بر الوالدين في حياتهما وبعد مماتهما

عبد الله بن عواد الجهني

2021-10-29 - 1443/03/23 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/حقان واجبان على المسلم: حق الله وحق الوالدين 2/بعض آداب وأحكام حق الوالدين 3/خيرات وفضائل البر وشؤم العقوق 4/بر الوالدين بعد وفاتهما أحدهما أو كليهما

اقتباس

يقول العلماء: كلُّ معصية تُؤخَّر عقوبتُها -بمشيئة الله- إلى يوم القيامة إلا العقوقَ؛ فإنه يُعَجَّل له في الدنيا، وكما تدين تُدان، فاتقوا الله -أيها المسلمون- في والديكم، وقوموا بحقوقهما، وقَدِّموا رضاهما على كل شيء على أنفسكم وأبنائكم وزوجاتكم تُفلِحوا وتَسعَدُوا...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاته، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعدُ: فاتقوا الله -أيها المسلمون-؛ فإن تقواه أفضل مكتسَب، وطاعته أعلى نَسَب، وإياكم والاغترارَ بزهرة الدنيا، فقد اغتر بها قوم غيركم، فأوردتهم مواردَ العطب والرَّدَى، واعملوا ليوم (تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281]، واعلموا أن الله قضى قضاءً لا يُدفَع ولا يُرَدّ، أن من أحب شيئًا سِوَاه عُذِّبَ به ولا بدَّ، وأن مَنْ خاف غيرَه سُلِّطَ عليه، وأن مَنِ اشتغَل بشيء غيرِه كان شؤمًا عليه، ومَنْ آثَر غيرَه عليه لم يُبارَك له فيه، ومَنْ أَرْضَى غيرَه بسخطه أسخَطَه عليه ولا بد.

 

أُمةَّ الإسلامِ: إنَّ مما يجب على الإنسان في هذه الحياة الدنيا من الحقوق، حقينِ عظيمينِ أساسيينِ، لا ينفكَّان عنه طولَ حياته وحتى بعد مماته، وهما من باب مقابَلة الإحسان بالإحسان، والمعروف بالمعروف، فالحقُّ الأولُ هو حقُّ خالقه ورازقه ومولاه -تبارك وتعالى-؛ فقد أوجَدَه من العدم، وخلَقَه فأحسَن خلقَه، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه؛ فوجَب على العبد حينئذ توحيدُ الخالق بالعبادة دونَما سواه، والإيمان به وبرسله عليهم الصلاة والسلام.

 

والحق الثاني حق الوالدين، فغيرُ خافٍ على العاقل -بعد لزوم حق المنعم عليه- لزومُ حقِّ الوالدينِ عليه، قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[النِّسَاءِ: 36]، فقد أمَر -سبحانه- بالإحسان إلى الوالدين، وهو البِرُّ، وقد رجَّحت السنة المطهرة تقديم كِفَّة الأمِّ في البر؛ ففي الحديث الصحيح: "‌مَنْ ‌أَحَقُّ ‌النَّاسِ ‌بِحُسْنِ ‌صَحَابَتِي؟ قَالَ: "أُمُّكَ" قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمَّ أُمُّكَ" قَالَ: " ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمَّ أُمُّكَ" قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمَّ أَبُوكَ"(رواه البخاري ومسلم)؛ فقد حملتِ الأمُّ بحمله أثقالًا كثيرةً، ولَقِيَتْ وقتَ وضعه مزعجاتٍ مثيرةً، وبالغَتْ في تربيته، وسهرت في رعايته، وأعرضَتْ عن جميع شهواتها لمداراته، وقدَّمَتْه على نفسها في كل حال، تَفرَح لفرحه، وتتألَّم لألمه وحزنه، وإذا مَرِضَ مرضَتْ معه، وإذا صار في دُور العلم فكأنَّها هي التي تتعلَّم، وإذا اختبَر فكأنَّها هي التي تَختَبِر، وهكذا حتى يتم شئونه، كل هذا يقع للأم؛ لذلك هي المقدَّمة في حُسن المعاشَرة، وفي حُسن الصحبة والمخالَطة، فللأم ثلاثة أضعاف ما للأب، عَنْ أُمّ المؤمنين عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: "كَانَ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَبَرَّ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأُمِّهِمَا: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَحَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَأَمَّا عُثْمَانُ، فَإِنَّهُ قَالَ: مَا قَدَرْتُ أَنْ أَتَأَمَّلَ أُمِّي مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَأَمَّا حَارِثَةُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَفْلِي رَأْسَ أُمِّهِ، وَيُطْعِمُهَا بِيَدِهِ، وَلَمْ يَسْتَفْهِمْهَا كَلَامًا قَطُّ تَأْمُرُ بِهِ حَتَّى يَسْأَلَ مَنْ عِنْدَهَا بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ: مَاذَا قَالَتْ أُمِّي؟"، وكان ابن سيرين -رحمه الله- إذا كلَّم أمَّه مَنْ لا يعرفه يظنُّ أنه مريض، وكأنه ضارعٌ يتضرَّع بصوت منخفض جدًّا، وبغاية التذلل والخضوع.

 

وقد ضَمَّ الوالدَ إلى البر والإحسان إلى تسبُّبِه في إيجاد الولد، ومحبته بعد وجوده وشفقته وتربيته، والكسب له والإنفاق عليه، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ"(رواه ابن حبان في صحيحه)، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "الوالدُ أوسطُ أبوابِ الجنة، فاحفَظْ ذلك البابَ أو دَعْهُ"(أخرجه الترمذي وابن ماجه، وأحمد، واللفظ له).

 

والعاقل يعرف حقَّ المحسن ويجتهد في مكافأته، وجهلُ الإنسانِ بحقِّ المنعِمِ مِنْ أخسِّ صفاتِه، ولا سيما إذا أضاف إلى جحد الحق المقابَلة بسوء الأدب، دلَّ ذلك على خُبث الطبع، ولؤم الوضع، وسوء المنقلب.

 

عباد الله: إن البِرَّ طاعة للرحمن، وخير وبركة للإنسان، وسبب لاستجابة الدعاء، ولسعة الرزق وطول العمر، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "مَنْ أحبَّ أن يُبسطَ له في رزقه، ويُنسَأَ له في أجَلِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"(رواه البخاري ومسلم).

 

وإن البِرَّ بالوالدين مِنْ شِيَم الكرام، ودليلٌ على الفضل والكمال، والبارُّ قريبٌ من الله، قريبٌ من الناس، قريبٌ من الجنة.

 

وليعلم البارُّ بوالديه أنه مهمَا بالَغ في برهما لم يفِ بشكرهما، قال رجلٌ للصحابي الجليل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "حملتُ أُمِّي على رقبتي مِنْ خُرَاسَانَ حتى قضيتُ بها المناسكَ، أتُراني جزيتُها؟ قال: لا، ولا بِطَلْقَةٍ مِنْ طلقاتها".

 

ولْيَحْذَرِ المسلمُ من عقوق الوالدين، قال صلى الله عليه وسلم: "‌رَغِمَ ‌أَنْفُ ‌امْرِئٍ ‌أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا، فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ".

 

فعقوق الوالدين من صفات اللئام، ودليل الخسة والرذالة، والعاقُّ بوالديه بعيدٌ من الله، وبعيدٌ من الناس، بعيدٌ من الجنة، قريبٌ من النار.

 

يقول العلماء: كل معصية تُؤخَّر عقوبتُها -بمشيئة الله- إلى يوم القيامة إلا العقوقَ؛ فإنه يُعَجَّل له في الدنيا، وكما تدين تُدان، فاتقوا الله -أيها المسلمون- في والديكم، وقوموا بحقوقهما، وقَدِّموا رضاهما على كل شيء على أنفسكم وأبنائكم وزوجاتكم تُفلِحوا وتَسعَدُوا، ورحم الله والدًا أعان ولدَه على بِرِّه، قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الْإِسْرَاءِ: 23-24].

 

قولوها وامتثِلوا لأمر ربكم: (رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الْإِسْرَاءِ: 24]، فاسألوا الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياكم البِرَّ بآبائنا وأمهاتنا، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، إنه سميع مجيب.

 

بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، قلتُ ما سمعتُم، شاكرًا لله ممتنًّا لفضله، ومستغفِرًا إياه لي ولكم، وللمؤمنين والمؤمنات من كل ذنب فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى الله وسلم على الهادي الأمين، نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه، أهل الفضل والكرامات، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، واعلموا -رحمكم الله- أن الله سهَّل لنا طرق الخير ويسَّرها، فمَنْ مات والدَاه أو أحدُهما فقد بقي من بِرِّ والديه الخيرُ الكثيرُ؛ من الدعاء لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحمَ لكَ إلا مِنْ قِبَلِهما، وكذلك إذا عَلِمَ أن على الوالدين أو أحدِهما دَينًا، من صيام قضاه الولدُ عنه، ويحجُّ عنهما إذا لم يقومَا بفريضة الحج، وبذلك تبرَأُ ذمتُهما أمامَ الله -تبارك وتعالى- بعد موتهما، وزِيدَ في حسناتهما، ولا ينقص من أجره شيء.

 

عباد الله: إن الله -تبارك وتعالى- أمرَنا بالصلاة والسلام على رسوله فقال قولًا كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلْيُصَلِّ عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا".

 

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارضَ الله عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين، الذين قَضَوْا بالحق وبه كانوا يعدلون؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية الصحابة أجمعينَ، وأهل بيته الطاهرين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارضَ عنا معهم بمنكَ وإحسانك يا أرحم الراحمينَ.

 

اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشركَ والمشركينَ، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاةَ أمورنا، وأيِّدْ بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقْه لهُداكَ، واجعل عملَه في رضاكَ، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لما تحب وترضى، وخُذْ بناصيتهما للبر والتقوى، اللهم وفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين، للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

اللهم أنتَ اللهُ لا إلهَ إلا أنتَ، أنتَ الغنيُّ ونحن الفقراء إليكَ، أنزِلْ علينا الغيثَ ولا تجعَلْنا من القانطينَ، اللهم اسقِنا وأغِثْنا، اللهم إنا نستغفركَ إنَّكَ كنتَ غفَّارًا، فأرسِلِ السماءَ علينا مدرارًا.

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على نعمه يَزِدْكُمْ، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعونَ.

المرفقات

بر الوالدين في حياتهما وبعد مماتهما.doc

بر الوالدين في حياتهما وبعد مماتهما.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
03-11-2021

جزاكم الله خير وجعله ربي في موازين حسناتكم اثابكم الله على هذا العمل