بيت المقدس بين فتح الفاتحين وتخاذل المتخاذلين

الشيخ محمد سرندح

2022-03-04 - 1443/08/01 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/مختصَر قصة فتح بيت المقدس 2/تعلق قلوب الصحابة والمسلمين الصادقين ببيت المقدس 3/بيان ألوية فتح بيت المقدس وقوادها 4/تحية إجلال ومؤازرة للمرابطين في بيت المقدس وأكنافه 5/للمسلمين السابقين تاريخ مشرّف في الحفاظ على بيت المقدس 6/المعنى الحقيقي لإهداء الزيت لبيت المقدس 7/صفحات تاريخ بيت المقدس مشرقة رغم الواقع المؤلم الحزين 8/الوصية باغتنام شهر شعبان

اقتباس

هذه الدروس المُشرِقة من حلقات الإسراء والمعراج هي الأصل، وكلُّ حِقبةٍ من الزمن تأتي على القدس خِلاف هذه الصورة المشرقة هي دخيلةٌ ومخالِفةٌ للأصل، وأنَّ أنوارَ المعراج ونورَ الفاتحينَ، التي أَسرَجَت الأقصى استمرَّ شعاعُها للمرابطينَ، فأضاءت دَربَهم، ووضَّحَتْ لهم جميعَ الألاعيب والضبابيات، التي تَصدُر من هنا وهناك...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله؛ (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 71]، الحمد لله؛ (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا)[الْإِسْرَاءِ: 5]، الحمد لله؛ (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ)[الْإِسْرَاءِ: 7]، الحمد لله؛ (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[الْإِسْرَاءِ: 16].

 

وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، تفرَّد بالعزة والجبروت، لا يُذَلّ مَنْ والاه، ولا يُعَزّ مَنْ عاداه، يَنصُر أولياءه ويَكبِت أعداءه وهو عزيز ذو انتقام، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

دعا إلى الله فالمستمسكون به *** مستمسكون بحبل غير مُنفَصِمِ

فاق النبيين في خَلق وفي خُلُق *** ولم يدانوه في عِلْم ولا كَرَمِ

 

ورضي الله عن صحبه الكرام، الذين اختارهم الله لصحبته، ولتبليغ دعوته؛ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)[الْأَحْزَابِ: 23]، وارضَ اللهم عن التابعينَ وتابعيهم، ومَنْ حمَل رايةَ الإسلام بعدَهم من الفاتحينَ والمجاهدينَ والصالحينَ.

 

مضت معجزة الإسراء والمعراج، مضت الحلقة الأولى من سلسلة حلقات الإسراء والمعراج، ورسَم -صلى الله عليه وسلم- للأمة الإسلامية واجبَهم نحوَ أرض الإسراء والمعراج، فأرضُ بيت المقدس ميدانُ الصراع الديني؛ لقد وجَّه اللهُ -سبحانه وتعالى- المسلمين في صلاتهم نحوَ بيت المقدس فغُرست العظمةُ في قلوبهم نحوَه، وبعد الهجرة النبويَّة الشريفة في العام الثامن بدأت أولُ حلقات الإعداد لبيت المقدس؛ فكانت معركةُ مؤتة، وفي العام التاسع كانت معركةُ تبوك، وفي العام الحادي عشر الهجري أعدَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لفتح الشام حملةَ أسامة بن زيد، وبعد انتقاله -صلى الله عليه وسلم- حمَل الراية نحوَ بيت المقدس أبو بكر الصديق، وسيَّر حملة أسامة للشام، وأكمَل عمرُ بنُ الخطاب المهمةَ، فكانت أجنادينُ واليرموكُ، ووصَل الفتحُ الإسلاميُّ إلى مشارف بيت المقدس، وتشاوَر الصحابةُ الفاتحون: هل نتوجَّه بالجيوش إلى سواحل الشام أم إلى القدس؟ فاستشاروا الخليفةَ عمرَ بنَ الخطاب، واستقرَّ الرأيُ للتوجه لبيت المقدس، ففرح المسلمون فرحًا شديدًا؛ حيث قلوبهم ووجدانهم متعلِّق ببيت المقدس، كتلك الصحابية التي اشتكت مرضًا، فقالت: "لَئِنْ شفَاني اللهُ لَأخرُجنَّ فلأصلينَّ في بيت المقدس"، فبرئت وعافاها اللهُ.

 

أبو عبيدة الصحابي القائد، أمير الجيوش، عقَد راياتٍ إلى بيت المقدس؛ الراية الأولى: للواء الركن خالد بن الوليد، عقَد له رايةً بخمسة آلاف جندي، ووجَّهَه إلى بيت المقدس، الراية الثانية: القائد اللواء يزيد بن أبي سفيان، عقَد له أبو عبيدة خمسة آلاف جندي ووجَّهَه إلى بيت المقدس، وأوصاه إذا أشرفت على القدس فارفعوا أصواتكم بالتهليل والتكبير، وادعوا الله أن يسهل فتحها على يد المسلمين، الراية الثالثة: عقَدَها للقائد شرحبيل بن حسَنَة، بخمسة آلاف جندي، ووجَّهَه إلى بيت المقدس، الراية الرابعة: عقَدَها لِلَّواء الركن ابن أبي وقَّاص، بخمسة آلاف جندي، والراية الخامسة: بخمسة آلاف جندي للمسيب، والسادسة للقائد الركن قيس بن هبيرة، بخمسة آلاف مقاتل، والراية السابعة للواء الركن عروة بن مهلهل بخمسة آلاف مقاتل، وأوصاهم جميعًا بأن يُبادِرُوا بالتكبير والتهليل حينما يُشرفون على بيت المقدس، وازداد ضجيج التكبير حول بيت المقدس، وحوصرت في البرد الشديد مدةً من الزمن، إلى أن وصلت الاستجابات بضرورة قدوم أمير المؤمنين لبيت المقدس، فازداد التكبير والتهليل، وقذَف اللهُ الرعبَ بقلوب ساكنيها من الروم، إلى أن وصل الخليفة فازداد المشهد جَمالًا وهيبةً؛ حيث التفَّ حولَ بيت المقدس، سبعةُ ألوية متوضئة، خمسة وثلاثون ألفًا، أغلبُهم ممَّن شاهدوا صاحبَ المعراج، يتقدمهم خليفة المسلمين، وزاد الموقف تجييشًا للمشاعر، حين قال بلال: الله أكبر، صدَح بلالٌ الله أكبر، الله أكبر، أثبَت بلال: الله أكبر، فكان البكاءُ سيدَ الموقفِ، مستذكرينَ صاحبَ المعراج، واكتملَتْ سلسلةُ حلقات بيت المقدس، واستلم الخليفةُ أرضَ الإسراء والمعراج.

 

مع هذا الجمع المبارك الكريم، وأستذكر هذا المشهد، التفاف المرابطين بالمسجد الأقصى، حيث شدُّوا الرحال إليه، حيَّا اللهُ هذه الوجوهَ النيرةَ، التي عمَّرت المسجدَ الأقصى في المعراج وفي سائر الأوقات، حيَّا اللهُ هذه الوجوهَ التي حافظَتْ على قدسيَّة المكان واحترمت زُوَّارَ القدسِ، حيَّا اللهُ هذه النفوسَ المؤمنةَ التي أَتَتْ من الكُلِّ الفلسطينيِّ، نضَّر اللهُ أطيافَ مجتمعِنا الذين يقفون وقفةً قويةً للحفاظ على أَمْنِ الزوارِ وسلامتِهم وخدمتِهم، حيَّا اللهُ الهممَ العاليةَ التي التحقت ببيت المقدس من أرجاء المعمورة لتُشارِكَ أهلَ بيت المقدس بذلك اليوم الذي التقت فيه الأرضُ بالسماء.

 

استَلَم عمرُ أرضَ الإسراء والمعراج بهذا المشهد التاريخي، فهذا تاريخنا، وهذه روايتنا، وهذا ميزان الأمة إن أرادوا سُمَّوًا؛ (عِبَادًا لَنَا)[الْإِسْرَاءِ: 5]، كما دخلوه أول مرة، على قلب واحد، موحَّد المشاعر والأهداف، استمِعْ -أيها المؤمنُ- لصفة من صفات (عِبَادًا لَنَا)[الْإِسْرَاءِ: 5]، عندما عمَّر الصحابةُ طرقَ القدس وأزقتها ومداخلها تهامَس بعض السكان فيما بينهم؛ ليختبروا هذه الجيوشَ، فأظهَرُوا للمسلمين المتاعَ الحسنَ والمُغرِيَات، والزينة وطرحوها بالطرقات، فكانت تحتَ متناوَل يد المسلمين، تُبهِر الناظرينَ، وتُعجِب الضعفاءَ، إلَّا أنَّ تلك القلوبَ التي مُلئت عزةً وأنفةً ورفعةً بالإيمان لم تلتفت لتلك التسهيلات والرفاهية والإغراءات، جموع الموحِّدين كان لسان حالهم يقول: "الحمد لله الذي أورثنا ديارَ قومٍ مثلِ هؤلاء".

 

وستبقى هذه الطائفة التي بشَّر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمة على الحق، في بيت المقدس، لا يغريها مالٌ، ولا متاع ولا جاه، ولهذا احتفَتِ الأمةُ بالإسراء والمعراج؛ فهو نبض قلوبها، ولهذا نعيد مشاهد التاريخ ونعيش كل يوم في رحاب آية: (سُبْحَانَ)[الْإِسْرَاءِ: 1]، بمشاعرنا ووجداننا، لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

 

تسابَق المؤمنون للمكث ببيت المقدس، على مر العصور من العلماء والمجاهدين والعُبَّاد والصالحين، وتركوا وراءهم بصمات واضحة، من عقارات الوصف، وكُتُب العلم، والمدارس والتكايا والزوايا، ومَنْ صَعُبَ عليه أمرُه بعَث لبيت المقدس احتياجَه، قال عليه الصلاة والسلام للصحابي السائل: "أرأيتَ يا رسولَ اللهِ، إن لم أستطع أن أتحمَّل إليه؟ قال: فتُهدي له زيتًا يُسرَج فيه، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه"، وإهداء الزيت للأقصى هو جهد المقل، (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا)[الْأَحْقَافِ: 19]، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[الْمُطَفِّفِينَ: 26]، أما النص النبوي فهو إهداء الزيت، وأما مفهوم النص النبوي هو ما فعَلَه عمرُ بنُ الخطاب، حيث أسرَج بيتَ المقدس بالرجال الفاتحين، وكم أَسرَجت الأمةُ مُهَجًا للمسرى، وكم أَسرَج صلاحُ الدين رجالًا لبيت المقدس فمن كان فِكْرُه محجورًا فاعتَقَد أن القدس متعطشة للزيت فقد أخطأ الاجتهادَ.

 

ولله درُّكَ أيها البيتُ الفلسطينيُّ؛ كم أسرجت من فلذات أكبادك للأقصى، أخرج أحمد بسند صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الدجال لا يقرب أربعة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الطُّور، والمسجد الأقصى، فمن أراد ببيت المقدس سُوءًا أخمَد اللهُ ذِكرَه وأهلَكَه اللهُ تعالى.

 

ادعوا اللهَ أن يُهيئ لنا وللمسلمين قائدًا مؤمنًا رحيمًا، يُسرِج لبيت المقدس ما به. اللهم آمين.

 

ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي جعلنا من أهل أرض الإسراء والمعراج، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، -سبحانه- المنزَّه عن الشبيه والنظير، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله، -صلى الله عليه وسلم- الذي صلى إمامًا بالأنبياء والمرسَلينَ، فكانت أعظمَ صلاة بأعظم إمام، وأعظمِ مؤمنينَ بأعظمِ مكانٍ.

 

هذه الدروس المُشرِقة من حلقات الإسراء والمعراج هي الأصل، وكلُّ حِقبةٍ من الزمن تأتي على القدس خِلاف هذه الصورة المشرقة هي دخيلةٌ ومخالِفةٌ للأصل، وأنَّ أنوارَ المعراج ونورَ الفاتحينَ، التي أَسرَجَت الأقصى استمرَّ شعاعُها للمرابطينَ، فأضاءت دَربَهم، ووضَّحَتْ لهم جميعَ الألاعيب والضبابيات، التي تَصدُر من هنا وهناك، فإن التباكي على أرض الإسراء والمعراج، وترك المقدسيين يواجهون ما يحاك ضدَّهم من الهدم والتهجير، لا يزيد المتخاذلينَ إلا بُعدًا وذلًّا وحرمانًا، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم.

 

ويبقى أهلُ بيت المقدس مِنْ بَحرِها إلى نَهرِها، ومَنْ سكَنَت القدسُ في قلبه هم الأمناء على الأرض المباركة، وهم ورثة الفاتحين.

 

أَهَلَّ على الأمة الإسلامية شهرُ شعبان الذي تُرفَع فيه الأعمال إلى الله، وخير أعمال أهل الإسراء والمعراج شد الرحال إلى المسجد الأقصى، في شعبان ورمضان وسائر الأعوام، سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيام شعبان فقال: "ذلك شهر يغفُل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهرٌ تُرفَع فيه الأعمالُ إلى رب العالمين، فأُحِبُّ أَنْ يُرفَع عملي وأنا صائم".

 

اللهم يا صاحبَ المنِّ والفضلِ والجودِ والكرمِ، أنتَ صاحبُ المنِّ ولا يُمَنّ عليكَ، يا ذا الطَّوْل والإنعام، يا ظهيرَ المرابطينَ، ويا مأمنَ اللاجئينَ والمحاصَرينَ، ويا جارَ المستجيرينَ والمسجونينَ، يا مَنْ ألَّفْتَ بينَ قلوب المؤمنين، لا تجعَلْنا من الأشقياء، ولا تجعَلْنا من المحرومينَ.

 

اللهم إنَّ المرابطينَ واقفون ببابكَ فلا تجعلنا من المطرودينَ، اللهم يسِّر أرزاقَ المسلمينَ، ووفِّقْهم للخيرات بإذنكَ، ووفِّق المسلمينَ للرباط بفضلكَ، اللهم طهِّر المعراجَ من تدنيس الكفر والكافرين، اللهم اصرف عنَّا البلاء ما عَلِمْنا منه وما لم نعلم، وأنتَ به أعلمُ، إنكَ أنتَ الأعزُّ الأكرمُ.

 

وارضَ اللهم عن الصحابة الفاتحين، ونجعل مسكَ الختام الصلاةَ على صاحب المعراج، اللهمَّ يا مَنْ جعلتَ الصلاةَ على النبي من القُرُبات، نتقرَّب إليكَ بكل صلاةٍ صُلِّيَتْ عليه من أول النشأة إلى ما لا نهايةَ للكمالات.

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182]، وأَقِمَ الصلاةَ.

المرفقات

اغتنم خمسا قبل خمس.doc

اغتنم خمسا قبل خمس.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات