بلاط الشهداء: هزيمة غيرت وجه التاريخ

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: وقائع تاريخية

اقتباس

الخيانة كانت ومازالت وستظل أكبر معول لهدم الأمة، الخيانة تستنزف الجهد، وتهدم الإنجازات، وتجهض الطموحات. الخيانة أضاعت كل مكتسبات الأمة وفرصها..

لك أن تتخيل هذا المشهد الأسطوري للبطل المجاهد؛ عقبة بن نافع-رحمه الله-وهو يقتحم بفرسه مياه المحيط الأطلسي بعد أن وصل برايات الفتح الإسلامية لمنتهى الحدود الغربية للمعمورة، تخيل مشهده ممتطياً صهوة جواده الأشقر الشهير، شاهراً سيفه الصقيل في وجه البحر مخاطباً من حوله من جنده ورجاله، وملخصاً بكل براعة رسالة الجهاد الإسلامي وغايات الفتح بقوله: " لو أعلم أن وراء هذا البحر أرضاً يُعبد فيها غير الله، لجاوزت البحر حتى لا يُعبد في الأرض سوى الله".

 

فغايات الفتح الإسلامي لم تكن يوماً أرضية ولا دنيوية، ومهما اجتهد خصوم الأمة في تشويه مقاصدها وتزييف حقيقتها، تظل غايات الفتح والجهاد في سبيل الله واحدة؛ إعلاء كلمة الله، وتبليغ رسالة التوحيد في كل مكان تبلغه الشمس، ويتعاقب عليه الليل والنهار، فالإسلام لا يقف في طريقه أي موانع بشرية أو طبيعية، ولا يعترف بسقف لطموحات دعوته، ولا منتهى لغايات رسالته، فهذا الدين كتب الله-تعالى-الظفر والانتصار والتمكين ودخول كل بيت من وبر ومدر، بعز عزيز أو بذل ذليل، رسالته عالمية للناس كافة، وواجب البلاغ هي أمانة الأمة المنوطة بها وسبب خيريتها وإرث نبيها، ومن أجل ذلك ظلت رايات الفتح ممتدة وتتوسع ما دام في المسلمين قوة، وتحت مظلة الخلافة الجامعة، أو القيادة الصالحة المجاهدة.

 

المسلمون وحلم فتح القسطنطينية

عندما انطلق الإسلام موسعاً نطاق دعوته ورسالته والأراضي الإسلامية التابعة له في عصر الخليفة الثاني عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-، كان العالم مقسماً بين إمبراطوريتين ضخمتين تنازعتا السيطرة على العالم طيلة قرون طويلة: الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية، فقضى المسلمون على الفرس في عهد عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-، ودخل الإسلام في المناطق التي كانت خاضعة لهم، كما قضى المسلمون على الروم في مناطق الشام ومصر، لكنّهم لم يقضوا على الإمبراطورية البيزنطية كما حدث مع الفرس، وظل حلم القضاء على الروم يداعب مخيلة الخلفاء المسلمين عبر التاريخ، وكان فتح القسطنطينية هو تاج طموحات كل أبطال وأمراء وخلفاء الإسلام.

 

وقد بدأت محاولات الفتح مبكراً في عهد معاوية بن أبي سفيان-رضي الله عنهما-ثم توالت في عهد خلفاء الدولة الأموية، وفي عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك فُتحت ثلاثة أقطار كبرى. فقد فتحت الأندلس تحت قيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد، وفي نفس العام قاد محمد بن القاسم الثقفي الفتوحات في بلاد السند، وأصبح أول من غزا الهند من المسلمين، وفتح قتيبة بن مسلم خراسان وبلاد الترك ووصل إلى حدود الصين، والعجيب أن هذه الفتوحات الكبرى حدثت في مدى زمني متقارب-من سنة 92ه حتى سنة 96ه-مما أغرى الأمويون لمعاودة حصار القسطنطينية بغية فتحها والوصول لذروة سنام الشرف بالجمع بين كل هذه الأمجاد. ولكن كل محاولات فتح القسطنطينية باءت بالفشل بسبب سلوك الطريق البحري لمهاجمة القسطنطينية، ولم تكن خبرة المسلمين بالبحر فنونه كنظيرتها في مجال البر والقتال عبر الأراضي المفتوحة.

 

وهنا تفتق ذهن القائد الكبير وفاتح الأندلس موسى بن نصير عن فكرة طموحة للغاية من أجل فتح القسطنطينية، وهي فتحها من جهة الغرب من ناحية الأندلس بعبور جبال البرانس أو ألبرت الوعرة الشاهقة والتي تمثل الحد الطبيعي بين بلاد الأندلس أو إسبانيا وبلاد الغال أو الأرض الكبيرة كما أطلق عليها العرب أو فرنسا. من هناك تنطلق الكتائب الإسلامية ورايات الفتح مخترقة أوروبا الغربية، متوغلة في شعوبها حتى يتم فتح القسطنطينية عن طريق البر، بعد أن فشلت كل محاولات الفتح عن طريق البحر.

 

فائدة: " المسلمون الأوائل وخير القرون لم يعرفوا في قاموسهم جهادهم معنى كلمة "اليأس"، فهم دائما متوكلون على الله، موقنون بعدالة قصيتهم وسمو رسالتهم وعالمية دعوتهم، لذلك كانت فتوحاتهم وانتصاراتهم فوق الخيال، وأبعد من المستحيل، طموحاتهم لامست عنان السماء، وكل ذلك للإعلاء كلمة الله، وخلافة رسولهم-صلى الله عليه وسلم-بين الناس"

 

المسلمون من الأندلس إلى فرنسا

عندما أكمل المسلمون فتح الأندلس سنة 100هجرية وقضوا على فلول المقاومة القوطية، وانحاز من بقي منهم عند آخر صخرة في الشمال الغربي لشبه الجزيرة الأيبرية، تطلعت أشواق الجهاد لما بعد هذا السد الطبيعي المنيع الممثل للحد الفاصل بين الأندلس وبلاد الغال أو فرنسا، ونعني به جبال البرانس أو ألبرت، وهي جبال وعرة كثيرة الدروب والمضايق شديدة الانحدار تمتد لأكثر من 450 كيلو متر، وبالفعل بدأ التحضير لوثبة إسلامية أكبر من وثبة الأندلس.

 

كان من حسنات أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز-رحمه الله-استعمال ذوي الكفاءة والصلاح والديانة والأمانة في أعماله وولاياته، ومن ضمن هؤلاء كان واليه على الأندلس؛ السمح بن مالك الخولاني، والذي تولى الولاية سنة 100ه فاستكمل الجهود الإدارية والتنظيمية التي بدأها أسلافه، كتمييز أراضي الفتح من أراضي الصلح، وتخميس أراضي الفتح وتقسيمها، وتشييد قنطرة الوادي الكبير، وترميم أسوار قرطبة الغربية، بعد أن أصبحت عاصمة الأندلس، وما إن استقرت الأوضاع الداخلية للأندلس وهدأت قليلاً نائرة الفتن العصبية التي ثارت بين العرب والبربر في أيام الوالي السابق؛ الحر بن قيس الثقفي، حتى أخذ في الترتيب للمشروع والحلم الكبير في فتح بلاد الغال وتحويل فرنسا من الوثنية إلى الإسلام كخطوة أولى نحو مشروع فتح القسطنطينية براً من ناحية الغرب الأوروبي.

 

ويعتبر غالب المؤرخين المعاصرين من المسلمين والأوروبيين، أن السمح بن مالك، هو رائد الفتوحات الإسلامية، وراء جبال البرانس، في المقاطعات الفرنسية الجنوبية، وهو القائد الذي أنشب أول صدام عسكري حقيقي قوي، بين المسلمين والفرنجة في بسائط جنوب فرنسا، ودشن طورا أخر من الصراع بين الإسلام والنصرانية، والذي امتد لفترة من الوقت تجاوزت الأربعين عاما.

 

خلال الفترة من سنة 100 ه حتى سنة 102 ه وهي السنة التي استشهد فيها البطل السمح بن مالك في حروبه ضد الفرنجة في جنوب فرنسا، خلال تلك الفترة الوجيزة استطاع فتح معظم الجنوب الفرنسي وأقام قاعدة إسلامية ثابتة في أربونة والتي ستكون لفترة طويلة من الوقت منتهى بريد العالم الإسلامي ناحية الغرب. وقد اتخذ السمح بن مالك من أربونة قاعدة للجهاد وراء جبال البرانس، وتوغل في إقليم أكيتانية، غير أنه استُشهد في موقعة بالقرب من طولوشة أو تولوز انهزم فيها المسلمون، وقتل منهم عدد كبير، وذلك في يوم عرفة سنة 102هـ، فتولى القيادة أحد قواده وهو عبد الرحمن الغافقي، وأقروه واليًا للأندلس حتى يأتي الوالي الجديد، وكانت هذه هي ولايته الأولى ولم يدم فيها أكثر من شهر.

 

لم يفت استشهاد السمح بن مالك في عزائم وطموحات المسلمين، فقد تولى بعده بطل آخر لا يقل عنه كفاءة وصلاحاً وشجاعة، وهو عنبسة سحيم الكلبي سنة 103هـ، فقضى أربع سنوات من ولايته في تنظيم أمور الدولة وإصلاح الجيش وإعداده لمواصلة غزو بلاد الفرنجة، وقد عبر عنبسة بن سحيم بجيوشه جبال البرانس، وتابع حركة الفتوح لإقليم سبتمانيا بمدنه السبع، وافتتح إقليم بروفانس، واتجه شرقًا حتى بلغ نهر الرون ثم صعد مع النهر شمالا حتى بلغ مدينة ليون، ثم واصل توغله حتى أصبح على بعد سبعين كيلومترا من جنوبي باريس الحالية، وهي أبعد نقطة وصل إليها المسلمون بجيوشهم النظامية شمالاً، وتبعد نحو ثمانمائة كيلومتر شمال جبال البرانس، وهي مسافة بعيدة جداً عن القواعد الإسلامية مما أوقعه في كمين في طريق عودته عندما تصدت له جموع كبيرة من الفرنجة، فاستشهد في إحدى المعارك سنة 107هـ.

 

فائدة: " يا له من دين لو أن له رجال!! نعم رجال من هذا الطراز العالمي الفريد الذين جمعوا بين العلم والعمل، والقيادة والعبادة، والإخلاص والرئاسة، والتضحية والبذل والعطاء، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من استشهد تحت أسوار القسنطينية، ومنهم من قضى نحبه في أقصى بلاد الصين، ومنهم فتح الأقطار الكبرى وهو دون العشرين، طراز من الرجال الأمة اليوم في أمس الحاجة لعودته من أجل تصحيح المسار وتحقيق الانتصار"

 

انتفاضة الأوروبيين

فرنسا في تلك الأثناء في أواسط القرن السابع الميلادي وأوروبا كلها كانت غارقة في الجهل والخرافة، ومنقسمة فيما بينها إلى ولايات وإمارات ومقاطعات متنافرة ومتحاربة، وكانت فرنسا على وجه الخصوص تحت حكم الأسرة الميروفنجية ويشتهر ملوك هذه الأسرة باسم الملوك الكسالى، بسبب كسلهم وخمولهم وميلهم للدعة والترف، وأصبح رؤساء البلاط أو مدبرو القصر الملكي هم الذين يمسكون بزمام السلطة. وغالباً ما كان هؤلاء، ينتمون إلى أسرة معينة هي أسرة أرنول ويورثون مناصبهم، وعندما اكتسح المد الإسلامي جنوب فرنسا كان رئيس القصر هو شارل مارتل الذي ستخبأ له الأقدار مجداً لم يتحقق لأمير صليبي من قبل!!

 

شارل مارتل كان صاحب تجربة وخبرة وعركته السنون، وخاض من أجل الفوز بمنصبه معارك مريرة مع أشقائه ومنافسيه ومنهم أمراء الجنوب الفرنسي، وكان الكونت أودو من ألد أعدائه لذلك لم يتحرك لإنجاده عندما اكتسح المسلمون مقاطعات الجنوب الفرنسي الثلاثة، ولكن مع تطور الهجوم الإسلامي وتوسعه إلى جهة الغرب والمنتصف، قرر شارل مارتل التصالح مع خصومه، وعلى رأسهم الكونت أودو، ووضع يده في يد القبائل الوثنية الجرمانية والتي كانت من ألد أعدائه من أجل مواجهة المدّ الإسلامي العاصف والقادم بمنتهى القوة ناحية العاصمة باريس حتى صار على بعد سبعين ميلاً فقط منها!!

 

فائدة: "سيظل أعداء الأمة يعطونها درساً تلو الآخر في الالتحام وقت الأزمات، والتراص وقت الخطر، سيظل أعداء الأمة يطبقون تعاليم الإسلام الآمرة بنبذ الخلاف وحتمية الاتحاد كلبنة أولى نحو الانتصار والتمكين والمواجهة، فيا ليت المسلمون الذي أنهكتهم الصراعات الداخلية والخلافات الجانبية يعون هذا الدرس".

 

الأسد الجديد يتحرك

بعد استشهاد عنبسة بن سحيم سنة 107ه تولى بعده البطل الكبير عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، وكان بجانب خبرته الإدارية والتنظيمية الكبيرة خاصة بأرض الأندلس، كان ورعاً تقياً صالحاً من أهل القرآن والعبادة والتهجد، متحرياً الشرع في أموره كلها، معدود في طبقة التابعين، فعمل أول ولايته على إصلاح الفتوق التي حدثت في بلاد الأندلس.

 

بدأ عبد الرحمن ولايته الثانية بالمصالحة بين العرب المضرية واليمانية وجمع كلمتهم، بعد أن التهبت الأمور ودبت روح النزاعات القبلية بينهما، نتيجة تحيّز بعض الولاة المتعصبين للمضريين على حساب اليمانيين، ثم أخمد تمرد البربر في الولايات الشمالية بقيادة ابن أبي نسعة الذي حالف أودو دوق أقطانيا وتزوج ابنته بعد أن سحرته بجمالها وخلبت لبه فخان دينه وأمته، بأن أرسل حملة بقيادة ابن زيان نجحت في سحق التمرد، وقتل الخائن وسبى امرأته، وإرسالها إلى بلاط الخليفة هشام بن عبد الملك في دمشق. كما ثبّت وضع المسلمين في القواعد التي فتحها المسلمون في سبتمانيا بجنوب فرنسا، وجعلها قاعدة عسكرية قوية متقدمة داخل فرنسا.

 

فائدة: "الخيانة كانت ومازالت وستظل أكبر معول لهدم الأمة، الخيانة تستنزف الجهد، وتهدم الإنجازات، وتجهض الطموحات. الخيانة أضاعت كل مكتسبات الأمة وفرصها السانحة، الخيانة أضاعت فلسطين وكشمير كما أضاعت الأندلس والهند من قبل، بل لا نكون مجازفين إذا قلنا أن قنابل الأعماق التي تفجرها الخيانة هي السبب الأول والرئيس لهزائم الأمة وانكساراتها".

 

جمع بعد ذلك القائد عبد الرحمن جيشًا يعد من أكبر الجيوش التي جمعت في تلك الفترة، وعبر به البرانس، وزحف على مدينة آرال على نهر الرون بغرب فرنسا لامتناعها عن أداء الجزية، ثم هزم جيش الدوق أودو دوق أقطانيا في معركة على ضفاف النهر، ثم عبر نهر الجارون واجتاح أقطانيا، واستولى على عاصمتها بودور بعد حصار قصير، ومنها اتجه إلى برجونية، واستولى على ليون وبيزانسون، ثم وصل إلى تور، وهي المدينة التي تسبق باريس والمسافة الفاصلة بينهما حوالي 295كم، والمسافة بينها وبين قرطبة عاصمة الأندلس حوالي ألف كيلو متر؛ أي أنه توغَّل كثيرًا جدًّا في بلاد فرنسا في اتجاه الشمال، وهي أبعد نقطة وصل إليها الجيوش النظامية المسلمة عبر التاريخ.

 

وعلى بعد بحوالي 25 كم إلى الشمال الشرقي لمدينة بواتييه عسّكر عبد الرحمن الغافقي في منطقة تُسَمَّى البلاط، عند قصر قديم مهجور كان بها، ثم بدأ في تنظيم جيشه لملاقاة جيش النصارى الذي احشدوا كما ذكرنا تحت إمرة شارل مارتل من أجل معركة فاصلة وحاسمة على أبواب باريس.

 

بوادر الهزيمة تلوح

على الرغم من ضخامة الجيش الإسلامي وقتها-خمسين ألف مقاتل-إلا إن جيش الصليبيين وحلفائهم من القبائل الوثنية كان يقدر بأربعمائة ألف مقاتل، ولكن هذا التفاوت اعتاد عليه المسلمون ولا يهابونه لعلمهم أنهم لا ينتصرون إلا لنقاء رسالتهم وسمو غايتهم وتوكلهم على ربهم-عز وجل-.

 

ولكن حدثت مشكلة كبيرة كانت السبب الرئيسي في ضياع فرصة من أعظم الفرص لتغيير مسار التاريخ الإنساني عامة والأوروبي خاصة. فقد غنم المسلمون كميات مهولة من الأموال والمتاع والغنائم في رحلة الفتح، فامتلأت أيديهم بالأموال، وعندها تحرك شيطان الفتنة كالأفعى الملساء ينساب داخل الصدور والنفوس يوسوس لها التصارع على هذه الغنائم واقتناصها من الآخرين.

 

فقد أدت ضخامة الغنائم لاشتعال الفتنة العصبية مرة أخرى بين العرب والبربر؛ عنصري الجيش الإسلامي، فقد اختلفوا في توزيعها وأخذ كل فريق ينظر إلى ما بيد الآخر، ونسي الجميع أن دينهم واحد ورسالتهم واحدة وغايتهم واحدة، وأن الفاتحين الأوائل ما فرَّقوا قطُّ بين عرب وبربر. فعمل القائد عبد الرحمن على وأد الفتنة ومصالحة الفريقين، ولكن ما في الصدور بقي فيها، خاصة وأن بعض قبائل البربر كانت غاضبة بسبب شدة عبد الرحمن الغافقي على ابن أبي نسعة الذي وإلى الصليبيين كما أسلفنا.

 

فائدة: هذه ترجمة حية لتحذير رسولنا الكريم-صلى الله عليه وسلم-: " فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم".

 

وفي هذا التحذير النبوي إنذار بما سيقع، وقد وقع ما أخبر صلى الله عليه وسلم؛ إذ فتحت الدنيا بعده وبسطت، وحصل التحاسد والتقاتل وما هو معروف مما يشهد بمصداق خبره صلى الله عليه وسلم.

 

معركة بلاط الشهداء

جمع شارل مارتل جيشًا من المرتزقة ومقاتلين من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وانحدر باتجاه المسلمين، وكان عبد الرحمن قد وصل إلى تور بمن تبقّى من جيشه، بعد معاركه السبقة وترك الحاميات التي خلفها ورائه في المدن المفتوحة، فأصبح جيشه أقل مما كان من قبل.

 

استدرج شارل مارتل جيش المسلمين المتحصن في تور إلى سهل يقع غرب رافد نهر اللوار، بأن أرسل شارل مجموعات صغيرة من طلائع جيشه إلى الضفة الشرقية للنهر، وعندما علم بأمرها عبد الرحمن، أرسل مجموعات للاستطلاع، عادت لتخبره بقلة عددهم وسهولة القضاء عليها، فخرج عبد الرحمن من المدينة لمواجهتها، وعبر بقواته إلى الضفة الشرقية، فتحرك شارل بقواته باتجاه جيش المسلمين. وعندما فوجئ عبد الرحمن بأعداد أكثر مما قدرتها فرق استطلاعه ارتد بقواته إلى سهل بين مدينتي تور وبواتييه. فتقدم شارل بقواته ونزل في مواجهة جيش المسلمين استعداداً للمعركة، وتحرك المسلمون نحو الجنوب باتجاه بواتييه، بينما تجمع جيش شارل جهة الشمال باتجاه تور.

 

وفي يوم 2 رمضان سنة 114ه الموافق 10 أكتوبر سنة 732 ميلادية كانت البشرية على موعد مع يوم حاسم من أيام البشرية غيّر مسارها للأبد. فقد اصطدمت الجيوش الصليبية مع الجيوش الإسلامية عند سهل تور. واستمرت المناوشات لمدة تسعة أيام دون انتصار حاسم لأي من الفريقين، وفي اليوم العاشر حمل المسلمون حملة صادقة على قلب الجيش الصليبي فانصدع لها، وفرت أعداد كبيرة من المرتزقة الأوروبيين من أرض المعركة، وتهيأ المسلمون لنصر عالمي يفتح بوابة أوروبا الغربية نحو القسطنطينية، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان.

 

فقد أمر الداهية شارل مرتل فرقة من خاصة فرسانه بالالتفاف حول الجيش الإسلامي ومهاجمته من الخلف حيث يوجد معسكر الغنائم، فسرت الأخبار بأن معسكر الغنائم قد نُهب، فارتدت مقدمة الجيش الإسلامي لإنقاذ الغنائم، فحدث هرج ومرج شديد، وظن قلب الجيش الإسلامي أن الهزيمة قد وقعت على المقدمة، فاضطربت الصفوف وتلاحم المسلمون فيما بينهم من حيث لا يدرون.

 

هنا قرر القائد عبد الرحمن الغافقي أن يخرج بنفسه في خاصة جنده لتنظيم الصفوف والتصدي لهجمة الفرنجة، فظن يقاتل مثل الأسد الهصور وببسالة لم تُر لقائد مسلم من قبل، وفي معمعة القتال أصيب البطل عبد الرحمن الغافقي بسهم قاتل أرداه من على صهوة جواده رحمه الله.

 

في الليل، اجتمع قادة الجيش ورأوا أن ينسحبوا ليلاً بعد أن فقدوا قائدهم عبد الرحمن الغافقي. وفي اليوم التالي، عندما وجد الفرنجة أن القتال لم يتجدد تخوفوا من أن يكون ذلك كمينًا، إلى أن استطلعت قواتهم مخيمات المسلمين التي تركوها وراءهم ووجدوها فارغة. فآثروا الرجوع قانعين بما حققوه من ظفر، والذي لو لم يكن فيه سوى استشهاد البطل الكبير عبد الرحمن لكفاهم شرفاً ومجداً.

 

المعركة في عيون الأوروبيين والمسلمين

احتفى المؤرخون الأوروبيون بالمعركة أيم احتفال واعتبره أهم انتصار في تاريخ المسيحية، وهذه عينة من آرائهم حول المعركة:

 

قال المؤرخ البريطاني إدوارد جيبون: "خط انتصار المسلمين طوله ألف ميل من جبل طارق حتى نهر اللوار كان غير مستبعد أن يكرر في مناطق أخرى في قلب القارة الأوروبية حتى يصل المسلمون إلى حدود بولندا ومرتفعات اسكتلندا، فالراين ليس بأصعب مرورا من النيل والفرات، وإن حصل ما قد ذكرت كنا اليوم سنرى الأساطيل الإسلامية تبحر في مصب التايمز بدون معارك بحرية ولكان القرآن يدرس اليوم في أوكسفورد ولكان علماء الجامعة اليوم يشرحون للطلاب باستفاضة عن الوحي النازل على محمد".

 

وقال المؤرخ البلجيكي كورث: "يجب أن تظل هذه المعركة واحدة من أهم الأحداث الكبرى في تاريخ العالم، لأنها حددت ما إذا كانت الحضارة المسيحية ستستمر أم سيسود الإسلام جميع أنحاء أوروبا".

 

قال المؤرخ العسكري الألماني هانس ديلبروك عن هذه المعركة: "لم يكن هناك معركة أكثر أهمية منها في تاريخ العالم".

 

قال المؤرخ الإيطالي هنري هالام: " أنه لو لم يحتوِ شارل مارتل هجوم المسلمين، لما كان هناك شارلمان ولا الإمبراطورية الرومانية المقدسة أو حتى الدولة البابوية"

 

وقال المؤرخ الأمريكي ويليام واتسون: "أنها أوقفت جيوش المسلمين، وأبقت الحضارة الغربية بجذور المسيحية والتي ستكون سببًا في ازدهار الحضارة الغربية وتطورها".

 

أما المسلمون فقد كانت المعركة بالنسبة لهم جولة من جولات الصراع بين الحق والباطل، وهزيمة وقعت بسبب التنافس على الدنيا، ودرس كدرس يوم أحد في عاقبة مخالفة الأوامر والرغبة في الحفاظ على المكتسبات الدنيوية. وخير دليل على أن المسلمين قد نظروا إلى هذه المعركة من هذا المنطلق أن الهزيمة لم توقف وتيرة الجهاد في جنوب فرنسا، فلم تتوقف غزوات المسلمين في بلاد الغال رغم الهزيمة في المعركة، بل استمرت بعدها مباشرة، فأرسل الوالي الجديد عبد الملك بن قطن الفهري حملة يقودها يوسف بن عبد الرحمن الفهري غزت بلاد الغال واجتاحت آرال، ثم مدينة سانت ريمي وأفينيون، ثم تابع الوالي عقبة بن الحجاج السلولي تلك الغزوات فسيطر على بورغونية، حتى بلغت حملته بيدمونت بشمال إيطاليا. ولم تتوقف عجلة الفتح الإسلامي عن الدوران إلا بعد اشتعال الفتن العصبية تارة أخرى بين العرب فيما بينهم، وبينهم وبين البربر من جهة أخرى.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات