عناصر الخطبة
1/من قصص حب الشهرة بفعل الباطل 2/وسائل الإعلام ودورها في انتشار مرض حب الشهرة 3/تحذير السلف من حب الشهرة 4/أبطال يعملون في الخفاء دون شهرةاقتباس
أليسَ إبليسُ وفِرعونُ وقارونُ وأبو لهبٍ قد أطبقتْ شهرتُهم الآفاقَ وبلغتْ السُّحبَ؟ كيفَ لا، وهم قد ذكروا في أفضلِ كِتابٍ، وتُتلى الآياتُ بذكرِهم على المنابرِ وفي المِحرابِ، ولكنَّها شُهرةُ الكُفرِ والظُّلمِ والشُّرورِ؛ فتلعنُهم الأجيالُ على مرِّ العُصورِ، وهكذا سيبقى أُناسٌ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ خَلقَ كلَّ شيءٍ فقدَّرَه تَقديراً، وأَجرى الأمورَ على ما يشاءُ -سُبحانَه- حِكمةً مِنهُ وتَدبيراً، أَحمدُه -تَعالى- وأَشكرُه لم يَزلْ بعبادِه لَطيفاً خَبيراً، وأَستَعينُه وأَستغفرُه وأتوكلُ عليه وكفى بهِ عليماً بصيراً، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له ربَّاً عظيماً قديراً، وأَشهدُ أن نبيَّنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، بعثَه بين يدي الساعةِ بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسِراجاً مُنيراً، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه أَعلامِ الهُدى، ومصابيحِ الدُّجى، ومن سَارَ على نهجِه واقتفى، وسَلَّمَ تَسليماً كثيراً.
أما بعدُ: يُحكَى أنَّ رَجلًا أَتى الحُجَّاجَ وهم يَطوفونَ بالكعبةِ، ويَغرِفون الماءَ من بئرِ زمزمَ، فقَامَ وحَسَرَ عن ثَوبِه، ثُمَّ بَالَ في البئرِ والنَّاسُ يَنظرونَ؛ فما كَانَ مِنهم إلَّا أن انهالوا عليه بالضَّربِ الشَّديدِ، حتَّى كَادَ يَهلِكُ، لولا أن خلَّصَهُ الحرسُ، ثُمَّ ذهبوا به إلى الوَالي، فقَالَ له: قبَّحكَ اللهُ! لِمَ فعلتَ هذا؟ فقَالَ الرَّجلُ: "حتَّى يعرفَني النَّاسُ، يَقولونَ: هذا فلانٌ الَّذي بَالَ في بِئرِ زَمزمَ"، فسُبحانَ اللهِ! المُهم أن يَشتهرَ بينَ النَّاسِ ويُعرَفُ، ولو كانَ على حسابِ الدِّينِ والشَّرَفِ.
إنَّها الشُّهرةُ، وما أدراكَ ما الشُّهرةُ؟! يكادُ سنا بريقِها يَذهبُ بالأعيانِ، ويريدُ طالبُها أن يكونَ وحيدَ الزَّمانِ، حتى يكونَ النَّجمَ الذي يُشارُ إليهِ بالبَنانِ، ويدفعُ في سبيلِ الوصولِ إليها غاليَ الأثمانِ، لأجلِ أن يكونَ المَشهورَ الذي يُطاردُ من المُعجبينَ في كلِّ مكانٍ!.
اسمعوا إلى رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- وهو يقولُ: "مَن لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرةٍ؛ أَلْبَسَهُ اللهُ ثوبَ مَذَلَّةٍ يومَ القيامةِ"، فإذا كانَ هذا فيمن لبسَ ثياباً غريبةً ليلفتَ أنظارَ النَّاسِ في الطريقِ، فكيفَ بمن جاءَ بأفكارٍ ليبراليَّةٍ، أو مناظرَ إباحيَّةٍ، أو نَعَراتٍ جاهليَّةٍ؛ ليتكثَّرَ من المُتابعينَ ويُصبحَ حديثَ الملايينِ!.
واليومَ قُد فُتحَ فضاءُ الإعلامِ على مِصراعيهِ، وأصبحَ الكلُّ يحملُ استديو التَّصويرِ في يديه، ويستطيعُ أن يَطرحَ عُصارةَ أفكارِه وأخلاقِه للجماهيرِ، في كلِّ وقتٍ دونَ رَقابةٍ إعلاميةٍ أو مقصِ رئيسِ التَّحريرِ، ولكنَّ العجيبَ أن يَشتهرَ الكثيرُ بالتَّفاهاتِ والسَّخافةِ، بلا علمٍ ولا فائدةٍ ولا مضمونٍ ولا ثَقافةٍ، والمُتابعونَ بالملايينِ من صِغارٍ وكِبارٍ وبناتٍ وأبناء، فمن المسؤولُ عن هذه الفوضى التي شِابَ مِنها العُقلاءِ؟.
فَدَعْ عنْكَ الكِتَابةَ لسْتَ مِنْها *** ولو سوَّدتَّ وجْهَكَ بالمِدَادِ
إنَّها -واللهِ- شَرُّ البليَّةِ وقاصمةُ الظَّهورِ، أن يكونَ عملُ الإنسانِ لحبِّ الظُّهورِ، ألا يعلمونَ أنَّ هذا هو الشِّركُ الخفيُّ الذي خافَه رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- على الصَّحابةِ -رضيَ اللهُ عنهم-، فكيفَ بمن هو دونَهم، يقولُ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ: "الرِّيَاءُ"، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ تُجَازَى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمُ: "اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟"، فإذا كانَ هذا في العباداتِ، فكيفَ بالسَّخافةِ والتَّفاهاتِ؟ ولذلكَ يقولُ إبراهيمُ بنُ أدهمَ -رحمَه اللهُ تَعالى-: "ما صَدَقَ اللهَ عبدٌ أَحَبَّ الشُّهرةَ".
بل إن طلبَ الشُّهرةِ بالأعمالِ، مذمومٌ في الإسلامِ على كلِّ حالٍ، يقولُ -سُبحانَه وتعالى-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا)[هود: 15]، في كلِّ شيءٍ حتى في الشُّهرةِ وحبِّ الظُّهورِ، (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ)[هود: 15]؛ فيصبحُ المشهورَ الذي يُلاحقُ في كلِّ مكانٍ، وتُلتقطُ معه الصُّورُ الجميلةُ بالألوانِ، ولكنْ العاقبةُ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[هود: 16]، يَقولُ ابنُ القيمُ -رَحمَه اللهُ-: "لا يجتمعُ الإخلاصُ في القلبِ ومحبةُ المدحِ والثناءِ والطمعُ فيما عِندَ الناس، إلا كما يجتمعُ الماءُ والنارُ، والضَّبُّ والحُوتُ".
فيا من يفرحُ بأنَّه من المشاهيرِ، ويبحثُ عن فِلاشاتِ التَّصويرِ، أينَ أنتَ من قولِ بِشرِ بنِ الحارثِ -رحمَه اللهُ-: "إذا عُرفتَ في مَوضعٍ فاهرُبْ مِنهُ، وإذا رَأيتَ الرَّجلَ إذا اجتمعوا إليه في مَوضعٍ لَزمَهُ واشَتهى ذلك، فهو يُحبُّ الشُّهرةَ".
ويا من أرادوا الشُّهرةَ والثَّناءَ وجمعَ المالِ، بالسَّخافةِ والحماقةِ والاستهبالِ، أخبروني: أليسَ إبليسُ وفِرعونُ وقارونُ وأبو لهبٍ قد أطبقتْ شهرتُهم الآفاقَ وبلغتْ السُّحبَ؟ كيفَ لا، وهم قد ذكروا في أفضلِ كِتابٍ، وتُتلى الآياتُ بذكرِهم على المنابرِ وفي المِحرابِ، ولكنَّها شُهرةُ الكُفرِ والظُّلمِ والشُّرورِ؛ فتلعنُهم الأجيالُ على مرِّ العُصورِ، وهكذا سيبقى أُناسٌ قد دخلوا التَّاريخَ من أوسخِ أبوابِه، وستبقى مقاطعُهم وكتاباتُهم تستحي منها الأحفادُ، وستُرجمُ أفكارُهم كما رُجمَ قبرُ أبي رِغالٍ.
اللهمَّ نستغفرُكَ إنَّكَ كُنتَ غفَّاراً، فاغفرِ لنا وللمسلمينَ في كلِّ مكانٍ وزمانٍ؛ إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حَمدَ الشَّاكرينَ، والشُّكرُ له شُكرَ الحَامدينَ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، تَمَّتْ كلمتُه، وعَمَّتْ رَحمتُه، وفَاضتْ نِعمتُه، وأشهدُ أنَّ نَبيَّنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، المبعوثَ رحمةً للعالمينَ، صَلَّى اللهُ وسَلمَ عَليهِ، وعلى آلِه وأصحابِه والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وسَلَّمَ تَسليماً كثيراً.
أما بعد: في الأوقاتِ العصيبةِ والشَّدائدِ والأزماتِ، يظهرُ جليَّاً الفرقُ بينَ الأقزامِ والقَاماتِ، ويعرفُ النَّاسُ أهلَ العلمِ والاختصاصِ وأهلَ التَّفاهاتِ، فأخبروني: من هم اليومَ أصحابُ الأصواتِ المفيدةِ، وأصحابُ التَّوجيهاتِ الرَّشيدةِ؟ ومن هم الذينَ ينشرونَ المخالفاتِ والشَّائعاتِ والمنكراتِ والسَّخافاتِ؟.
سَتعلمُ حِينَ يَنجليَ الغُبارُ *** أفرسٌ تَحتكَ أم حِمارٌ
لقد أصبحَ اليومَ ظاهراً دورَ الأبطالِ رجالِ الأمنِ، في المحافظةِ على النِّظامِ والانضباطِ والأمنِ، وأصبحَ سَاطعاً دورَ البواسلِ رِجالِ الصِّحةِ، في المحافظةِ على الوِقايةِ والعِلاجِ والصَّحةِ، ولا زالوا يبحثونَ عن بديلٍ للمُعلمِ القَديرِ؛ لتبقى عجلةُ العلمِ والتَّنميةِ تسيرُ، وهكذا كلُّ مُديرٍ صالحٍ، وكلُّ وزيرٍ ناصحٍ، وكلُّ أميرٍ ناجحٍ، يعملونَ على مدارِ السَّاعةِ بعيداً عن الضَّجيجِ والأضواءِ، بل هم في اجتماعاتٍ وقراراتٍ وإنجازاتٍ وخفاءٍ، نحسبُهم الإخلاصَ وحسيبُهم مَن في السَّماءِ.
وهؤلاءِ وإن كانَ كثيرٌ من النَّاسِ لا يعلمونَ أسماءَهم ولا جُهودَهم الجبَّارةَ، ولا يعلمونَ بالأخطارِ التي تُحيطُ بهم في الحفاظِ على أرواحِ الملايينِ، ولكنْ نقولُ لهم كما قالَ عمرُ -وما أدراكَ ما عُمرُ؟!- عندما أَتاهُ رَسولُ النُّعمانِ بنِ مُقَرِّنٍ -وذلك في واقعةِ نَهاوَنْدَ- فسَألَه عمرُ عن النَّاسِ، فذكَر مَن أُصِيبَ من المسلمينَ، وقال: قُتِلَ فُلانٌ، وقُتِلَ فُلانٌ، وقُتِلَ فُلانٌ، وآخرونَ لا نَعرفُهم، فقَالَ عُمرُ: "لَكِنَّ اللهَ يَعرفُهم".
اللهمَّ وَفِّقْ كلَّ المُخلصينَ العاملينَ لسلامةِ العبادِ والبلادِ، اللهمَّ أعنهم وسدِّدهم، اللهمَّ اجزِهم عنَّا كلَّ الجزاءِ، وباركْ لهم في الأجرِ والعطاءِ، اللهمَّ وفِّق ولاةَ أمرِنا لما يقومونَ به من جهودٍ عظيمةٍ، وقراراتٍ سليمةٍ، في سبيلِ الحفاظِ على المواطنِ والمقيمِ، ومُحاربةِ الخطرِ العميمِ، فاللهمَّ اهدِهم وسددهم في الأقوالِ والأفعالِ، اللهمَّ اجعلنا مِن الصابرينَ على أقدارِكَ وبلائِك، وادفع عنَّا وعن المسلمينَ كلَّ شَرٍّ ومكروه، وأعذنا وإيَّاهُم مِن الفتنِ ما ظهرَ مِنها وما بطَن، اللهم ارفعْ عَنّا وَعنْ المُسلمينَ البَلَاءَ والوَباءَ والغَلَاءَ، اللهمَّ لا تُؤاخذنا بذُنوبِنا ولا بما فَعَلَه السُّفهاءُ منَّا، اللهم اجْعَلْنا في حِمَاك، واجعلْ عَمَلنا في رِضاك، إليك التجأنا، وعليك توكَّلْنا، وإليك فوَّضْنا أمورَنا، اللهم احْفَظْنا بحِفْظِك، واكْلَأْنا برِعايَتك، واحْرُسْنا بعَيْنِك التي لا تنام.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم