بين الكتاب والسنة

الشيخ عبدالله اليابس

2021-03-05 - 1442/07/21 2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/القرآن والسنة أهم مصادر التشريع 2/مكانة السنة النبوية ودورها في التشريع 3/خطورة الطعن في حجية السنة في التشريع 4/الرد على من زعم الاكتفاء بالقرآن 5/حفظ السنة النبوية وكتابتها وتوثيقها.

اقتباس

فَالقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ إِذًا مَصْدَرَانِ أَسَاسِيَانِ مِنْ مَصَادِرِ التَشْرِيْعِ، فَبِهِمَا يَعْرِفُ المُسْلِمُ دِيْنَهُ لِيَعْبُدَ اللهَ -تَعَالَى- عَلَى بَصِيْرَةٍ.. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ فِي القُرآنِ كِفَايَةٌ عَنِ السُّنَّةِ.. فَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ المَقُولَةَ ظَاهِرُهَا تَعْظِيْمُ القُرْآنِ، وَبَاطِنُهَا الطَّعْنُ....

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلّم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: لَمَّا بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبَيَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إِلَى النَّاسِ كَافَّة بَعَثَهُ بَشَرِيْعَةِ كَامِلَةٍ مُتَكَامِلَةٍ، وَأَمَرَهُ بِالبَلَاغِ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)[المائدة:67]، أَخَذَ النَبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هَذِهِ الرِّسَالَةَ بِحَقِّهَا، وَبَلَّغَهَا لِلأُمَّةِ، وَفِي آخِرِ حَيَاتِهِ تَحَقَّقَ هَذَا البَلَاغُ، فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا)[المائدة: 3].

 

كَانَ البَلَاغُ يَتِمُّ عَبْرَ وَسِيْلَتَيْنِ: القُرْآنِ وَكَلَامِ النَبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، والذِي عُرِفَ بِالسُّنَّةِ، صَحَّ الحَدِيْثُ عَنِ النَبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "ألا إنِّي أوتيتُ الكتابَ ومثلَهُ معهُ".

 

فَالقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ إِذًا مَصْدَرَانِ أَسَاسِيَانِ مِنْ مَصَادِرِ التَشْرِيْعِ، فَبِهِمَا يَعْرِفُ المُسْلِمُ دِيْنَهُ لِيَعْبُدَ اللهَ -تَعَالَى- عَلَى بَصِيْرَةٍ.

 

وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ فِي القُرآنِ كِفَايَةٌ عَنِ السُّنَّةِ، فَاللهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)[الأنعام: 38]، وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)[النحل:89]، فَيُمْكِنُ أَنْ نَكْتَفِي بِالكِتَابِ وَحْدَهُ عَنِ السُّنَّةِ.

 

فَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ المَقُولَةَ ظَاهِرُهَا تَعْظِيْمُ القُرْآنِ، وَبَاطِنُهَا الطَّعْنُ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، سَوَاءً عَلِمَ قَائِلُهَا أَمْ لَمْ يَعْلَمْ، وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ هَذِهِ الشُبْهَةِ بِعَيْنِهَا عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، فِي صُورَةٍ تَكْشِفُ صِدْقَ نُبُوَتِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، رَوَى أَبُو داوودَ وَالتِّرْمِذِيُ وَغَيْرُهُمَا وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنْ أِبِي رَافِعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا أَلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ أَمْرٌ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي. مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اِتَّبَعْنَاهُ".

 

إنَّ مَا حَرَّمَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ كَالمُحَرَّمِ بِالقُرْآنِ، (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم: 2-3]، فَكُلُّ مَا يَصْدُرُ عَنِ النَبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَحِيٌ، وَهَذَا يَعْنِي حُجِّيَتَهُ وَلُزُومَهُ لِلنَّاسِ.

 

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- فِيْ كِتَابِهِ  الذِي بَيَّنَ كُلَّ شَيءٍ  أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيَّهِ وَحْيَينِ: الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ أَيِ: السُنَّةَ، (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 151]، وَأَمَرَ –سُبْحَانَهُ- بِلُزُومِ سُنَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الحشر: 7].

 

 فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ دَلَالَةً صَرِيْحَةً عَلَى وُجُوبِ اِتِّبَاعِ أَوَامِرِ الرَسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وَلَا شَكَ أَنَّ مَنِ اِكْتَفَى بِالقُرْآنِ فِإِنَّهُ لَمْ يَمْتَثِلْ جَمِيْعَ مَا أَتَى بِهِ الرَسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور: 63].

 

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- شَابَهَ المُنَافِقِينَ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا)[النساء: 61].

 

وَمَنِ اِكْتَفَى بِالقُرْآنِ دُونَ السُنَّةِ فَلَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ إِقَامَةِ الدِّيْنِ الذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، شَاَعَ عَنْ رَجُلٍ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الشُبْهَةِ، فَاِكْتَفَى بِكِتَابِ اللهِ دُونَ السُّنَّة، فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ، أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، لاَ يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ؟"، ثُمَّ عَدَّدَ عَلَيْهِ الصَّلاَةَ وَالزَّكَاةَ وَنَحْوِ هَذَا. ثُمَّ قَالَ: "أَتَجِدُ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ مُفَسَّرًا؟ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَبْهَمَ هَذَا وَإِنَّ السُنَّةَ تُفَسِّرُ ذَلِكَ".

 

اللَّهُمَّ فَقِّهْنَا فِي دِيْنِنَا، وَاِعْصِمْنَا مِنَ الفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، يَا رَبَّ العَالَمِينَ.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالقُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، قَدْ قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إِلَّا اللهُ رَبُّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَقَيَّومُ السَّمَاوَات وَالأَرَضِين، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين، وَعَلَى مَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّين.

 

يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: مِمَّا يُشَغِّبُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ فِي شَأْنِ السُّنَّةِ: أَنَّ تَدْوِيْنَهَا تَأَخَّر عَنْ زَمَن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمْ تُدَوَّنْ إِلَّا فِي عَصْرِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ الذِي وُلِدَ عَامَ مِائَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَتِسْعِيْنَ، فَيَرِدُ عَلَيْهَا الخَطَأُ.

 

وَإِجَابَةً عَنْ ذَلِكَ يُقَالُ: إِنَّ كِتَابَةَ السُّنَّةِ بَدَأَتْ مُنْذُ عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، لَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ قَامَ فَخَطَبَ فِي النَّاسِ، فَاِسْتَمَعَ رَجُلٌ مِنَ اليَمَنِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شَاهٍ لِهَذِهِ الخُطْبَةِ وَخَافَ أَنْ يَنْسَى شَيْئًا مِنْهَا، فَقَامَ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "اكْتُبُوا لَأَبِي شَاهٍ".

 

وَرَوَى أَبُو دَاوودَ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرو بنِ العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيشٌ، وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيءٍ تَسْمَعُهُ؟ وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، فَأَوْمَأَ بِأَصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ، فَقَالَ: "اكْتُبْ، فَوَ الذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ"، وَقَدْ كَانَ لِعَبْدِاللهِ صُنْدُوقٌ ذُو حِلَقٍ يَجْمَعُ فِيهِ مَا كَتَبَهُ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، حَتَّى تَوَهَّمَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَكْثَرُ حَدِيْثًا مِنْهُ.

 

وَكَانَتِ السُّنَّةُ تُحْفَظُ عَنْ طَرِيْقَيْنِ: حِفْظُ السُطُورِ، وَحِفْظُ الصُدُورِ، فَقَدْ كَانَ النَبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- كَمَا رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَصَحَّ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كَمَا عِنْدَ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّ النَبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- "كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيْثًا لَوْ عَدَّهُ العَادُّ لَأَحْصَاهُ".

 

وَاِسْتَمَرَّتِ الكِتَابَةُ لِلْحَدِيْثِ بَعْدَ عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُكَاتِبُونَ بَعْضَهُمْ بِأَحَادِيْثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، بَلْ يُنْشِئُون الأَسْفَارِ لِأَجْلِ كِتَابَتِهَا، ثُمَّ لَازَمَ التَّابِعُونَ الصَحَابَةَ وَكَتَبُوا عَنْهُم، وَحَرِصُوا عَلَى تَدْوِينِ كِلِّ صَغِيْرَةٍ وَكَبِيْرَةٍ، وَقَدِ اِشْتُهِرَ بِكِتَابَةِ الحَدِيثِ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ شَخْصًا، وَفِي طَبَقَةِ تَابِعِي التَّابِعِيْنَ قَرَابَةَ المِائَةِ شَخْصٍ، وَهَكَذَا، وَقَدْ تَوَلَّى عُمَرُ بنُ عَبْدِالعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ- الاِهْتِمَامَ بِتَدْوِيْنِ السُّنَّةِ، وَشَجَّعَ أَهْلَ العِلْمِ عَلَى ذَلِكَ.

 

 وَكَانُوا يَحْرِصُونَ عَلَى تَسْمِيَةِ الرِجَالِ الذِيْنَ رَوَوا الحَدِيْثَ، حَيْثَ كَانَ النَّاسَ يَعْرِفُونَ حَالَ الرُّوَاةَ، والضَّابِطَ مِنْ غَيْرِ الضَّابِطِ، وَفِي الفَتْرَةِ مِنَ القَرْنِ الثَانِي إِلَى القَرْنِ الثَالِثِ الهِجْرِيِّ اسْتَمَرَّ العُلَمَاءُ فِي جَمْعِ شَتَاتِ الأَحَادِيْثِ المُدَوَّنَةِ، وَسَعَوا إِلَى تَصْفِيَةِ الصَّحِيْحِ مِنَ الضَّعِيْفِ، وَذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ حَالِ رِجَالِ الإِسْنَادِ، وَالتَّأَكُدِ مِنْ لُقْيَا بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، ثُمَّ دِرَاسَةِ كُلِّ حَدِيْثٍ عَلَى حِدَةٍ، وَالتَأَكُّدِ مِنْ عَدَمِ مُعَارَضَتِهِ لِأَحَادِيْثَ أُخْرَى.

 

وَكَانُوا يَبْذُلُونَ جُهُودًا مُضْنِيَةً فِي تَصْفِيَةِ الأَحَادِيْثِ وَتَنْقِيَتِهَا كَمَا يَصْنَعُ مَنْ يَسْبِكُ الذَهَبَ لِيُنَقِيْهِ مِمَّا يَشُوبُهُ، وَلِذَلِكَ مَكَثُ البُخَارِيُّ مَثَلاً فِي تَصْنِيفِ صَحِيحِهِ وَجَمْعِهِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: "مَا وَضَعْتُ فِي كِتَابِيَ الصَّحِيحِ حَدِيثًا إِلَّا اِغْتَسَلْتُ قَبْلَ ذَلِكَ وَصَلَّيتُ رَكْعَتَيْنِ".

 

فاللَّهُمَ اِجْزِ عُلَمَاءَنَا عَنَّا خَيْرَ الجَزَاءِ، وَاْجْمَعَنَا مَعَهُمْ فِي دَارِ كَرَامَتِكَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ.

اللهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، وَأَعِنَّا عَلَى أَنْفُسِنَا وَالشَيْطَانِ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.

 

المرفقات

بين الكتاب والسنة.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات