بماذا نودع رمضان؟

ناصر بن محمد الأحمد

2015-07-08 - 1436/09/21
عناصر الخطبة
1/ تأملات في رحيل رمضان 2/ رمضان عِبْرة وعَبْرة 3/ وجوب المداومة على الأعمال الصالحة بعد رمضان 4/ فوائد المداومة على العمل الصالح 5/ ماذا تعلمنا من رمضان 6/ وصايا مهمة في ختام الشهر.

اقتباس

يقبح بالمسلم أن يبني في رمضان صرح إيمانه، ويجمله ويزينه ثم إذا انقضى الشهر عاد فهدم ما بنى، وأفسد ما شيّد! (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً)، فالله ينهانا أن نكون كهذه المرأة الحمقاء التي تنسج غزلها حتى إذا أبدعته وأحكمته نقضته، ثم عادت تغزل من جديد! وهذا وللأسف حال كثير من المسلمين في كل عام، يعمل ويعمل ويعمل في رمضان حتى إذا بلغ من الخير مبلغاً، وبدأ يحس طعم العبادة ولذة الخشوع، هدم كل ذلك بعد رمضان، فإذا جاء رمضانٌ آخر شرع يبني من جديد فلا يكاد يبلغ منزله الأول حتى ينتكس! فيا رجال التوبة لا ترجعوا إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفطام...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله..

 

أما بعد أيها المسلمون: ربما تكون جمعتنا هذه هي آخر جمعة في رمضان إذا كان الشهر ناقصاً.

 

بالأمس القريب كنا نغترف من بركاته، ونخوض في بحار حسناته، ونرجع كل ليلة بجر الحقائب بما حملنا من خيراته. بالأمس القريب كنا نقطف من روضه زهور الإيمان، ونجد في رحابه الأنس والاطمئنان، كانت تحلق فيه الأرواح، وتطير من غير ما جناح!. وبعد أسبوع سنودع رمضان.

 

ألم يكن قبل أيام بين أيدينا؟ ألم يكن ملء أسماعنا وأبصارنا؟ ألم يكن هو حديث منابرنا، زينة منائرنا، بضاعة أسواقنا، مادة موائدنا، سمر أنديتنا، حياة مساجدنا، فأين سيكون بعد جمعة؟!

 

أين حَرَقُ المجتهدين في نهاره؟ أين قلق المتهجدين في أسحاره؟ أين خشوع المتهجدين في قيامهم؟ ورقة المتعبدين في صيامهم؟ أين أقدامٌ قد اصطفت فيه لمولاها؟ أين أعين جادت فيه بجاري دمعها؟ أين قلوب حلقت فيه بجناحين من خوف ورجاء؟ وسارعت إلى مرضاة ربها تلتمس النجاء؟ أين أيام كانت حياة للحياة؟ وليالي كن قلائد في جيد الزمان؟ لقد تولت كما تولى غيرها، وتقضّت بما فيها ولم يبق إلا الندم والأسى.

 

تذكرت أياماً مضت وليالي *** خلت فجرت من ذكرهن دموعُ

ألا هل لها يوماً من الدهر عودةٌ *** وهل لي إلى يوم الوصال رجوعُ

وهل بعد إعراض الحبيب تواصلٌ *** وهل لبدورٌ قد أفلن طلوعُ؟

 

أتَذكُر أيها الأخ الحبيب سويعات كانت من الصفاء أصفى؟ ومن الشّهد أحلى؟

أما يحن فؤادك إلى دمعات كنتَ سكبتها؟ وعبرات من خشية الله قد أذريتها؟!

 

 أما يهتز قلبك شوقاً إلى لحظات صَفَت فيها نفسك، وحلّقت روحك، حتى كأنك تجاوزت الأرض وترابها، وتنشّقت روائح الفردوس وعطرها؟ أما يعظم أسفك على أيام رفعت فيها يديك مناجياً مولاك؟ فأطرق رأسك ذُلاً، واغرورقت بالدمع مقلتاك؟ لقد مضى ذلك كله، وطوي بساطه، ومر كأن لم يكن، وعاد ذكرى في النفس بعد أن كان واقعاً يشهده الحس، وبقيت في النفس حزازاتُ أسى، وألم ٌعلى فراق راحل عزيز.

 

أيها المسلمون: لقد كان ما كان وانقضى الشهر، وخرج الناس من رمضان وهم فريقان: فريق نصح فيه لنفسه، وقام بحق ربه، فصامه إيماناً وقامه احتساباً، وتحرى فيه مراضي مولاه، وتجنب مظان سخطه، لم يفرّط في دقائقه، ولا أرخى لنفسه زمام هواها، قد اغتسل فيه من ذنوبه وتطهر من أوزاره وخرج منه يترنم:

اليوم ميلادي الجديدُ وما مضى *** موت بُليت به بليلٍ داجي

إني سريت إلى الهداية عارجاً *** يا حسن ذا الإسراء والمعراج

 

وفريق آخر تمنى على الله الأماني واتبع نفسه هواها، فأمضى نهاره في سهو، وليله في لهو، أطلق لبصره العنان، وأرهف سمعه لمساخط الديان، لم يرع للشهر حرمته، ولا عرف له حقه، وكم نُصح فما قبل النُصح، ودعي إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح، شَاهَد الواصلين فيه وهو متباعد، ومرت به زمر السائرين وهو قاعد، حتى إذا ضاق به الوقت، وخاف المقت، ندم على التفريط حين لا ينفع الندم، وطلب الاستدراك في وقت العدم، وهيهات هيهات.

 

وما أحوج الفريقين أيها الأحبة إلى المحاسبة الدقيقة والوقفة الصادقة.

فأما المفرط المقصر فيندم ويتوب، ويستغفر ويؤوب، فعساه إن لم يدرك الخير كله أن يدرك بعضه، وعسى أن يعيش قابل أيامه في طاعة وبر منتظراً عاماً جديداً ورمضانٌ آخر.

 

وأما المطيع المجد فيهتم لقبول عمله، ولقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، وهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه بقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون: 60]، روى الترمذي عن عبد الرحمن بن سعيد أن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات".

 

وإن العجب كل العجب أننا ما إن نخرج من شهر رمضان حتى نكون كالذي ضمن القبول، فلا يفكر أحد في عمله ولا يراجعه ولا يتأمل مدى إخلاصه فيه ولا يلح على ربه أن يتقبل منه، حتى ذلك الدعاء الذي كنا نقوله كل ليلة في رمضان: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم"، حتى هذا الدعاء لم يعد له نصيب وحظ، وشتان ما بيننا وبين أسلافنا في هذا، فلقد كانوا يدعون الله ستة أشهر بعد رمضان أن يَتقبل منهم!.

 

أيها المسلمون: إنها ليست دعوة للقنوط واليأس، ولكنها دعوة إلى محاسبة النفس؛ لأن محاسبة النفس على العمل والخوف من عدم قبوله من صفات المؤمنين وسمات أهل الصلاح المتقين، ومما ينبغي أن يكون في مثل هذه الأيام.

 

ولئن كان قبول العمل من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فإن لكل أمر علامة، ولكل تجارة أمارة، ولقبول العمل علامات تدل عليه، وإن من علامة قبول العمل الصالح الاستمرار عليه والمداومة على أدائه، فقد قال بعض السلف: "ثواب الحسنة الحسنة بعدها". وفي الحديث: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل".

 

اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن للمداومة على العمل الصالح فوائد عظيمة:

منها: أن هذا كان من دأبه -عليه الصلاة والسلام-، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة" (رواه مسلم).

 

ومنها: دوام اتصال القلب بخالقه مما يعطيه قوة وثباتاً وتعلقاً بالله.

ومنها: تعهد النفس عن الغفلة، وترويضها على لزوم الخيرات حتى تسهل عليها وتصبح ديدناً لها.

 

ومنها: أن المداومة سبب لمحبة الله، وفي الحديث القدسي: "وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه" (رواه البخاري).

 

ومنها: أن المداومة سبب للنجاة من الشدائد، وفي الحديث: "احفظ الله يحفظك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة" (رواه الإمام أحمد).

 

ومنها: أن المداومة سبب لحسن الختام، أسأل الله لي ولكم حسن الختام، قال الله تعالى: (وَلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت: 69].

 

ومنها: أنها صفة عباد الله المؤمنين، قال الله تعالى: (لَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج: 23].

 

أيها المسلمون: أما إنه يقبح بالمسلم أن يبني في رمضان صرح إيمانه، ويجمله ويزينه ثم إذا انقضى الشهر عاد فهدم ما بنى، وأفسد ما شيّد! (وَلاَ تَكُونُواْ كَلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً) [النحل: 92]، فالله ينهانا أن نكون كهذه المرأة الحمقاء التي تنسج غزلها حتى إذا أبدعته وأحكمته نقضته، ثم عادت تغزل من جديد! وهذا وللأسف حال كثير من المسلمين في كل عام، يعمل ويعمل ويعمل في رمضان حتى إذا بلغ من الخير مبلغاً، وبدأ يحس طعم العبادة ولذة الخشوع، هدم كل ذلك بعد رمضان، فإذا جاء رمضانٌ آخر شرع يبني من جديد فلا يكاد يبلغ منزله الأول حتى ينتكس!

 

فيا رجال التوبة لا ترجعوا إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفطام، ولكن لا بد من الصبر على مرارة الفطام، فإن صبرتم تعوضتم عن لذة الهوى بحلاوة الإيمان في القلوب، ومن ترك شيئاً لله لم يجد فقده.

 

"يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل". يا من وفىّ في رمضان على أحسن حال، لا تتغير بعده في شوال. يا من أصلح في رمضان، وعزم على الزلل في شوال، ويحك فإن ربّ الشهرين واحد!

 

اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

 

بارك الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه..

 

أما بعد أيها المسلمون: لقد علّمنا شهر رمضان أننا نستطيع أن نبكي من خشية الله، وعلّمنا أننا نستطيع أن نقوم الليل ونصوم النهار، ونكثر من قراءة القرآن، وعلّمنا أننا نستطيع أن نديم المكث في المساجد، وعلّمنا أننا نستطيع أن نترك كثيراً من شهواتنا ورغباتنا.. فهل نتعلم هذا الدرس؟

 

هل ندرك أننا نقدر على فعل الكثير عندما نريد فعله؟ هل نتذكر أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وأن في وسعنا أن نفعل الشيء الكثير؟

 

عباد الله: عما قريب تتقضي الأيام المقدّرة، وتدنو الآجال المكتوبة، ويفارق المرء دنياه، غير حامل زاداً إلاّ زاد العمل الصالح، ولا لابسٌ لباساً إلا لباس التقوى، فأيّنا أعد لذلك اليوم عدته، واتخذ له أهبته؟: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) [النساء: 78]، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) [الجمعة: 8]، وقال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [البقرة: 185]، فالله الله في ساعة لا شك في مجيئها، واجعلوا في تصرّم شهركم عبرة تذكركم بتصرم أعماركم.

 

أيها المسلمون: شرع لنا ربنا في ختام رمضان زكاة الفطر: فقد شرعه الله طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وشكراً لله على توفيقه، وهي زكاةٌ عن البدن، يجب إخراجها عن الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، ويجب إخراجها على كل مسلم غربت عليه الشمس ليلة العيد وهو يملك ما يزيد عن قوت يومه وليلته، ويجب عليه أن يخرج عن نفسه وعمّن تلزمه نفقته من زوجته ووالديه وأولاده.

 

 ويخرج زكاة الفطر في البلد الذي وافاه تمام الشهر وهو فيه، وتدفع زكاة الفطر إلى من يجوز دفع زكاة المال إليه، كالفقراء والمساكين، فيدفعها إلى المستحق ويتحرى في ذلك.

 

ووقت الإخراج يبدأ بغروب الشمس ليلة العيد، والأفضل ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد، وإن أخرجها قبل العيد بيوم أو يومين جاز، وإن أخرها عن صلاة العيد أثم وأجزأت، وإن فات يوم العيد ولم يخرجها، فإنه يقضيها ولا تسقط عنه، ويجوز للفقير إذا قبض صدقة الفطر أن يخرجها عن نفسه.

 

واحرصوا على صلاة العيد فإنها من تمام ذكر الله، قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى: 14- 15]، قال بعض السلف: أي أدى الزكاة (فصلى) قيل المراد به صلاة العيد. وقد ذهب عدد من العلماء إلى وجوبها.

 

اللهم تقبل منّا..

 

 

 

المرفقات

نودع رمضان؟

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات