلُوقٍ يَدا، فُقَراءُ عَاجِزُون، ضُعَفاءُ مُعْوِزُون، شُرَفاءُ مَتَعَفِّفُون؛ (لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)[البقرة: 273].
وكِلا الفَرِيْقَيْنِ لَهُم في مَالِ اللهِ حَقٌّ، ولَهُم في أَموالِ المُوْسِرِيْنَ نَصِيْب، شَرَعَ اللهُ لِعِبادِهِ أَنْ يَبْذُلُوا لَهُم مِنْ أَموالِهِم، ويَبْسُطُوا لَهُم مِنْ أَخلاقِهِم، ويُحْسِنُوا إِليهم ويُلِيْنُوا لَهُمُ الخِطاب؛ (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ)[الضحى: 9 - 10]، أَنْفِقْ عَلِيْهِ بِإِحْسانٍ، أَو رُدَّهُ بِلُطْفٍ ولِيْن؛ (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[المعارج: 24 - 25]، السَّائِلُ: الذِيْ يَتَعَرَّضُ النَّاسَ لِسُؤَالِهِم، والمَحْرُومُ: هُو الفَقِيْرَ المُتَعَفِفُ عَنِ السُّؤَالِ.
ما الفَقْرُ نَقْصٌ، وما الفَقْرُ شَرْخُ في كَرَامَةِ مَنْ فَقَد، هُوَ قَسْمُ اللهِ، وأَكْرِمْ بِقَسْمِ البارئِ الخَلاَّقِ، أَكْرَمُ هذهِ الأُمَةِ بَعْدَ نَبِيِّها هُم المُهاجِرُونَ، والفَقْرُ كَانَ وَصْفاً لأَكْثَرِهِم؛ (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)[الحشر: 8]، ولا يُمْدَحُ الفَقِيْرُ إِلا إِذا لَزِمَ سَبِيْلَ الإِيْمانِ والصَّبْرِ والتَّقْوَى، فَلا يُمْدَحُ فَقِيْرٌ ساخِطٌ، ولا يُمْدَحُ فَقِيْرٌ لِنِعْمَةِ غَيْرِهِ حاسِدٌ، ولا يُمْدَحُ فَقِيْرٌ يَتَسَوَّرُ سِياجَ التَّقْوَى، خَسِرَ الدُّنيا والآخِرَة، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن عَمرو -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "قَدْ أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بما آتَاهُ"(رواه مسلم)، (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[العنكبوت: 62].
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون
أَيُّها المُسْلِمُون: كَرامَةُ النَّفْسِ خُلُقٌ مُتَجَذِّرٌ في نُفُوسِ الكِرامِ، فلا يَبْذُلُ الكَرِيْمُ ماءَ وجْهِهِ لِنَيْلِ مَطْمَعٍ، ولا يُنْزِلُ نَفْسَهُ مَنْزِلاً تَفْقِدُ فيهِ كَرامَتَها، كَرِيْمٌ، يَتَعَفَّفُ عَنْ المَسأَلةِ ما اسْتَطَاعَ، ويَسْتَغْنِيْ عَنْها ما قَدِرْ، كَرِيْمُ النَّفْسِ زَانَتْهُ في النَّاسِ عِفَّةٌ، وأَغْنَتْهُ كَفٌّ تَكْسِبُ الكَسْبَ تَكْدَح، مَنْ اسْتَغْنَى عَنِ المَسْأَلَةِ حَفِظَ لِنَفْسِهِ كَرامَتَها، ومَنْ سأَلَ النَّاسَ، مَسَّهُ مِنْ المَذَلَّةِ لَفْحُ سَمُوم.
فَلا ذَا يَرَانِيْ وَاقِفاً في طَرِيْقِهِ *** وَلا ذَا يَرَانِيْ قَاعِداً عِنْدَ بَابِهِ
غَنِيٌّ بِلا مَالٍ عَنْ النَّاسِ كُلِّهِم *** وَلِيْسَ الغِنَى إِلا عَنِ الشَّيءِ لا بِهِ
وَإِنْ ضَاقَ رِزْقُ اليَوْمِ فَاصْبِرْ إِلى غَدٍ *** عَسَى نَكَبَاتُ الدَّهْرِ عَنْكَ تَزُوْلُ
ولَئِنْ حَفِظَ الإِسْلامُ حَقَّ السَّائِلِ المِسْكِيْنِ، وأَمَرَ بالإِحْسانِ إِليهِ، ونَهَى عَنْ زَجْرِهِ نَهْرِهِ وأَذاه، فَلَقْدْ حذَّرَ الإِسْلامُ أَنْ تَرْكَنَ النُّفُوسُ إِلى العَجْزِ والخَوَرِ التَّقاعُسِ عَنْ العَمَلِ وطَلَبِ الكَسْبِ، ثُمَّ تَعْمُدَ إِلى التَسَوُّلِ والطَلَبِ والمَسأَلَة، فَعَنْ عُبَيدِ اللهِ بِنْ عَديٍّ، أَنَّ رَجُلَيْنِ حَدَّثاهُ: أَنَّهمُا أَتَيَا رَسُوْلَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلانِه مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَلَّبَ فِيْهِمَا النَّظرَ، فَرَآهُمَا جَلْدَينِ -أَيْ قَوِيَّيْنِ- فَقَالَ: "إِنْ شِئتُما أَعْطَيْتُكُمَا، وَلا حَظَّ فِيْهَا لِغَنيٍّ، وَلا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ"(رواه أبو داود).
امْتِهانُ التَّسَوُّلِ والتَّوَسُّلِ والمَسأَلَةِ، وتَصْيِيْرُ سُؤَالِ النَّاسِ مِنْ أَمْوالِهِم مَصْدَرَ تَكَسُّبٍ وتَرَبُّحٍ وتِجارَةٍ، مَسْلَكٌ مِنْ مَسالِكِ التَحَايُلِ واسْتِحْلالِ أَمْوالِ النَّاسِ بالبَاطِلِ، وهُوَ عَمَلٌ مُحَرَّمٌ، جَاءَ الوَعِيْدُ لِمَنْ سَلَكَه، عَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ -رَضْي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن سَأَلَ النَّاسَ أمْوالَهُمْ تَكَثُّرًا؛ فإنَّما يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ، أوْ لِيَسْتَكْثِرْ"(رواه مسلم).
وفي زَمَنِ كَثْرَةِ المُحْتالِيْن، وتَعَدُّدِ طَرائِقِهِم لِلوصُولِ إِلى أَمْوالِ المُحْسِنِيْن، كَانَ على المُسْلِمِ أَنْ لا يَكُونَ غِرّاً يَضَعُ مَالَهُ في يَدِ مَنْ لا يَسْتَحِق، وأَنْ لا يَكُونَ قاطِعاً للإِحْسانِ، فيَمْنَعُ فَضْلَ مالِهِ عَنْ المُحْتَاجِيْن.
في المُجْتَمَعِ مَنْ أَجْهَدَهُمُ الفَقْرَ، أُسَرٌ عَنِ المَسْأَلَةِ تَتَعَفَّفُ، أَظْهَرَتِ الدَّلائِلُ والقَرائِنُ شِدَّةَ حاجَتِهِا، ضَعْفُ المَوَارِدِ مَعَ قِلَّةُ ذاتِ اليَد، أَو مَرَضُ العائِلِ مَعَ فَقْرِه، أَو غِيابُ الرَّاعِي أَو فَقْدِه، أَو تَراكُمُ الدُّيُونِ، أَو غَيْرِ ذلِكَ مِن القَرائِن التي هِيَ مِنْ سِيما المُتَعَفِّفِيْنَ وعَلامَاِتهِم التي بِها يُعرَفُون؛ (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)[البقرة: 273].
أَولئِكَ هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بالإِحْسان، وأَوْلَى الفُقَراءِ بالعَطْفِ والمَواساةِ، حَثَّ الإِسْلامُ عَلى العِنايَةِ بِهِم، فَفِي الحَدِيْثِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي يطُوفُ عَلى النَّاسِ، تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتانِ، وَالتَّمْرَةُ والتَّمْرتَانِ، وَلَكِنَّ المِسْكِينَ الَّذِي لا يجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصدَّقَ عَلَيْهِ، وَلا يَقُومُ فَيَسْأَلَ النَّاسَ"(متفقٌ عليه).
اللهمَّ إنه لا حول لنا ولا قوة إِلا بك، كُن لنا ولياً ونصيراً.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم