بناء الأسرة في الإسلام فطرة وشريعة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-02-10 - 1444/07/19 2023-02-12 - 1444/07/21
عناصر الخطبة
1/بناء الأسرة مقصد شرعي ومراد فطري. 2/الأسس الناجعة في بناء الأسرة النافعة. 3/مخاطر تهدد الاستقرار الأسري واطمئنانها النفسي. 4/سبل حماية الأسرة من الشقاق والافتراق. 5/رسائل إلى أرباب الأسر الأفاضل.

اقتباس

مِنْ سُبُلِ حِمَايَةِ الْأُسْرَةِ مِنَ الشِّقَاقِ وَالِافْتِرَاقِ: حُسْنُ التَّعَامُلِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَالْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ بَيْنَهُمَا، وَالصَّبْرُ وَالتَّغَاضِي عَنِ الْأَخْطَاءِ الْمُحْتَمَلَةِ، فَالرَّجُلُ قَدْ يُخْطِئُ، وَالْمَرْأَةُ قَدْ لَا تُوَافِقُ الصَّوَابَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْحَيَاةَ الْإِنْسَانِيَّةَ حَيَاةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ، تَقُومُ عَلَى الْأُنْسِ بِالْآخَرِينَ، وَلَا تَتَحَقَّقُ مَصَالِحُهَا الْمَرْجُوَّةُ إِلَّا بِالْعَيْشِ الْجَمَاعِيِّ، وَالْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ؛ أَيْ: لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، كَمَا قَالَهُ الْحُكَمَاءُ، وَفِي الْقَصِيدِ:

النَّاسُ لِلنَّاسِ مِنْ بَدْوٍ وَمِنْ حَضَرٍ ** بَعْضٌ لِبَعْضٍ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرُوا خَدَمُ

 

وَأَوَّلُ أُسُسِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْجَمَاعِيَّةِ: الْأُسْرَةُ، الَّتِي يَنْتَظِمُ الْأَفْرَادُ تَحْتَ ظِلَالِهَا الْوَارِفَةِ، فَتَسُودُ عَلَى الْحَيَاةِ الرَّاحَةُ وَالنِّظَامُ، وَالْبِنَاءُ وَالِاسْتِمْرَارُ؛ لِهَذَا كَانَتِ الْأُسْرَةُ مُرَادًا لِلْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الرُّومِ:30].

 

عِبَادَ اللَّهِ: لَمَّا كَانَتِ الْأُسْرَةُ كَذَلِكَ غَدَا بِنَاؤُهَا مَقْصِدًا شَرْعِيًّا، أَوْلَتْهُ شَرِيعَتُنَا السَّمْحَاءُ أَهَمِّيَّةً كَبِيرَةً، وَضَبَطَتْ هَذَا الْمَقْصِدَ الْفِطْرِيَّ وَالشَّرْعِيَّ بِضَوَابِطَ نَافِعَةٍ، تُعِينُ عَلَى تَحْقِيقِ غَايَاتِهِ الْحَمِيدَةِ، وَمَنْ قَارَنَ بَيْنَ حَالِ الْأُسْرَةِ فِي ظِلِّ الْإِسْلَامِ وَالْأُسْرَةِ فِي ظِلِّ غَيْرِهِ عَرَفَ عَظَمَةَ هَذَا الدِّينِ، وَصَلَاحَهُ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ مِنْ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالْأُسْرَةِ: أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا أُسُسًا صَحِيحَةً لِبِنَائِهَا، وَكُلُّ بِنَاءٍ لَمْ يَقُمْ عَلَى أُسُسٍ مَتِينَةٍ فَلَا يَدُومُ وَلَا يُحَقِّقُ الْأَهْدَافَ الْمَقْصُودَةَ مِنْهُ.

 

وَإِنَّ مِنْ تِلْكَ الْأُسُسِ النَّافِعَةِ -عِبَادَ اللَّهِ-: الزَّوَاجَ الشَّرْعِيَّ الْقَائِمَ عَلَى آدَابٍ وَأَحْكَامٍ، مُبَيَّنَةٍ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً)[الرَّعْدِ:38].

 

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ).

 

وَلِأَجْلِ رُسُوخِ بِنَاءِ الْأُسْرَةِ وَاسْتِمْرَارِهِ وَحُصُولِ الْخَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ: حَثَّ عَلَى حُسْنِ الِاخْتِيَارِ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).

 

وَمِنْ تِلْكَ الْأُسُسِ النَّافِعَةِ: أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- جَعَلَ أَمْرَ الْأُسْرَةِ بِيَدِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ مِنَ الْمَرْأَةِ عَلَى هَذِهِ الْمُهِمَّةِ الْعَظِيمَةِ، الَّتِي أَعْطَاهَا بِمُقَابِلِ ذَلِكَ مُهِمَّاتٍ أُخْرَى دَاخِلَ هَذَا الْبِنَاءِ الْمُشْتَرَكِ تُنَاسِبُ فِطْرَتَهَا، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)[النِّسَاءِ:34].

 

وَمِنْ تِلْكَ الْأُسُسِ النَّافِعَةِ: أَمْرُ الشَّرْعِ لَهُمَا بِحُسْنِ الْعِشْرَةِ عَلَى كَيْلِهِمَا وَالْإِحْسَانِ لِبَعْضِهِمَا، وَأَوْجَبَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حُقُوقًا يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ فَرْدٍ الْقِيَامُ بِهَا، فَإِذَا حَقَّقَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَا كَلَّفَهُ الشَّرْعُ بِهِ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لِبِنَاءِ أُسْرَةٍ مُتَمَاسِكَةٍ وَذُرِّيَّةٍ طَيِّبَةٍ صَالِحَةٍ.

 

وَمِنْ تِلْكَ الْأُسُسِ النَّافِعَةِ: أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- شَرَعَ الْفِرَاقَ -بِالطَّلَاقِ أَوِ الْخُلْعِ- عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، بَعْدَ اسْتِيفَاءِ كُلِّ الْحُلُولِ الْمُتَاحَةِ، وَلَا يَبْقَى مِنْ حَلٍّ صَحِيحٍ بَعْدَهَا إِلَّا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ أَنْ تَبْقَى رَابِطَةٌ بَيْنَ زَوْجَيْنِ لَا يُرِيدُ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، أَوْ يَتَضَرَّرُ أَحَدُهُمَا بِبَقَائِهِ مَعَ الْآخَرِ.

 

قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا)[النِّسَاءِ:130]، وَقَالَ -تَعَالَى-: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)[الْبَقَرَةِ:229].

 

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَامُ: إِنَّ الْحَيَاةَ الْأُسَرِيَّةَ لَا تَسْلَمُ مِنْ مُكَدِّرَاتٍ، وَلَا تَبْقَى بَعِيدَةً عَنِ الْمَخَاطِرِ وَالْمُعَكِّرَاتِ، أَلَا وَإِنَّ مِنْ تِلْكَ الْمَخَاطِرِ الَّتِي تُهَدِّدُ الِاسْتِقْرَارَ الْأُسَرِيَّ وَاطْمِئْنَانَهَا النَّفْسِيَّ:

الْبُعْدَ عَنِ التَّمَسُّكِ بِتَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ وَهَدْيِ سَيِّدِ الْأَنَامِ؛ فَالتَّشَبُّثُ الصَّحِيحُ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَآدَابِهِ هُوَ صِمَامُ أَمَانٍ لِلْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ يَحْفَظُ كِيَانَهَا، وَيَصُونُ بُنْيَانَهَا. قَالَ -تَعَالَى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النَّحْلِ:97].

 

وَلَكِنْ حِينَ يَنْحَرِفُ مَسَارُ الْأُسْرَةِ عَنِ الدِّينِ؛ فَإِنَّ الْخَطَرَ سَيُحْدِقُ بِهَا، فَتَكْثُرُ فِيهَا الْمُشْكِلَاتُ، وَتَعْصِفُ بِهَا الْخِلَافَاتُ، الَّتِي قَدْ تَنْتَهِي بِالْفِرَاقِ وَانْتِهَاءِ الْعَلَاقَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَصَدَقَ اللَّهُ إِذْ يَقُولُ: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)[طه:124].

 

وَمِنَ الْمَخَاطِرِ الَّتِي تُهَدِّدُ الِاسْتِقْرَارَ الْأُسَرِيَّ وَاطْمِئْنَانَهَا النَّفْسِيَّ: الْبِيئَةُ الْفَاسِدَةُ، فَالْوَاقِعُ الْمُحِيطُ لَهُ أَثَرٌ كَبِيرٌ عَلَى سَعَادَتِهَا أَوْ شَقَائِهَا؛ وَتَأَمَّلُوا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- فِي قِصَّةِ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ بِمَاذَا نَصَحَهُ الْعَالِمُ؟ فَلَقَدْ أَمَرَهُ بِتَغْيِيرِ الْبِيئَةِ السَّيِّئَةِ فَقَالَ: "انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ؛ فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ عَلَى كُلِّ زَوْجٍ وَزَوْجَةٍ أَنْ يَحْرِصَا عَلَى سَلَامَةِ أُسْرَتِهِمَا، وَدَوَامِ الْمَوَدَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَأَنْ يَحْذَرَا عَوَامِلَ الْهَدْمِ وَالشَّقَاءِ، وَيَبْحَثَا عَنْ سُبُلِ الْحِمَايَةِ مِنْ ذَلِكَ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ الْفِرَاقُ قَرِيبًا مِنْهُمَا، وَيَذْهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى سَبِيلِهِ.

 

وَمِنَ السُّبُلِ الْوَاقِيَةِ مِنْ تَصَدُّعِ الْأُسْرَةِ: لُزُومُ طَاعَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَرَسُولِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ فَإِذَا كَانَ الزَّوْجَانِ حَرِيصَيْنِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، خَائِفَيْنِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مَعْصِيَتِهِ، فَإِنَّ بِنَاءَ الْأُسْرَةِ سَيَبْقَى قَوِيًّا مُمْتَدًّا؛ لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ هِيَ الْقُوَّةُ الصَّامِدَةُ أَمَامَ كُلِّ الْأَعَاصِيرِ الَّتِي تُحَاوِلُ زَعْزَعَةَ اسْتِقْرَارِ مَرْكَبِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ فِي بَحْرِ الْحَيَاةِ.

 

وَمِنْ سُبُلِ حِمَايَةِ الْأُسْرَةِ مِنَ الشِّقَاقِ وَالِافْتِرَاقِ: حُسْنُ التَّعَامُلِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَالْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ بَيْنَهُمَا، وَالصَّبْرُ وَالتَّغَاضِي عَنِ الْأَخْطَاءِ الْمُحْتَمَلَةِ، فَالرَّجُلُ قَدْ يُخْطِئُ، وَالْمَرْأَةُ قَدْ لَا تُوَافِقُ الصَّوَابَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَمِنْ سُبُلِ حِمَايَةِ الْأُسْرَةِ مِنَ الشِّقَاقِ وَالِافْتِرَاقِ: اسْتِعْمَالُ الْحِكْمَةِ وَالتُّؤَدَةِ فِي عِلَاجِ الْمُشْكِلَاتِ؛ فَإِذَا حَصَلَتَ مُشْكِلَةٌ فِي بَيْتِكَ -أَيُّهَا الزَّوْجُ- فَلَا تَتَعَجَّلْ بِاتِّخَاذِ قَرَارِ الطَّلَاقِ قَبْلَ أَنْ تُعَالِجَ تِلْكَ الْمُشْكِلَةَ بِحِكْمَةٍ وَعَقْلٍ؛ فَإِنَّ الْحِكْمَةَ نُورٌ فِي غَيَاهِبِ الطُّرُقِ، فَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ -تَعَالَى-: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[الْبَقَرَةِ:269].

 

قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: "الْحِكْمَةُ نُورُ الْأَبْصَارِ، وَرَوْضَةُ الْأَفْكَارِ، وَمَطِيَّةُ الْحِلْمِ، وَكَفِيلُ النَّجَاحِ".

 

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُدِيمَ عَلَى الْأُسَرِ الْمُسْلِمَةِ نِعْمَةَ الِاسْتِقْرَارِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهَا عَوَامِلَ الْهَدْمِ وَالِانْدِثَارِ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ الْأَوْفِيَاءِ، أَمَّا بَعْدُ:

 

يَا أَرْبَابَ الْأُسَرِ الْفُضَلَاءَ: هُنَاكَ رَسَائِلُ مُهِمَّةٌ نُوَجِّهُهَا مُوجَزَةً لَكُمْ نَرْجُو أَنْ تَعُوهَا، وَتَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا، اعْلَمُوا أَهَمِّيَّةَ الْأُسْرَةِ فِي الْحَيَاةِ، وَعِظَمَ آثَارِهَا الْحَسَنَةِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى؛ فَهِيَ سَكَنٌ وَاطْمِئْنَانٌ، وَسَعَادَةٌ وَأَمَانٌ، وَهِيَ الْمَحْضَنُ الَّذِي يَحْوِيكُمْ، وَالْحِصْنُ الْمَنِيعُ الَّذِي يُؤْوِيكُمْ، وَهِيَ الْمَهْدُ النَّظِيفُ الَّذِي يَحْفَظُ بَذْرَكُمْ، وَيَبْنِي بِطَهَارَتِهِ مُسْتَقْبَلَكُمْ، وَيُبْقِي لَكُمْ ذِكْرًا صَالِحًا بَعْدَكُمْ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

يَا أَرْبَابَ الْأُسَرِ الْكِرَامَ: حَافِظُوا عَلَى أُسَرِكُمْ أَشَدَّ الْمُحَافَظَةِ، وَاحْرِصُوا عَلَى سَلَامَتِهَا أَشَدَّ الْحِرْصِ، فَمَا أَكْثَرَ مَعَاوِلَ الْهَدْمِ -الْيَوْمَ- الَّتِي تُحَاوِلُ أَنْ تُوهِنَهَا وَتُصَدِّعَهَا، وَتُفَرِّقَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، فَاحْرُسُوا آخِرَ حِصْنٍ مِنْ حُصُونِ الْأُمَّةِ؛ أَلَا وَهُوَ الْأُسْرَةُ، وَقِفُوا مُتَيَقِّظِينَ عَلَى تُخُومِهَا، وَإِيَّاكُمْ أَنْ يُؤْتَى أَوْلَادُكُمْ مِنْ قَبَلِ غَفْلَتِكُمْ فَيَضِيعُوا أَشَدَّ الضَّيَاعِ.

أَرَى تَحْتَ الرَّمَادِ وَمِيضَ جَمْرٍ ** وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ضِرَامُ

فَإِنَّ النَّارَ بِالْعُودَيْنِ تُذْكَى **وَإِنَّ الشَّرَّ مَبْدَاهُ الْكَلَامُ

 

قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التَّحْرِيمِ:6].

 

يَا أَرْبَابَ الْأُسَرِ الْكِرَامَ: لَا يَكُنِ الطَّلَاقُ أَوَّلَ حَلٍّ تُفَكِّرُونَ بِهِ إِذَا حَصَلَ الْخِلَافُ، وَلَا تَسْتَعْجِلُوا بِالتَّلَفُّظِ بِهِ إِذَا انْفَصَمَ الِائْتِلَافُ، بَلْ كُونُوا حُكَمَاءَ، عُقَلَاءَ، حُلَمَاءَ، فَالطَّلَاقُ هُوَ آخِرُ الْحُلُولِ لِمُشْكِلَةٍ لَا حَلَّ لَهَا إِلَّا بِالطَّلَاقِ (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[الْأَنْفَالِ:1].

 

نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَحْفَظَ أُسَرَنَا مِنَ الشَّتَاتِ، وَمَوَدَّةَ الْبُيُوتِ مِنْ مَقْتِ الِاخْتِلَافَاتِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

 

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى النِّعَمِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

بناء الأسرة في الإسلام فطرة وشريعة.pdf

بناء الأسرة في الإسلام فطرة وشريعة.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات