بيان كثرة طرق الخير

ناصر بن محمد الأحمد

2013-07-03 - 1434/08/24
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ تعدد أبواب الجنة لتعدد طرق الخير إليها 2/ الهدي النبوي بتنويع الوصايا لتنوع حال أصحابها 3/ تنوع طرق الهداية لاختلاف طاقات المسلمين وميولهم 4/ آثار قياس الصلاح بسلوك كل سبل الخير 5/ تفاوت الصحابة الكرام في عباداتهم وجهادهم وإيمانهم 6/ أعمال المسلمين حسب طاقاتهم يكمّل بعضها بعضا

اقتباس

مَن تأمَّلْ هذه الأحاديث علم أن الله -تعالى- رؤوف بالعباد، ومن رأفته بعباده أنه نوّع لهم طرق الخير، وعدد لهم سبل الوصول إلى جنته ورضوانه، فقد علم -سبحانه- أنهم ليسوا سواء، وعلم -سبحانه- أنهم مختلفو القدرات، مختلفو الطاقات، مختلفو الهمم، مختلفو العزائم، و"كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَه"، فلم يحصر الخير والبر في باب واحد؛ ليستطيع كل منهم أن...

 

 

 

 

إن الحمد لله: أما بعد أيها المسلمون: روى الإمام أحمد في مسنده عن عتبة بن عبد السُّلَمي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الجنة لها ثمانية أبواب، والنار لها سبعة أبواب".

 

وفي الصحيحين؛ من حديثِ أبي حازمٍ، عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون".

 

وفيهما أيضاً من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمَن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان".

 

وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما منكم من أحد يتوضأ فيبالغ، أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء".

 

أيها المسلمون: الجنة لها ثمانية أبواب، وردت أسماء أربعة منها في الصحيحين وهي: باب الصلاة، وباب الجهاد، وباب الصدقة، وباب الريان، كما في الحديث آنف الذكر.

 

والباب الخامس من أبواب الجنة: هو الباب الأيمن وهو باب المتوكلين: كما ورد في حديث الشفاعة الطويل، ومما جاء فيه: "يا محمد، أَدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب" رواه البخاري ومسلم.

 

والباب السادس من أبواب الجنة: هو باب الوالد: قال -عليه الصلاة والسلام-: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه". أي: خير الأبواب وأعلاها. رواه الترمذي وابن ماجة وهو صحيح.

 

والباب السابع من أبواب الجنة: هو باب لا حول ولا قوة إلا بالله: قال -عليه الصلاة والسلام- لسعد بن عبادة: "ألا أدلك على باب من أبواب الجنة؟" قلت: بلى. قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله" رواه الترمذي وهو صحيح.

 

وأما الباب الثامن من أبواب الجنة: فقد يكون باب الحج، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله.

 

وقد يكون باب التوبة: فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "للجنة ثمانية أبواب، سبعة مغلقة، وباب مفتوح للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه" رواه أبو يعلى والطبراني.

 

أيها المسلمون: مَن تأمَّلْ هذه الأحاديث علم أن الله -تعالى- رؤوف بالعباد، ومن رأفته بعباده أنه نوّع  لهم طرق الخير، وعدد لهم سبل الوصول إلى جنته ورضوانه، فقد علم -سبحانه- أنهم ليسوا سواء، وعلم -سبحانه- أنهم مختلفو القدرات، مختلفو الطاقات، مختلفو الهمم، مختلفو العزائم، و"كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَه"، فلم يحصر الخير والبر في باب واحد؛ ليستطيع كل منهم أن يسابق في الباب الذي يستطيعه.

 

وقد كان هذا منهج الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فكانت إجابته لمن يسأله بحسب تنوّع الحال عند السائل، فلما سأله أحد الصحابة: أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله" رواه البخاري من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.

 

ولما سأله آخر كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حَجٌّ مبرور". تلاحظ هنا اختلاف الإجابة، مع أن السؤال واحد.

 

ومن هنا يتبين لك أخي المسلم خطأ الكثير من الناس حين يريدون من عباد الله أن يكونوا سواسية في الخير وطرقه، وليس هذا عدلاً، فالناس: فيهم القوي وفيهم الضعيف، ومنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.

 

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "هذه الأمة يوم القيامة أثلاث: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وثلث يجيئون بذنوب عظام، فيقول الله: ما هؤلاء؟ وهو أعلم بهم، فتقول الملائكة: هم مذنبون؛ إلّا أنهم لم يشركوا، فيقول الله: أدخلوهم في سعة رحمتي" ذكره ابن جرير في تفسيره.

 

أيها المسلمون: إن طرق الهداية متنوعة؛ رحمةً من الله بعباده، ولطفاً بهم لتفاوت عقولهم وأذهانهم وبصائرهم؛ ولقد حجّر واسعاً من قَصَر الخير والنجاة من النار والفوز بالجنة في باب واحد: فهو الجهاد عند بعضهم، وعند بعضهم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعند آخرين هو طلب العلم، وعند آخرين هو الزهد، وعند آخرين هي الأعمال الإغاثية، وهكذا.

 

وليس الأمر كما زعموا، نعم لكل ما ذكر فضل، وفضل الجهاد معلوم، وفضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معلوم، وفضل طلب العلم معلوم، كما هو معلوم أيضاً أن سيد الشهداء حمزة، ورجل قام عند سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله، ولكن ليس كل الناس يُطلَب منهم ذلك كله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" رواه مسلم؛ قال الله -تعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن:16].

 

ولما أوجب بعض الناس على كل الناس أن يأتوا بالأمر كله حصل التنازع والتجهيل والتضليل والتفسيق والتبديع، بل حتى التكفير، ونيل من بعض طلبة العلم، واتُّهمت نواياهم، وقُلل من شأنهم، وانتُهكت أعراضهم، والحامل عليه: هو الجهل بتنوع العبادات، وتفاوت الهمم، وعدم فقه الخلاف، والأمر أوسع من ذلك كله، فما على من أراد أن يدعى من الأبواب كلها من ضرورة، ولكن؛ من يَسّر الله له في الصلاة، أو في الصيام، أو في الصدقة، فكل ذلك من أبواب الجنة، والقضية أن يدخل المرء الجنة من أي باب.

 

وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير"، ففي كلٍّ منَ القويّ والضعيف من المؤمنين خيرٌ لاشتراكهما في الإيمانِ، وقد يكون المؤمِن ضعيفاً في بدَنه قويّاً في إيمانه وماله، وقد يكون نحيلَ الجِسم ولكنّه قويّ الفِكر والقلَم، وإلى هذا تشير الكلمة النبويّة: "وفي كلٍّ خير".

 

وليس كل الناس بمستوى الصدّيق -رضي الله عنه- ويكون بإمكانه أن ينال معظم طرق الخير ويدخل من أي أبواب الجنة، كما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله! هذا خير؛ فمَن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان". قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: يا رسول الله! ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؛ فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم، وأرجو أن تكون منهم" رواه مسلم.

 

أبوابها حقٌ ثمانيةٌ أتت   ***    في النَّصِّ وهْيَ لصاحبِ الإحسانِ

بابُ الجهاد وذاك أعلاها وبا *** بُ   الصَّوْمِ، يُدعى الباب بالرَّيَّان

ولكلِّ سَعْىٍ صالحٍ بابٌ ورَبُّ    ***    السَّعْيِ مِنْهُ داخلٌ بأمان

ولَسَوْفَ يُدْعَى المرءُ من أبوابها   ***    جَمْعَا إذا وافى حُلَى الإيمان

منهم أبو بكرٍ هو الصدّيق ذا *** كَ   خليفةُ المبعوثِ بالقرآن

 

ومن يتحمّل أن يكون مثل أبو بكر -رضي الله عنه- ويقوم بعدد من الأعمال العظيمة في يوم واحد؟ سَأل النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟" قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا. قال: "من تبع منكم اليوم جنازةً؟". قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا. قال: "مَن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟"، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا. قال: "مَن عاد منكم اليوم مريضاً؟"، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة" رواه مسلم.

 

أيها المسلمون: إن الحياة بنيت على التنوع، ومن هنا قال الله -تعالى-: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة:122]، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يسافرون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في رمضان، فيفطر بعضهم ويصوم بعضهم، فلم يعب الصائم على المفطر، ولم يعب المفطر على الصائم.

 

وليس كل الصحابة سواء في عباداتهم ولا في جهادهم ولا في إيمانهم، فأبو بكر مثلاً ليس مِثلَ بلال، وليس صهيب مثلَ عليّ، -رضي الله عنهم- أجمعين، وإن شملتهم فضيلة الصحبة، ومن هنا قال الله -تعالى-: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [الحديد:10]. وقال -جل وعلا-: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [النساء:95]، فالكل موعود بالجنة، وإن تفاضلت منازلهم ودرجاتهم.

 

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" رواه مسلم.

 

وبوّب الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في كتابه الشهير رياض الصالحين فقال: باب بيان كثرة طرق الخير، وساق أحاديث كثيرة، من أشملها حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".

 

ثم إن رضا الله الذي هو أكبر من كل شيء، وأفضل ما في نعيم أهل الجنة، كما قال -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:72]، هذا الرضوان الكبير والفضل العظيم يناله مَن فعل ما جاء في حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها" رواه مسلم.

 

أيها المسلمون: إن المحصلة مما تقدم أمران:

 

الأمر الأول: أن بعض الناس يريد من العلماء أن يكونوا مجاهدين، ويريدون من المربين أن يكونوا محتسبين، ويريدون من طلبة العلم أن يكونوا زُهَّاداً، ويريدون من عامة الناس جميعاً أن يكونوا سواء، في القدرات وفي الأعمال وفي الهمم وفي العمل، وهذا طلب محال مخالف للواقع والجبلّة، ولا يشترط في المسلم أن يكون عالماً وأن يكون مجاهداً صائماً قائماً آمراً ناهياً عابداً زاهداً باذلاً، وإن كان هذا هو الأفضل، ولكن قد يُفتح للمسلم باب، ويُغلق عليه باب آخر، فانظر إلى الباب الذي فُتح عليك فيه فاعمل، ولا تعب على آخر لم يفتح عليه من بابك نفسه، ولكن فُتح عليه من باب آخر، فلله الفضل والمنة.

 

قال محمد بن مصعب العابد: "لسوط ضُربه أحمد بن حنبل في الله، أكبر من أيام بشر بن الحارث". قال الإمام الذهبي معلقاً: "بشر بن الحارث عظيم القدر كأحمد، ولا ندري وزن الأعمال، إنما الله يعلم ذلك". وصدق الذهبي رحمه الله، ففي الحديث الشريف أن الله قد غفر لبغيٍّ بسقيا كلب، ولرجل بشوكة أماطها من طريق المسلمين.

 

الأمر الثاني: أن من أُغلق دونه باب من أبواب الخير لسبب أو لآخر، فإذا كان مدركاً لما تقدم ذكره فإنه لا يقف عند باب أُغلق دونه، بل يسعى لفتح أبواب أخرى؛ فمَن أُغْلِقَ دونه باب الحسبة، فليطرق باب إغاثة الملهوف مثلاً، ومن أغلق دونه باب طلب العلم، فليطرق باب العبادة مثلاً، فأبواب الخير متنوعة، وطرق ووسائل إيصال الخير للناس لا يقف عند باب.

 

أيها المسلمون: لا يمكن للناس جميعاً أن يكونوا صدّيقين، ولا يمكن للناس جميعاً أن يكونوا أئمة مجتهدين، وقد قسّم الله الذين أنعم عليهم أربعة أقسام: النبيين، ولا يمكن أن نكون منهم، والصدّيقين والشهداء والصالحون، فمن استطاع أن يكون صدّيقاً فهو أكمل، ومن استطاع أن ينال الشهادة في سبيل الله  فما أعظمها من كرامة! ومن عجز عن هاتين الخصلتين فلا ضرر عليه أن يكون من الصالحين، ومن كان من الصالحين فهو من المنعم عليهم، ومرافق للنبيين والصديقين والشهداء، والله يختص برحمته من يشاء، والله واسع عليم.

 

كتب رجل إلى الإمام مالك يحضّه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: "إن الله قسّم الأعمال كما قسّم الأرزاق، فرُب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد؛ فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظنّ ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر".

 

ألا فليجتهد كل منا للعمل بما يرضي الله ما استطاع، والله هو الحسيب، وليس كل الناس ابن حنبل ومالكاً وابن تيمية، بل إن الأئمة في الناس قليل، فلا تطلبوا من الناس أن يكونوا أئمة جميعاً.

 

قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "ما زال جماعة من المتزهدين يُزْرُون على كثير من العلماء إذا انبسطوا في مباحات، والذي يحملهم على هذا الجهل، فلو كان عندهم فضل علم ما عابوهم، وهذا لأن الطباع لا تتساوى، فرُب شخص يصلح على خشونة العيش، وآخر لا يصلح على ذلك، ولا يجوز لأحد أن يحمل غيره على ما يطيقه هو، إذ إن الضابط هو الشرع، فيه الرخصة، وفيه العزيمة، فلا ينبغي أن يلام من حصر نفسه في ذلك الضابط، ورب رخصة كانت أفضل من عزائم لتأثير نفعها".

 

وصلى الله على الحبيب وسلم إذ أعطى كل واحد من صحابته ما رأى أنه فُتح عليه منه، فأوصى رجلاً من الصحابة بعدم الغضب، وقال لآخر: "أعِنِّي على نفسك بكثرة السجود"، وقال لثالث: "قل آمنت بالله، ثم استقم"، وقال: "أفرضكم زيد"، وأمر من أراد أن يقرأ القرآن أن يقرأ على قراءة ابن أم عبد ومعاذ وسالم مولى أبي حذيفة وأبيّ بن كعب، وأعطى الراية علياً، وأمّر أسامة على جيش فيه كبار الصحابة منهم عمر الفاروق، وقال لخالد بن الوليد، وهو سيف الله المسلول: "لا تسبوا أصحابي".

 

فلو أدركت هذا -أخي المسلم- زال عنك كثير مما يعانيه بعض الناس من تثبيط الهمم، واحتقار أعمال غيرهم، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً) [الإسراء:84].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

 

أما بعد: أيها المسلمون، إن المؤمن لا تتكامل شخصيته ويستقيم عوده ولا يكون قوياً ويُعرف بذلك إلا بالعمل بما علم.

 

إن المعرفة الصحيحة الناضجة والعلم النافع والمبادرة بتطبيق ذلك والعمل به هو استنارة للقلوب، وتصحيح للمسيرة، يقول بعض السلف: كنا نستعين على حفظ أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعمل بها.

 

ويقول بعض الحكماء: إذا أردت الاستفادة من النصائح المكتوبة والمسموعة، فجربها واعمل بها، فإنك إن لم تفعل كان نصيبك نسيانها.

 

إن المعلومات النظرية التي لم ينقلها العمل من دائرة الذهن والأفكار المجردة إلى واقع الحياة لا فائدة فيها، فالجندي لا تنفعه معلوماته إذا لم يمارسها في الميدان، وماذا ينفع الطبيب علمه وكراريسه وآلاته إذا لم يمارسها طباً وعلاجاً؟ وكذلك الشباب؛ ما فائدة الكم الهائل الذي يُلقى إليه من خلال الدروس والخطب والمحاضرات واللقاءات والندوات والرحلات إذا لم يحوّل هذا كله إلى حياة طيبة، ودعوة مباركة، ونشاط مستمر لا يتوقف؟.

 

ولا يشترط أن يكون الجميع نسخة واحدة، فبلال غير عمر، وخالد غير أبي ذر، وابن عباس غير معاوية، ومصعب غير عبد الرحمن بن عوف، كانوا مهاجرين وأنصاراً، وكان فيهم أصحاب بيعة الرضوان، فيهم الولاة والحكام، وفيهم العسكريون والقادة، وفيهم أوعية العلم والفقه؛ لكن كلهم أبلى في الإسلام بلاءً حسناً، وكلهم كان ثغراً من ثغور الإسلام فحفظه وصانه، وهذا هو المهم.

 

لهذا فالأعمال كثيرة، والواجبات متنوعة، والمطلوب تحقيقه ضخم؛ وبناء عليه، فالمطلوب من كل مؤمن يهمه أمر الإسلام أن يَعلَم من العلم ما يقوده إلى حسن العمل أولاً، ثم يكون جندياً في سرية من سرايا هذا الدين فيتخذ موقعه المناسب حسب قدرته وموهبته وحاجة الدعوة إليه.

 

وليُخلص كل مؤمن أن يعمل بجد ومثابرة، فإن الباطل يزحف، وسيله جارف، ولا يقابَل ذلك إلا إيمان وعمل، ألا فاعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له: (وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة:105].

 

أيها المسلمون: يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ترى المؤمنين في تراحمهم  وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" أخرجه البخاري من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-.

 

وتشبيه النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين في هذه الأوصاف بالجسد ليثير عندنا مكنونات الإحساس والشعور بالتلاحم، كثبوت الأصابع في راحة الكف، مع عدم تساويها في مهماتها ولا في شكلها، والتشبيه -وإن كان يراد منه بيان مدى تلاحم الأسرة المؤمنة- فيه معنى آخر وهو ما نحن بصدده: وهو أن الجسد متلاحم ومتعاضد مع تنوع أجزائه واختلاف مهمات تلك الأجزاء ووظائفها، فالعين مثلا لها وظيفتها وأهميتها، وكذلك الأذن والقلب، وهذه الأعضاء الثلاثة مع اختلاف بينها إلا أن كل منها مكمل لوظيفة الآخر، وهو العلم، قال -جل وعلا-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78].

 

فاختلاف التنوع مراد من أصل الخليقة، فلنعمل على أن نكون مختلفين اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد وتناحر وتسفيه وتجهيل، وإن كان شيء أفضل من شيء، ففضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

 

واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

ثم اعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم؛ فخذوا حذركم، واعلموا أنكم غداً بين يدي الجبار موقوفون، وعمّا عملتم في دنياكم مسؤولون، فخذوا حذركم، وقدموا عذركم، واعلموا أنه لن ينفع في يوم القيامة حول ولا قوة، ولكنه الإيمان، واتباع منهج النبوة.

 

ألا وصلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير، كما أمركم الله بذلك في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

 

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد...

 

 

 

المرفقات

كثرة طرق الخير

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات