بين التؤدة والاستعجال

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ معاني التؤدة وفضائلها 2/ هل التأني ممدوح في كل شيء؟ 3/ الفرق بين التؤدة في العبادة والخير والتؤدة في الحياة والسلوك العام 4/ ذم التهور والاستعجال 5/ صور من آثار الاستعجال وعواقبه 6/ بعض علامات التؤدة 7/ الأعمال بالخواتيم

اقتباس

الاستعجال في العموم مذموم في الإسلام، والعجلة من الشيطان؛ لأن الشيطان يستغل العجلة في ابن ادم، ويسهل عليه ترويج الشر من حيث لا يشعر ذلك المستعجل، فمن فرط الاستعجال قد يقسم ويحلف كذبًا وظلما استعجل، ومن فرط الاستعجال قد يطلق امرأته بلا تفكير، ومن فرط الاستعجال قد يثق الإنسان فيمن لا يوثق فيه، وقد يكشف أسراره لمن لا يؤتمن بسر بأن يستعجل، وبسبب الاستعجال قد يقرر الإنسان قرارًا خطأ فيندم والأمثلة كثيرة كلها بسبب الاستعجال أحد المنافذ الكبيرة للشيطان على الإنسان. بخلاف من تمهل وتروى عند الإقدام على عمل يريده؛ فإنه بالتأني تحصل له بصيرة بالعمل قبل العمل...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

التؤدة هي التأني والتمهل والرزانة، يقال: اتأد في أمره أي تثبت فيه وتمهل، التؤدة سمة محمودة في الإنسان عمومًا، وهي في المسلم على وجه الخصوص خصلة يحبها الله –تعالى- ويحبها رسوله -صلى الله عليه وسلم- مطلوبة في كل شيء إلا في عمل الآخرة.

 

في صحيح الترغيب من حديث سعد بن أبي وقاص قال -صلى الله عليه وسلم-: "التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة".

 

ففي كل شيء يُستحب التأني في كل شيء عدا عمل الآخرة، عمل الآخرة الأصل المسارعة إليه والمسابقة فيه، عدم التباطؤ عن العبادة، عدم التأخر عن الخير كن أول الناس في الخير.

الله -تعالى- يقول: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133]، من السرعة (وسارعوا).

 

ويقول -جل وعلا-: (يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران:114]، فهم يسارعون في الخيرات.

 

وآية أخرى في هذا المعنى، هذا بالنسبة للتؤدة في العبادة والخير، أما التؤدة في الحياة والسلوك العام فهي محمودة قطعًا، بل قد جاء في كتاب الشهاب بإسناد جيد عن عبدالله بن سرجس قال -صلى الله عليه وسلم-: "التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة"، والمقصود بالاقتصاد هنا أي سلوك القصد في الأمور الدخول فيها برفق بلا مبالغة حتى يستديم الأمر كذلك.

 

وقيل: الاقتصاد هو التوسط في الأمور والأحوال والبُعد عن طرفي الإفراط والتفريط، أما قوله -صلى الله عليه وسلم-: "جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة" أي: هذه الخصال من شمائل وأخلاق أهل النبوة، وجزء من أجزاء فضائلهم؛ فاقتدوا بهم.

 

هذا هو المقصود، وتابعوهم عليها، وقد أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على أشجّ عبد القيس بتميزه بهذه الخصلة، ففي مجمع الزوائد من حديث الزارع بن عامر العبدي أنه وفد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج معه بأخيه لأمه يقال له مطر بن هلال وخرج بابن أخ له مجنون، ومعهم الأشج - وكان اسمه المنذر بن عائذ - فقال المنذر: يا زارع، خرجت معنا برجل مجنون وفتى شاب، ليس منا وافدين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال الزارع: أما المصاب؛ فآتي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو له عسى أن يعافيه الله، وأما الفتى العنزي؛ فإنه أخي لأمي، وأرجو أن يدعو له النبي -صلى الله عليه وسلم- بدعوة، تصيبه دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

فما عدا أن قدمنا المدينة قلنا: هذاك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما تمالكنا أن وثبنا عن رواحلنا، فانطلقنا إليه سراعًا، فأخذنا يديه ورجليه نقبِّلهما، وأناخ المنذر –وهو الأشج- راحلته، فعقلها –لم ينطلق مثلهم بسرعة، بل أناخ راحلته بهدوء وتؤدة حتى لا تفر الراحلة- وذاك بعين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم عمد إلى رواحلنا فأناخها راحلة راحلة، فعقلها كلها، ثم عمد إلى عيبته –أي: وعاء أغراضه- ففتحها فوضع عنه ثياب السفر، ثم أتى يمشي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أشج، إن فيك لخلقين يحبهما الله ورسوله". قال: وما هما بأبي وأمي؟ قال: "الحلم، والأناة"، قال: فأنا تخلقت بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: "بل الله جبلك عليهما". قال: الحمد لله الذي جبلني على خُلقين يحبهما الله ورسوله: الحلم، والأناة.

 

معاشر الإخوة: التؤدة خلاف التهور والاستعجال، الاستعجال في العموم مذموم في الإسلام، ففي صحيح الجامع بسند صحيح عن أنس قال -صلى الله عليه وسلم- "التأني من الله والعجلة من الشيطان".

 

من معاني العجلة: فعل الشيء قبل وقته الأليق به، والعجلة من الشيطان؛ لأن الشيطان يستغل العجلة في ابن ادم، ويسهل عليه خلال عجلة ابن آدم يسهل على الشيطان ترويج الشر من حيث لا يشعر ذلك المستعجل، فمن فرط الاستعجال قد يقسم ويحلف كذبًا وظلما استعجل.

 

ومن فرط الاستعجال قد يطلق امرأته بلا تفكير، يقول ابن عباس لما كان زمن عمر -رضي الله عنه- قال: "يا أيّها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة، وإنّه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه".

من طلق انتهى الأمر فتأنوا وتريثوا.

 

ومن فرط الاستعجال قد يثق الإنسان فيمن لا يوثق فيه، وقد يكشف أسراره لمن لا يؤتمن بسر بأن يستعجل.

 

ولذلك قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لا تعجلوا بحمد الناس وبذمهم، فإن الرجل يعجبك اليوم ويسوءك غدًا، ويسوءك اليوم ويعجبك غدا" لا تستعجلوا.

 

وبسبب الاستعجال قد يقرر الإنسان قرارًا خطأ فيندم والأمثلة كثيرة كلها بسبب الاستعجال أحد المنافذ الكبيرة للشيطان على الإنسان.

 

بخلاف من تمهل وتروى عند الإقدام على عمل يريده؛ فإنه بالتأني تحصل له بصيرة بالعمل قبل العمل، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ولهذا كانت العجلة من الشيطان؛ فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور وتمنع الخيور، وهي متولدة بين خُلقين مذمومين؛ التفريط والاستعجال قبل الوقت".

ينبغي ترك الاستعجال إلا في العبادة والخير، وما أعان عليهما.

 

أيها الإخوة: الاستعجال قد يؤدي إلى ما لا تُحمَد عقباه، في مجمع الزوائد بإسناد صحيح عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بَعْثًا وَبَعَثَ فِيهِمْ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَلَمَّا جَاءَ الْقَوْمُ تَعَجَّلَ إِلَى أَهْلِهِ، فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَتِهِ قَائِمَةً عَلَى بَابِهَا، فَدَخَلَتْهُ غَيْرَةً، فَهَيَّأَ الرُّمْحَ لِيَطْعَنَهَا بِهِ –عنده غيرة شديدة- فَقَالَتْ: "لا تَعْجَلْ وَانْظُرْ مَا فِي الْبَيْتِ، فَدَخَلَ الْبَيْتَ فَإِذَا هُوَ بِحَيَّةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى فِرَاشِهَا فَطَعَنَ الْحَيَّةَ، فَمَاتَتْ، وَمَاتَ الرَّجُلُ –تحركت الحية بعدما طعنها فهجمته بسمها فوقعت ميتة ووقع الفتى ميتا -فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "إِنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ مِنَ الْجِنِّ، وَنَهَى عَنْ قَاتْلِ الْجِنَّانِ".

 

الحاصل أنه لو استعجل لقتل زوجته خطأ، بل حتى الاستعجال في ذات العبادة أثناء ممارسة العبادة يفقدها خشوعها ولذتها، بل يفقدها القبول أحيانًا.

 

في صحيح مسلم بإسناد صحيح عن ابن عبد الله بن عمرو قال: رجعنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماءٍ بالطريق تعجل قوم عند العصر، فتوضؤوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء".

 

فكثيرًا من الناس يقول: نحن في زمن السرعة، يتعجلون في كل شيء حتى في الصلاة خلف الإمام يسابقونه، مع أنهم لن يسلِّموا قبله، لكن العجلة، ومنهم من فرط الاستعجال يصلون بلا خشوع ولا اطمئنان، ويقرءون القرآن بلا تدبر ويذكرون الله بعجلة غريبة.

 

وقد جاء في صحيح الترغيب من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم- "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته"، قالوا: وكيف يسرق صلاته؟ قال: "لا يُتِم ركوعها ولا سجودها".

 

العجلة في توقع الإجابة أيضًا يؤدي بالبعض إلى اليأس وترك الدعاء، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يستجاب لي" (رواه البخاري).

 

وقد يفوت مع العجلة الأفضل أجراً، نعم كقوله في الحج -جل وعلا-: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) [البقرة: 203]، فطول البال يحقق لك الكمال بإذن الله تعالى.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد:

 

فإن للتؤدة علامات، منها الصبر إذا كان لله احتسابًا لثوابه فهو عبادة عظيمة، والذي يفتقر إلى الصبر يستعجل، أما الصبور فباله شاسع، وصدره واسع، ومن ثَم فإنه يتأنى ويتثبت وبالتالي يكون أقل خطأ.

 

ومن علامات التؤدة العفو والصفح وكظم الغيظ؛ فالمتأني لا ينفعل بسرعة كالمجنون، بل يتثبت أولاً وينظر إلى المصلحة، ويتذكر قوله -تعالى-: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) [ آل عمران: 134].

 

المستعجل تخونه الحكمة والحكمة لا تكون إلا مع التؤدة، ولذلك ذكرنا أن الحكم على الناس في كثير من الأحيان تشوبه العاطفة قبل العقل.

 

في مستدرك الحاكم بسند صحيح عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا عليكم أن لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بِمَ يُختم له، فإن العامل يعمل زماناً من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول –نسأل الله السلامة والعافية- فيعمل عملاً سيئًا. وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملاً صالحاً. وإذا أراد الله بعبده خيراً استعمله قبل موته" قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه. (صححه الأرناءوط والألباني).

 

اللهم اختم لنا بخير يا رب العالمين..

 

 

 

المرفقات

التؤدة والاستعجال

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات