بين التقوى وحسن الأخلاق أقوى وثاق

الشيخ د أحمد بن علي الحذيفي

2025-12-19 - 1447/06/28 2025-12-20 - 1447/06/29
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/الرباط الوثيق بين التقوى وحسن الخلق 2/الآثار الحسنة لحسن الخلق على الفرد والمجتمع 3/الرسول هو المثال الأسمى في حُسْن الخلق

اقتباس

إنَّ هذا الدين العظيم حين أراد أن يسمُوَ بشأن الأخلاق في النفوس، ويرسِّخَها في واقعِ حياةِ الناسِ؛ ارتقاءً بالمسلم في ظاهرِه كما ارتقى به في باطنِه، وتزكيةً له في سلوكِه كما زكَّاه في اعتقادِه؛ ربطَ حُسنَ الخُلُقِ بالإيمانِ فجعَلَه من كماله...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا؛ مَنْ يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].

 

أما بعدُ، إخوةَ الإيمانِ: فإن التقوى معيارُ الكرامة عند مولاكم، وميزانُ التفاضل في أُخراكم؛ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الْحُجُرَاتِ: 13]، فاستقيموا على منهاجها، واستضيئوا بسراجها، واعلموا أن وجهَ المحاسِن لا يجمُل، وبَدرَ المحامِد لا يكمُل؛ إلا بحُسن الخُلُق.

 

تدبَّروا لطيفَ الإشارة القرآنيَّة في قول الله في كتابه المُبين: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ في السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 133-134]، كيف أن الله -سبحانه- جعَل الإحسانَ إلى الخلقِ مِنْ صفاتِ المتقينَ، ووصَفَ أولئكَ الذينَ سمَت أخلاقُهم بالمحسنينَ؛ ومَنْ كان كذلكَ فليُبشِرْ بمعيَّةِ اللهِ له واستحقاقِها بوصفَيِ التقوى والإحسانِ، كما أَخبَرَ بذلك -جلَّ شأنُه- وبشَّر بقولِه: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[النَّحْلِ: 128].

 

فتأمَّلوا ذلك المعنى القرآنيَّ الدقيقَ، وكيف ربطَ بين التقوى وحُسنِ الخُلُقِ برباطٍ وثيقٍ، يؤكِّدُ ذلك قولُ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّقِ اللهَ حيثُما كُنتَ، وأتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقِ الناسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ"، وقد سُئِلَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثرِ ما يُدخِلُ الناسَ الجنة فقال: "تقوى الله، وحسنُ الخُلُق".

 

إنَّ ذلك الارتباطَ الوثيقَ والمعنى العميق صورةٌ من صُوَر سموِّ الإسلامِ وعظمتِه، وشمولِه لمناحي الحياة، واتساعِ دائرتِه لتستغرِقَ حياةَ المسلمِ وتعيشَ في واقعِ الناسِ.

 

إنَّه دينُ عقيدةٍ وأحكامٍ وسلوكٍ؛ فليس دينُ الإسلامِ دينًا منحصرًا في الشعائرِ الظاهرةِ والعباداتِ فحسبُ؛ بل هو إلى ذلك دينٌ يتجلَّى في المعامَلاتِ، ويتأدَّى إلى الممارَساتِ والسلوكيَّاتِ؛ جامعًا بين تزكيةِ الباطنِ وتهذيبِ الظاهرِ.

 

معشرَ المؤمنينَ والمؤمناتِ: إنَّ هذا الدين العظيم حين أراد أن يسمُوَ بشأن الأخلاق في النفوس، ويرسِّخَها في واقعِ حياةِ الناسِ؛ ارتقاءً بالمسلم في ظاهرِه كما ارتقى به في باطنِه، وتزكيةً له في سلوكِه كما زكَّاه في اعتقادِه؛ ربطَ حُسنَ الخُلُقِ بالإيمانِ فجعَلَه من كماله؛ حيث قال -صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه-: "أكملُ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُهم خيارُهم لنسائهم"، فلا يتمُّ إيمانُ المؤمنِ إلا بحُسنِ التعامُلِ مع الخَلْقِ؛ حتى يجتمعَ له جمالُ الباطنِ والظاهرِ، وصفاءُ السريرةِ ونقاءُ السِّيرةِ.

 

وفي الشطر الآخِر من الحديث: "وخيارُهم خيارُهم لنسائهم"؛ إشارةٌ نبويةٌ لطيفةٌ إلى أن معيارَ حُسنِ الخُلُقِ وسموِّ التعامُلِ هو ثباتُه في النفوسِ، واستقرارُه في الطباعِ؛ حتى تكونَ تلك الأخلاقُ السَّنِيَّةُ صفاتٍ راسِخةً تتجلَّى مع الصغيرِ والكبيرِ، والغنيِّ والفقيرِ، والمأمورِ والأميرِ، فلا يتلَّونُ المرءُ بحسبِ نوازِع المصلحةِ، أو يتصنَّعُ استجلابًا لمنفعةٍ أو دفعًا لمضرَّةٍ؛ بل يكونُ حُسنُ الخُلُق منه مع الناس جميعًا.

 

وبيتُ المرءِ الذي إليه يأوي هو ميزانُ حُسن خُلُقِه، ومعيارُه الذي لا يزيغ؛ فهو ميدانُ الامتحان الذي يكونُ المرءُ فيه جاريًا على سجيَّتِه، طارحًا لكُلفَتِه؛ ولذلك يقول -صلواتُ الله وسلامُه عليه-: "خيرُكم خيرُكم لأهلِه، وأَنَا خيرُكم لأهلي".

 

إنَّ المؤمنَ حين يعلمُ فضيلةَ حُسنِ الخُلُقِ وسموِّ التعامُلِ مع الخلقِ، ويدرِكُ مقامَه السنيَّ وشأنَه العليَّ في الدنيا والآخرة، وما رتَّب عليه الشرعُ من رفعة الدرجات وبلوغ أَسْمَى المقامات؛ فإنَّه يتمثَّلُ به عبوديَّةً لله، وأدبًا مع الخَلْق، وتزكيَّةً للنفس، وحَمْلًا لها على أحسنِ الشمائلِ وأكرمِ الفضائلِ، وتساميًا بها عن نَزَقِ النفوسِ ودنيءِ الخصالِ، التي تنبُو عنها النفوسُ الشريفةُ والهممُ المنيفةُ.

 

فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من شيءٍ أثقلُ في ميزانِ المؤمنِ يومَ القيامةِ مِنْ حُسنِ الخُلُقِ، وإنَّ اللهَ يبغِضُ الفاحشَ البَذِيء"، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن المؤمنَ لَيدرِكُ بحُسنِ خُلُقِه درجةَ الصائمِ القائمِ"، وحسبُكم في ذلك قولُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ مِنْ أحبِّكم إليَّ وأقربِكم مني مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسِنَكم أخلاقًا".

 

اللهمَّ اهدِنا لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدِي لأحسنِها إلا أنتَ، واصرِف عَنَّا سيئَها لا يصرِف عَنَّا سيئَها إلا أنتَ.

 

أقولُ هذا القولَ الذي سمعتُم، وأستغفرُ الله لي ولكم؛ إنه كان عَفُوَّا غفورًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله على سَيْبِ مِنَّتِه المِهْرَاقِ، وصَوْبِ نعمتِه الدَّفَّاقِ؛ حمدًا تزيدُ به النعماءُ وتَنْمِي، وتَهْمُلُ به الآلاءُ وتَهْمِي، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ بعثَه اللهُ بمحاسِنِ الآدابِ ومكارِم الأخلاقِ، وعلى آلِه وصحبِه ومَنِ اتَّبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ التَّلاقِ؛ صلاةً وسلامًا تتوالى بالغُدوِّ والآصالِ، والعشيِّ والإشراقِ؛ ما سجَعَتِ الحمائمُ، وهمَعَتِ الغمائمُ، وما رقَّ نسيمٌ وراقَ.

 

أما بعدُ، أيها المؤمنون والمؤمنات: فإن نبيَّنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو المثالُ الإنسانيُّ الكاملُ لحُسن الخُلُق، ورُقِيِّ التعامُلِ، وسموِّ الآدابِ، وحينَ نتأمَّلُ آياتِ القرآنِ التي تحدَّثَتْ عن أخلاقِ ذلك النبيِّ الكريمِ -صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه- نجِدُ موضِعًا من كتابِ اللهِ أوجَزَ ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أشرفِ الخِصالِ، وأكرمِ الفِعالِ، وأكملِ الأحوالِ: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[الْقَلَمِ: 1-4].

 

وحسبُكم بخُلُقٍ استعظَمَه العظيمُ -جلَّ شأنُه-؛ فقد أوجَزَ القرآنُ وصفَ خُلُقِه الكريمِ بعبارةٍ طَوَتْ على قلةِ ألفاظِها من جليلِ المعاني وجزيلِها ما هو حقيقٌ بذلك الثناءِ، ويُصوِّرُ ذلك الخُلُقَ العظيمَ أظهرَ تصويرٍ وأبيَنَه، ما أجابَت به عائشةُ -رضي الله عنها- حين سألَها سعدُ بنُ هشامِ بنِ عامرٍ، فقال: يا أُمَّ المؤمنينَ، أنبئيني عن خُلُق رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. فقالت: أتقرأُ القرآنَ؟ فقلتُ: نَعَمْ. قالت: "فإنَّ خُلُقَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- القرآن".

 

إنه الأسوةُ الحسنةُ، والقدوةُ المُثلَى في الأخلاق السامية والآداب العالية؛ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الْأَحْزَابِ: 21].

 

وسيرةُ حياتِه الزاخرة تَضُوعُ بمحاسِنِ أخلاقِه العاطِرةِ، وتقطُرُ بغمائِمِ شمائِله الماطِرةِ -صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه-.

 

واعلموا أنَّه يُندَبُ كثرةُ الصلاة والسلام عليه في يوم الجمعة؛ قال -صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه-: "إن من أفضل أيامِكم يومَ الجمعة، فأكثِرُوا عليَّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتَكم معروضةٌ عليَّ".

 

اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدِكَ ورسولِكَ نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحابتِه الغُرِّ الكرامِ، وعنَّا معهم بمنِّكَ وكرمِكَ وإحسانِكَ يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا وسائرَ بلادِ المسلمينَ، اللهمَّ أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ وزمانٍ يا ربَّ العالمينَ، اللهم أصلح أحوالهم يا رب العالمين.

 

اللهمَّ احفَظ هذا البلدَ المبارَكَ مهوى أفئِدة المسلمين، ومحضِنَ الحرمين الشريفين بحفظِكَ؛ واجعله بلدًا محفوظًا مصونًا يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين ووليَّ عهده لما تحبُّ وترضَى، وخُذ بناصيتهما للبرِّ والتقوى يا سميعَ الدعاءِ، اللهمَّ وفِّقْهُما لِمَا فيه خيرُ العبادِ والبلادِ، ولِمَا فيه صلاحُ الإسلامِ والمسلمينَ في العاجلِ والآجلِ يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ إنَّا نسألُكَ أن تنصُر إخوانَنا في فلسطينَ يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ اكتُب نصرَهم، واجبُر كسرَهم، وتولَّ أمرَهم يا ربَّ العالمينَ يا أرحمَ الراحمينَ؛ (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].

 

اللهمَّ إنَّا نسألُك من خير ما تعلَم، ونعوذُ بك من شرِّ ما تعلَم، ونستغفرُك لما تعلَم؛ إنكَ أنتَ علَّامُ الغيوبِ.

 

عبادَ اللهِ: استديموا فضلَ ربِّكم بشكرِه، واحفَظوا نعمتَه باتباعِ أمرِه، والهجُوا بدعائِه وشكرِه؛ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].

المرفقات

بين التقوى وحسن الأخلاق أقوى وثاق.doc

بين التقوى وحسن الأخلاق أقوى وثاق.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات