بوابة الغواية

الشيخ شايع بن محمد الغبيشي

2024-09-06 - 1446/03/03 2024-09-11 - 1446/03/08
عناصر الخطبة
1/التحذير من الخلوة بالنساء 2/ابتلاء يوسف بامرأة العزيز ونجاته من الفتنة 3/تساهل اختلاط الرجال بالنساء وأثره 4/الحث على الغيرة على الأعراض 5/فتنة النساء من أعظم الفتن

اقتباس

فإلى الله المشتكى فتن في الأسواق، وفتن عبر الشاشات وبرامج التواصل الاجتماعي، فشتان شتان بين من تعرض له الفتنة فيفر منها خائفاً يلوذ بربه أن ينقذه منها، وبين من يبحث عن مضانها، ويلج من أبوابها قبل نوافذها؛ إنه يقود نفسه إلى الهلاك...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الْحَمْدَ لِلَّهِ رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

 

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ قَالَ -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

إخوة الإيمان: حديثنا عن فتنة يحبها الشيطان ويفرح بها، ويملي من خلالها مشهد الغواية، يُبدع نسج فصولها، ويوزع أدوارها بإتقانِ، يرسم من فصولها خارطة الغواية، يزينها ويجملها، يملأ النفوس شغفاً بها، وقل من دلف من بابها فنجى من غوائل الشيطان، جاءت سورة عظيمة من سور القرآن لتحذرنا منها، وتعرض لنا قصة واقعية لبيان ما تجنيه هذه الفتنة على أصحابها، إن لم يلطف بهم الله وينجيهم من غوائلها، فما هي هذه الفتنة؟!.

 

إنها بوابة الغواية، ها هو القرآن يعرض لنا مشهدا حياً لقصةٍ كانت بوابة الغواية، هي فتيلها الذي أشعل الشيطانُ فيه نار الشهوة؛ ليوقعهم في الفحشاء، قذف في قلب امرأة العزيز لما خلت بيوسف الشغف به والطمع فيه، فسعت بكل ما تملك للوصول إليه، تزينت، غلَّقت الأبواب؛ قَالَت: هيت لك، طاردته، أمسكت به حتى قُطع ثوبه، ولولا عصمة الله ليوسف -عليه السلام- لهزم في ذلكم المشهد.

 

فما هي بوابة الغواية؟ إنها الخلوة المحرمة والتساهل في الدخول على النساء، فهل انتهى مشهد الغواية عند؛ (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)[يوسف: 29]؟ كلا، كلا؛ لم ينتهِ أثر تلك الخلوة، ولم تنتهِ فصول مشهد الغواية، بل عظُم البلاء على يوسف -عليه السلام- بعد سخرية النسوة بامرأة العزيز حين قلن: (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[يوسف: 30].

 

خططت امرأة العزيز لمشهد جديد للغواية رسمه الشيطان ورتبت هي أدواره، عندما ادخلت يوسف عليهن لتوقعهن في الفتنة؛ (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)[يوسف: 31]، هكذا اجتمع النسوة كلهن للوصول إلى يوسف -عليه السلام-؛ افتتن به وعظم كيدهن ومكرهن، وصرحت امرأة العزيز تصريحها الخطير؛ (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ)[يوسف: 32].

 

إنها فتنة الخلوة بالنساء والدخول عليهن، ما المخرج ليوسف -عليه السلام- من هذا البلاء ومن هذه الفتنة وهذا المكر الكبار؟ لقد أدرك يوسف -عليه السلام- عظم الفتن التي تحيط به، لم يجد إلا أن يلجأ إلى ربه معتصماً به، طالباً دخول السجن ليسلم له دينه وعرضه؛ (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[يوسف: 33، 34].

 

وفي القصة دروس منها:

أولاً: عظم خطر خلوة الرجل بغير محارمه من النساء، والحذر من الدخول على النساء ومخالطتهن، وهي رسالة للمتساهلين في خلوة الرجال بالنساء خاصة الأقارب من غير المحارم؛ فإن خلوتهم هي الموت والعطب، فعن عقبة بن عامر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت"(رواه البخاري)، والمراد بالحمو أقارب الزوج من غير المحارم، كالأخ والعم والخال وأبنائهم.

 

إننا نرى صورا محزنة للتساهل في الخلوة مع الأقارب ومع العمال والخدم وفي الأسواق وأماكن العمل، قد تنتهي بفجيعة محزنة، وعندها لا ينفع أن نعض أصابع الندم.

 

لكل غيور يغار على عرضة يغار أن تنتهك محارم الله -عز وجل-: لا تتساهل في أمر الخلوة وكن حرباً عليها؛ ليسلم لك أغلى ما تملك ولو بذلت من المال ما بذلت.

 

أصونُ عرضي بمالي لا أدنسهُ *** لا بَارَكَ اللَّهُ بعدَ العِرْضِ في المالِ.

 

ثانياً: القصة رسالة إلى كل أب وزوج وأخ كن حريصاً على محارمك، واعلم أن الله استرعاك إياهم فلا تجعلهم عرضة لذئاب الأعراض، فكم من فتاة عفيفة تساهل وليها في خلوتها بالرجال فكان سبباً في ضياعها، وكم من شاب صالح نقي القلب تساهل في الخلوة بالنساء والدخول عليهن، وأطلق لبصره النظر في الحرام؛ فوقع في الزيغ والغواية.

 

عباد الله: لقد جاء التوجيه الرباني لأطهر النساء قلوباً ولأطهر الرجال افئدة، جاء الخطاب لصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند حديثهن إلى زوجات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)[الأحزاب: 53]، فمن ادعى أنه أقوى إيماناً من الصحابة، أو أن النساء اللاتي يخلو بهن أطهر قلوباً وأملك نفوساً من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد عظم الافتراء، وأكثر الاجتراء.

 

فبُعد النساء عن الرجال حماية من الفتنة والغواية، فعَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ -فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلنِّسَاءِ: "اسْتَأْخِرْنَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ، حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ"(رواه أبوداود وحسنه الألباني).

 

عباد الله: المؤمن غيور على محارمه أن يصونهم ويحفظهم ويدافع عنهم، ومن غيرة المؤمن أن يصون محارمه عما يوقعهم فيما حرم الله، فعن هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ المُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ"(متفق عليه).

 

ومن غيرة المؤمن أن يأمر محارمه بالستر والحجاب، والبعد عن التزين والتطيب عند الخروج في الطرقات والتجمعات العامة، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ، ثُمَّ مَرَّتْ عَلَى الْقَوْمِ لِيَجِدُوا رِيحَهَا؛ فَهِيَ زَانِيَةٌ"(رواه أحمد وصححه الألباني).

 

اللهم جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسأل العافية في الدنيا والآخرة.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

 

عباد الله: ومن دروس القصة:

ثالثاً: الله -جل وعلا- فطر الرجل والمرأة على أن يميل بعضهما إلى الآخر؛ ليتم اللقاء بينهما من بابه الصحيح باب الزواج، واستغل الشيطان هذا الميل الفطري ليوظفه في مسرحية الغواية، فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ"(متفق عليه)، وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان"(رواه الترمذي وصححه الألباني)، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"(رواه مسلم).

 

لأجل ذلك حَذِرَ السلف من هذه الفتنة، وخافوها على أنفسهم، فعن سعيد بن المسيب قال: "ما يئس الشيطان من ابن آدم قط إلا أتاه من قبل النساء"، ثم قال -وهو ابن أربع وثمانين سنة وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى-: "وما شيء عندي أخوف من النساء".

 

رابعاً: في فرار يوسف إلى ربه واعتصامه به من فتنة امرأة العزيز ونسوة المدينة رسالة لكل مسلم، أنِ يفر من فتنة الخلوة بالنساء والدخول عليهنّ في زمن يعج بالفتن، فإلى الله المشتكى فتن في الأسواق، وفتن عبر الشاشات وبرامج التواصل الاجتماعي، فشتان شتان بين من تعرض له الفتنة فيفر منها خائفاً يلوذ بربه أن ينقذه منها، وبين من يبحث عن مضانها، ويلج من أبوابها قبل نوافذها؛ إنه يقود نفسه إلى الهلاك، وقد يخسر دينه وإيمانه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

خامساً: أن يلهج العبد إلى ربه أن ينجيه من الفتن، ويصرف عنه الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فهو -سبحانه- الذي صرف السوء والفحشاء عن عباده؛ (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)[يوسف: 24]، وأن يحرص العبد على الإخلاص لله والعبودية له، ودوام ذكره وشكره، وقد كان من دعاء عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "ربنا أصلح بيننا، واهدنا سبل الإسلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، واصرف عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن"(رواه البخاري في الأدب وصححه الألباني).

المرفقات

بوابة الغواية.doc

بوابة الغواية.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات