عناصر الخطبة
1/ أهمية الاعتبار بسرعة انقضاء الأوقات 2/ خمسُ قضايا تبرزُ مع نهاية عام وبداية عام 3/ وجوب الحذر من الدنيا وزخارفها 4/ تأملات في أحداث الهجرة النبوية 5/ قصة التاريخ الهجري 6/ حادثةُ العاشر من المحرَّم وإنجاء الصالحين وإهلاك المفسدين 7/ سنةُ الله -عز وجل- في نصرة أوليائه وقمع أعدائه.اقتباس
إن المسلمين في هذه العصور يعانون ضعفًا موهنًا وتفرقًا للأعداء مغريًا، وأصبحت دماؤهم تسيل في فجاجٍ كثيرة وبقاعٍ متعددة، فلا يدرون ما يتقون من سهام أعدائهم، ففي الخارج عدوٌ متربصٌ كامن، وفي الداخل عدوٌ منافقٌ خائن. فإلى متى تستمرُ هذه الأحداثُ دون تغيير، وتتفاقم الأوضاعُ من دون تحوير؟! ألا ينبغي لنا أن نقول للعدو المتسلط الكافر: قف انتهَى وقت الضّعف؟!
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا أيها الناس، من الحيُّ الذي لا يموت؟! ومن القائمُ بذاته الذي لا يزولُ ولا يحولُ ولا يفوت؟! إنه اللهُ الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيوم، فلماذا ينصرفُ الناس عنه ويعتصمون بغيره ويتوجهون إلى سواه ويسألون غيره ويطلبون النفع ودفع الضر من الذي يموت ويزول ولا حول له ولا قوة؟!
معاشر المسلمين، مع إطلالةِ عام وذهابِ عام يبرزُ للمتأمل أحداثٌ عظام وقضايا جسام، يجدرُ بالعاقل الفطن أن يقفُ عندها وقفات، ويسترجعَ فيها الذكريات، يجددُ العهد، ويبرمُ العقد، ينظرُ في ماضيه وما أحدث فيه، ويتأملُ في مستقبله وما عزم على أن يفعله فيه، إن أمد الله في أجله وزاده في عمره وأدام له نعمه وفضله.
معاشر المسلمين، خمسُ قضايا تبرزُ في خلال هذه الأيام، ينبغي على المسلم أن يقفَ عندها ويجيل النظر ويحرك الفكر.
فأُولى هذه القضايا: بدايةُ عامٍ ونهايةُ عام، إننا حينما نستقبلُ عامًا ونستودعُ عامًا آخر لهو حدثٌ ينبغي الوقوفُ عنده وإن كان في نظر بعض الناس أمرًا عاديًا، ذلك أن هذا العام قد مضى من أيام أعمارنا، وذهبَ من سنيّ آجالنا، وأصبحنا إلى الموت أقرب منه إلى الحياة, ونحن تفرحنا الأيام إذا ذهبت لأننا نتطلع إلى الدنيا وزخارفها، وقد مددنا الآجال، وسوفنا في الأعمال، وبالغنا في الإهمال، حتى صرنا كما قال الأول:
إنّا لنفرحُ بالأيّام نقطعها *** وكلُ يومٍ مضى يدني من الأجلِ
فاعمل لنفسك قبل الْموت مُجتهدًا *** فإنما الرِّبحُ والخسرانُ فِي العملِ
فيا أيها المؤمن، احذر من الأيام وتسارعها فإنها غرارة، واحذر من الدنيا وزخارفها فإنها غدَّارة، كم من مؤملٍ بلوغَ آمالٍ أصبح رهنَ القبور مدفونًا، وكم من مفرطٍ في الأعمال أصبح بعدها مغبونًا، فاغتنم فرصةَ حياتك وشبابك وفراغك وصحتك وغناك قبل أن تفقدَها أو تفقدَ بعضها، فتصبح من النادمين.
وعلى الأمة الإسلامية جمعاء النظرُ في أحوالها ومآلها، والاعتبارُ بأسلافها وسابقيها. إن المسلمين في هذه العصور يعانون ضعفًا موهنًا وتفرقًا للأعداء مغريًا، وأصبحت دماؤهم تسيل في فجاجٍ كثيرة وبقاعٍ متعددة، فلا يدرون ما يتقون من سهام أعدائهم، ففي الخارج عدوٌ متربصٌ كامن، وفي الداخل عدوٌ منافقٌ خائن. فإلى متى تستمرُ هذه الأحداثُ دون تغيير، وتتفاقم الأوضاعُ من دون تحوير؟! ألا ينبغي لنا أن نقول للعدو المتسلط الكافر: قف انتهَى وقت الضّعف؟!
القضية الثانية: حدثٌ عظيمٌ من خلاله تغيَّرَ وجهُ العالَم، إنه حدثُ الهجرة النبوية، حينما خرج المصطفى محمدُ بنُ عبد الله -صلواتُ الله وسلامه عليه- من مكةَ مظلومًا مقهورًا مشردًا مطرودًا إلى طيبةَ الطيبةِ البلدةِ المباركة، فأسَّسَ فيها دولةَ الإسلام، وهيّأ فيها رجالاً ربَّاهم فأحسنَ تربيتهم، وأدَّبهم فأحسنَ تأديبهم، فساحوا خلالَ الدِّيار؛ يدعون إلى الله، وينصرون رسولَه، يدفعون عنه أذى الكفار، حتى يبلِّغَ دينَ الله الذي أمره أن يبلغه للعالمين: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [المائدة: 67]، ففعل بأبي وأمي هو حتى أتاه اليقين، وترك الناس على المحجة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلى هالك.
"إن في هذا الحدث العظيم من الدروس والعبر ما لو استلهمته أمةُ الإسلام اليوم وعملت على ضوئه لتحقق لها عزُها وقوتها ومكانتها، ولَعَلِمَت علمَ اليقين أنه لا حلَّ لمشكلاتها ولا صلاحَ لأحوالها إلا بالتمسك بإسلامها والتزامها بإيمانها وعقيدتها، فواللهِ ما قامت الدنيا إلا بقيام الدِّين، ولا نال المسلمون العزة والكرامة إلا لمَّا خضعوا لربِّ العالمين، وهيهات أن يحلَ أمنٌ أو رخاءٌ أو سلامٌ دون اتباع نهج الأنبياء والمرسلين".
القضية الثالثة: وهي قضيةٌ تعبرُ عن شخصية هذه الأمة واستقلالِ أتباعها عن غيرهم من سائر الأمم والنحل من العامة، إنها قضيةُ التاريخ الهجري، فشهرُ الله المحرَّم أولُ شهور السَّنة الهجرية، اتفق على ذلك صحابةُ رسول الله ، ولم يشابهوا أهل الكتاب في اعتماد التاريخ الميلادي، وذلك أن التاريخ الهجري متعلقٌ بمناسباتٍ دينيةٍ عظيمةٍ تتكررُ كلَ عام، من صيامٍ وزكاةٍ وحجٍ وغيرها، فعلينا اعتمادُ هذا التاريخ في جميع معاملاتنا، وأن لا نتشبه بقوم نهينا عن التشبه بهم، فمخالفتهم من صميم عقيدتنا، وقد قال –صلى الله عليه وسلم- : "من تشبه بقوم فهو منهم" (رواه أحمد وأبو داود).
القضية الرابعة: قضيةٌ -يا معاشر المسلمين- فيها عبرةٌ وعظةٌ لكل طاغيةٍ متجبرٍ كفار؛ أن نهايتَه وشيكةٌ على يد العزيز العظيم الجبار مهما طغى وعلا وأفسدَ وأرعدَ وأزبد، فإن الله له بالمرصاد, حتى إذا أخذه لم يفلته، أخذه أخذَ عزيزٍ منتقم، تلكم حادثةُ العاشر من المحرَّم في قصة كليم الرحمن موسى عليه الصلاة والسلام مع عدوِّ الله فرعون، حيثُ احتلت هذه القصةُ جانبًا كبيرًا من القرآن الكريم لا يخفى عليكم.
فهذه دعوة للطغاة الجبابرة المتكبرين: افعلوا ما تشاءون، دمِّروا المباني، واقتلوا المرأةَ والطفلَ والعاني, اسحقوا كلَ شيء وحلُّوا وثاقه, وارموا البيوت بأسلحتكم الحديثةِ الفتاكة، زعزعوا الأمن، واعقدوا المؤتمرات لتبحثوا مع أهله السلام، واسرقوا مدخرات الشعوب وحقوقهم وأموالهم، واستخدموا العملاء والمنافقين لِيُكْثِرِوا الكلام، فمهما طال بكم الأمر وامتدَّ لدولتكم العُمر تذكروا مصيرَ فرعون حينما استغاث ونادى بأعلى صوته: (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس: 90]، فقال الله تعالى: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس: 91]. أيها الطغاةُ الجبابرة، (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [فصلت: 40].
أيها المسلمون، تلكمُ ذكرى لمن كان له قلب، وفيها عِبرةٌ وعَبرةٌ لمن له لُبّ، وهي إشاراتٌ طارفة وتذكرةٌ خاطفة وموعظةٌ للدموع ذارفة وللقلوب واجلة وللعمل داعية. مواقفُ جديرةٌ بالتنبيه والانتباه، وحريَّةٌ أن يأخذ بها الطغاةُ والهداة، عسى الله أن يغير حالنا من حالٍ إلى أحسن حال، وأن يأخذ بنا إلى أحسن مآل، إنه خير مأمول وأكرمُ مسئول، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلى بالله العلي العظيم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أيها المؤمنون البَرَرَة، يا أهل السَّبْقِ لكل أمرٍ فيه خِيَرة، اتقوا الله وتوبوا إليه، إنه هو التوابُ الرحيم.
أما خامس القضايا فهي قضيةٌ مطَّردة وسنةٌ ماضية، إذا تحققت أسبابها تحققت، وإذا انتفت أسبابها انتفت، تلكم سنةُ الله -عز وجل- في نصرة أوليائه وقمع أعدائه، جاءت في قصة موسى -عليه الصلاة والسلام- فأعقبها بالشكر والثناء على المولى المنعم والقوي المنتقم، فصام هذا اليوم شكرًا لله، وصامه أتباعه، عن ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: قَدِمَ النبي –صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يوم عَاشُورَاءَ، فقال: "ما هذا؟" قالوا: هذا يَوْمٌ صَالِحٌ، هذا يَوْمٌ نَجَّى الله بَنِي إِسْرَائِيلَ من عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قال: "فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ"، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. (رواه البخاري).
وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سئل عن صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فقال: "أَحْتَسِبُ على اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ" (رواه مسلم).
إلا أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان من هديه أن يخالف أهل الكتاب في كل شيء، وهنا أمر النبيُ -عليه الصلاة والسلام- المسلمين أن يصوموا هذا اليوم، وأمرهم أن يصوموا يومًا قبله.
فعلى الراغبين في الأجر والثواب الجزيل أن يصوموه ويتحروه ويعملوا بهدي نبيهم ويستفتحوا عامهم بعملٍ صالحٍ وشكرٍ على وافر نعمه وجزيل فضله، ويكونوا على علمٍ ومعرفةٍ بصدق وعد الله في المؤمنين إذا صدقوه أن ينصرَهم على عدوهم ويُمَكََِّنَ لهم في الأرض ويستخلفهم فيها فينظرَ كيف يعملون.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على من بعثه ربه رحمةً للعالمين، النبي الهادي الأمين، فقد أمركم بذلك ربكم ربُ العالمين فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم