اقتباس
وحتى نضع الخطيب في الصورة، فإننا نشير إلى بعض الملامح التي تجعل خطبته على قدر من البلاغة، بمفهومها الواسع، ومن هذه الملامح، أن تكون خطبته هادئة، هادفة، وهادية. لماذا اخترنا هذه الهاءات الثلاثة؟ لأنها مما تحتاجه البشرية قاطبة، فهي بحق...
من خصائص الشريعة الإسلامية أنها شريعة عالمية، جاءت لهداية الناس كافة، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[الأنبياء، الآية:107]، وهذا البعد -العالمية- لصيق بالإسلام التصاقا لا يفارقه البتة؛ لأنه الدين الخاتم، وآخر الرسالات السماوية، ومن هنا كان استحضار هذه الميزة استحضارا دائما أمرا واجبا على من يتصدى للتعريف بالإسلام، ونشره، وتثبيته في الأرض.
إن الإقرار بأن الإسلام دين عالمي، يستوجب أن يكون المسلم واعيا بمعاني العالمية، وعيا أصيلا، حيث يستمد حقيقته من الكتاب والسنّة، وأن يكون فاهما لاختلاف البشر في اللغة واللون والأعراق، وفي الفهم، والإدراك، والذوق، والعادات والتقاليد، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ أن)[الروم:22].
ومن أهم الفئات العلمية المعنية بهذا الموضوع خطباء المساجد، فالخطيب مطالب باستحضار عالمية الإسلام في تكوينه العلمي والثقافي والمعرفي، وملزم باستحضاره في خطابه، فإن كان مطالبا بمراعاة الحي والمدينة التي يخطب فيها، ومعرفة عادات البلد الذي يعيش فيه، وتوظيف ذلك في خطبه، إلا أنه –أيضاً- مأمور شرعا برعاية القيم العالمية للإسلام في خطبه، كما رعتها نصوص الوحي، حيث نجد العديد من الآيات التي تشير إلى هذه القيم، قال تعالى: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[يونس:37] وقال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الواقعة، الآيات من 77 إلى 80]، وقال سبحانه: (الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ)[السجدة، الآية:2].
يذكر سبحانه المسلمين في هذه الآيات بأن القرآن المنزل على محمد –صلى الله عليه وسلم- إنما هو من رب العالمين إلى جميع خلقه، وأن دور المسلم هو إنذار الناس من الضلال والخسران، قال عزّ من قائل: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)[الفرقان:01]، وأشار في موضع آخر إلى أن هذا الدين وهذا الشرع المبين هو كتاب هداية لجميع الأمم، يقول تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)[القلم: 87].
إن رعاية الخطيب في العالم الإسلامي للتنوع الثقافي والعرقي واللغوي للمسلمين فيه تحقيق لأهداف الرسالة الخاتمة، وأهمها: نشر الرحمة والعدالة في العالمين؛ ولهذا وجب التنبيه هنا إلى أن الخطبة عليها أن تغرس في المسلم هذا البعد، حتى يهتم المسلم بكل ما يحدث على هذه الأرض، التي استخلفه الله فيها، قال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)[هود:61]، وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)[الأنعام: 165].
ويتأكد اليوم واجب إعادة البعد العالمي للإسلام؛ بسبب تقارب المسافات، وانهيار الحدود، وسيطرة العولمة على الحياة، وتوجيه أرباب العولمة خطابا موحدا وواحدا للناس، بهدف خلق هوية عالمية واحدة، وهذا ما يعني أن العالمية بالتصور الإسلامي تواجه تحديا خطيرا، في العالم الإسلامي، وخاصة في العالم العربي منه.
ولعل من البلاغة بمكان؛ أن يراعي الخطيب هذا الحال، حتى يكون خطابه موافقا لمقتضى الحال، فالحال اليوم، هو انحسار عالمية الإسلام، حتى بات في مفهوم الملايير من الناس، ديانة قومية، خاصة بالعرب؛ ومما زاد في ترسخ هذا المفهوم عالميا، ملاحظة الناس في مختلف القارات، أن المسلمين هم أقل الناس تفاعلا مع ما يحدث في العالم، وهم أهم شريحة لا تتضامن مع غير المسلمين، مع ملاحظة الناس في الأرض، أن المسلمين يطالبون الجميع بالاهتمام بهم ورعاية قضاياهم.
إذن مادامت خاصية العالمية غائبة، وبعدها في الداخل مشوها ومهمشا، وتطبيقها في الواقع يكاد يكون نادرا ومحدودا، ولم تصل هذه القيمة إلى أن تصبح منظومة مجسدة في الأرض، فإن بلاغة الخطيب تعني مما تعنيه اليوم، أن يكون خطيبا يحمل لواء نشر قيم العالمية التي هي أحد أهم ما يميز الإسلام.
وحتى نضع الخطيب في الصورة، فإننا نشير إلى بعض الملامح التي تجعل خطبته على قدر من البلاغة، بمفهومها الواسع، ومن هذه الملامح، أن تكون خطبته هادئة، هادفة، وهادية. لماذا اخترنا هذه الهاءات الثلاثة؟ لأنها مما تحتاجه البشرية قاطبة، فهي بحق الحد الأدنى الذي يجب أن تحتويه خطبة الجمعة، وهذا ما سيتضح مع استفاضة الحديث عن كل ملمح منها.
خطبة هادئة:
إنّ من أبرز الأحاديث التي يعتمد عليها الخطباء في بناء تصورهم عن الكيفية التي ينبغي أن تلقى بها الخطبة، حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه؛ كأنه منذر جيش، يقول: صبّحكم مسّاكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد: فإن خير الأمور كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكان يقول: من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فعلي وإلي"(الحديث أخرجه مسلم).
غير أن فهم الكثير من الخطباء لهذا الحديث وتطبيقه "إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه"، لم يكن موفقا، حيث جعله بعضهم مستندا لهم لجعل الصراخ الشديد، والصياح المؤذي منهجا خطابيا، وشتّان بين أسلوب النبي –صلى الله عليه وسلم- وبين أسلوب الصراخ والصياح المشاهد في عصرنا، فلم يرد في الحديث أي إشارة إلى تشريع الصراخ والصيّاح، وكان الأجدر بمن لم يفهم حقيقة الحديث، واستشكل عليه التطبيق أن يبحث أو يسأل أهل العلم، ويسترشد بهم، وهذا هو الواجب والمفترض.
لقد تنبّه الإمام النووي –رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث إلى مسألة الصراخ وإساءة الخطاب على المنابر، ونبّه الخطباء والمسلمين إلى أن رفع الصوت شيء كان في الأمر الشديد، والحدث الخطير والحدث الجسيم؛ يقول النووي –رحمه الله- في شرح هذا الحديث في شرحه لصحيح مسلم، في الجزء السادس منه، في الصفحة 222، "يُستدلُّ به على أنَّه يستحبُّ للخطيب أن يُفخِّم أمر الخطبة، ويرفع صوتَه، ويجزل كلامَه، ويكون مطابقًا للفصل الذي يتكلَّم فيه مِن ترغيب أو ترهيب، ولعلَّ اشتدادَ غضبه كان عندَ إنذاره أمرًا عظيمًا، وتحديده خطْبًا جسيمًا"، والنووي محدث وفقيه مشهود له بالفهم والفقه، وفي عبارته الأخيرة تنبيه واضح إلى أن الذي ورد في الحديث ليس على إطلاقه، بل إن رفع الصوت يتناسب مع خطورة الموضوع الذي يعالجه.
إن اتخاذ الأسلوب المناسب في مخاطبة الناس هو عين الفقه، فلو كان الموضوع يحتاج إلى شدة اشتد، وهز المنبر، وهز معه النفوس والقلوب، كما قال شوقي في مدح النبي – صلى الله عليه وسلم-
وَإِذَا خَطَبْتَ فَلِلْمَنَابِرِ هِزَّةٌ *** تَعْرُو النَّدِيَّ وَلِلْقُلُوبِ بُكَاءُ
كأن يكون الموضوع حول نوازل الأمة الإسلاميّة، أو عن حرمة القتل وترويع الآمنين، وجزء الظالمين في الدارين، أو عن حرمة الغيبة والتجسس والنميمة والشماتة بالمسلمين، أو خطورة انهيار القيم والأخلاق في المجتمع، فمثل هذه المواضيع كلها تحتاج حقا إلى خطب مصنوعة صناعة تلامس الخطب النبوية الكريمة التي عالجت مواضيع خطيرة، اشتدّ فيها غضب النبي –صلى الله عليه وسلم- وارتفع فيها صوته.
وإن كان الموضوع المطروق يحتاج إلى هدوء ومحاورة متأنيّة، فلا ينبغي اتخاذ أسلوب الشدة أسلوبا في علاجه، فلو كان موضوع الخطبة هو: الحديث عن عبادة الوضوء، سننه، آدابه، نواقضه، فضله، فلا حاجة للصراخ هنا؛ لان هذا الموضوع يحتاج أسلوبا يوافق أسلوب التعليم، أما لو أراد الحديث عن التساهل في غسل بعض الأعضاء، فهنا يحق له رفع الصوت، بكلام مسبوك ومحبوك؛ لتنبيه المصلين، وهذا ما يحقق الهدف من التنبيه إلى هذه المخالفات، فلو حكاها بطريقة باردة، لم تنتبه الآذان، ولم تستيقظ القلوب.
إن الخطيب الحاذق الذكي من يعرف كيف يضبط أحاسيسه، والخطيب البارع هو الذي يجيد تحريك عواطفه وفق قوانين مرعية، والخطيب اللامع هو ذاك الذي يجيد صناعة الضوابط لانفعالاته أثناء الخطبة .. وقد يكون هذا الأمر شاقا في البدايات، إلا أن من اجتهد وبذل الوسع يوشك أن يملك ملكة الخطابة، وينال الصنعة الخطابية.
إن الخطيب العربي محط أنظار جميع خطباء العالم الإسلامي، خاصة مع انتشار الفيديوهات التي تنقل الخطب التي تلقى باللغة العربية ثم تُلحق بها ترجمات كتابية، وهذا يعني مزيد انتباه ورعاية إلى الأسلوب الذي تلقى به الخطب، فإن كنا نحن العرب قد اعتدنا على رفع الصوت والتلويح باليد في مخاطباتنا اليومية، فإن باقي الشعوب في العالم لا تتميز بهذا، بل أغلبها يحبذ الخطب الهادئة المؤثرة، وهذا الفارق بين الشعوب معروف وملحوظ، وبالمثال يتضح المقال، فشعوب شرق آسيا شعوب روحية عاطفية، تتأثر بسرعة وتنقاد بسرعة، ولا تجادل كثيرا، ومن درس علم اجتماع هذه الشعوب فإنه يعلم ذلك حق العلم، ولفهم سبب انضباطها، سواء أكان الأمر متعلقا باليابان أو ماليزيا، أما نحن العرب فنحن شعوب عقلانية، تحب الجدل والكلام، ولا تنقاد بسهولة، فينفع معنا في أحيان كثيرة أسلوب تحريك العاطفة، ورفع الصوت، والاشتداد في الطرح والعرض والعلاج.
ولعل الخطباء الأكارم يتنبهون لهذا الفارق الهام، حتى يراعوه في خطبهم، ولعل بعض المعاهد التي تهتم بتكوين الخطباء تنتبه إلى هذه التفاصيل الدقيقة فتنبه عليها جمهرة الخطباء الكرام.
إن رسالة الإسلام كما سبق وبيّنا رسالة إلى جميع البشرية؛ ومن هذا المنطلق يستحسن من الخطيب استحضار قيمة الهدوء والحوار الهادئ والمناقشة الرصينة في خطبه فهي خطب للبشرية أجمع، فإن كان العرب قوما يتقبلون إلى حد ما الحالة التي عليها الخطبة في مجال الصوت والعرض، فإن الأمم الأخرى لا تشبهنا في ذلك، ومن طاف دول العالم أدرك هذه الحقيقة.
إن من المعيب بلاغيا عدم ضبط الخطيب لوجدانه وعاطفته وانفعالاته، فكما لا تستسيغ العقول والقلوب أن يبكي الإمام في صلاته وهو يقرأ آيات الميراث مثلا؛ لأن السنة وردت ببكاء النبي عليه الصلاة والسلام- في الآيات التي تتناول أهوال الآخرة، وأهوال القبر والعذاب، فإن العقول اليقظة، والنفوس السويّة، لا تستسيغ أن تحضر خطبة تتحدث عن بعض البيوع الجائزة، فيقوم الإمام بإلقائها وهو يصرخ ويصيح، فلو تناول بيع المرابحة تناوله بهدوء وشرح متزن، فالصراخ لا يناسب المواضيع التعليمية.
إن من العيوب التي صار المتلقي يشتكي منها، تلك الانفعالات غير الواضحة، والتي تطرأ على الخطيب فجأة، وهي كثيرة، وسنخصص لها مقالا خاصا، نبيّن فيه خطورتها على تحقق سمة البلاغة في خطب الجمعة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم