عناصر الخطبة
1/شمولية منهج الإسلام 2/وجوب إتباع الإيمان بالعمل الصالح 3/التحذير من مخالفة القول للعمل 4/دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لمكارم الأخلاق 5/حاجة الأمة الإسلامية للعودة للهدي النبوي الرشيد 6/مكانة القدس الدينية والتاريخيةاقتباس
ممَّا يؤسف له أن بعض الناس صاروا يُعجَبون بأخلاق غير المسلمين، وطِباعهم وعاداتهم، يقولون: إن مواعيد غير المسلمين أصدق، ومعاملاتهم أدق، وليس الإسلام كذلك، والحقيقة أن العيب في المسلمين حتمًا لا في الإسلام، ومعلوم أن الإسلام انتشر في كثير من بقاع الأرض بالأخلاق الحسنة...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله ربِّ العالَمِينَ، ولا عدوان إلا على الظالمين المفسدين، المانعين مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، الساعين في خرابها.
الحمدُ لله ربِّ العالَمِينَ، حمدًا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، فنحمده ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، ونستعين به ونستنصره، ونسأله من نعمه، التي لا تعد ولا تحصى، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اصطفاه واجتباه وهداه، فاللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليه في الأولين وفي الآخَرين، وفي كل وقت وحين، وعلى آله وصحبه ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ، أيها المؤمنون: يقول الله -تعالى-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الْإِسْرَاءِ: 1]، ويقول أيضًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
أيها المؤمنون: اعلموا أن الإسلام منهج شامل، انتظمت فيه شؤون الدنيا والآخرة؛ (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الْأَنْعَامِ: 162-163]، فحقَّق الكفايةَ والإغناءَ عمَّا سواه من المناهج والأفكار؛ وذلك لسهولة وإمكانية تطبيق تعاليمه السمحة، فهو ليس طقوسًا تؤدَّى في أبراج عاجية، لا عَلاقة لها بالواقع، كما أن الإسلام عقيدة وعمل وسلوك، وقد قرَّر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن الإيمان بالله -تعالى- ليس شعارًا أجوفَ، وإنَّما هو طاقة تَحمِل المرءَ على العمل الجادّ والفعَّال، يثير همته ويقويها، ولعلكم تقرؤون كثيرًا في كتاب الله -تعالى-، بعد الأمر بالتكاليف الشرعيَّة، وبعد الأوامر والنواهي، كقوله -تعالى-: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[الْأَعْرَافِ: 85]، (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ)[يُونُسَ: 84]، كما أن العمل دليل وبرهان على صدق هذا الإيمان، وإلا فادعاء الإيمان بغير عمل كذب عظيم على الله ورسوله وعلى المؤمنين.
وقد ربَط القرآنُ الكريمُ في كثير من الآيات بين الإيمان والعمل الصالح؛ كقوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)[الْبَقَرَةِ: 277]، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ)[الْبَقَرَةِ: 218].
يا مؤمنون: وهذا رسولنا القدوة يقول في الحديث الذي رواه الإمام مسلم: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ"؛ فقد ربط الإيمان بسلوكيات إيجابيَّة، وما هذه إلا أمثلة، والأحاديث التي تربط الإيمان بالأعمال من شأنها أن تجعل من إيمان الفرد واقعًا ملموسا؛ فالقول بغير عمل ادعاء بغير دليل.
يا مسلمون: إن مخالفة العمل للقول شأن المنافقين، الذين يخالفون بأعمالهم ثوابت الإسلام، مع ادعائهم كذبا الانتساب إليه، وقد نعى القرآن الكريم على الذين يدعون الإسلام ولا يقومون بواجباته؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[الصَّفِّ: 2-3]، فليس الإيمان بالتمني، لكن ما وقَر في القلب وصدَّقَه العملُ، وقد قال الحبيب -صلوات الله وسلامه عليه-: "وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: مَنْ يا رسولَ اللهِ؟ قال: الذي لا يأمَنُ جارُه بَوائِقَهُ"، وقال أيضًا: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"، وقال أيضًا: "لَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ".
يا مؤمنون: ومن آخر كلماته -صلوات الله وسلامه عليه-: "أيها الناسُ: موعدكم معي ليس الدنيا، موعدكم معي عند الحوض، والله لكأني أنظر إليه من مقامي هذا، أيها الناسُ: ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا؛ أن تنافسوا كما تنافسها الذين من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتكم، أيها الناسُ: الصلاةَ الصلاةَ الصلاةَ، اللهَ اللهَ في الصلاة"؛ أي: أستحلِفكم بالله أن تحافظوا على الصلاة، وأن تقوموا بواجباتها، "أيها الناسُ: اتقوا الله في النساء، أوصيكم بالنساء خيرًا، أيها الناسُ: إن عبدًا خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله، آواكم الله، حفظكم الله، نصرَكم اللهُ، ثبَّتَكم اللهُ، أيَّدَكم اللهُ"، ونحن نقول: يا أهلنا في بَيْت الْمَقدسِ، ويا أهلنا في فلسطين: آواكم الله، حفظكم الله، نصركم الله، ثبتكم الله، أيَّدَكم اللهُ، "أيها الناسُ: أقرئوا مني السلام كل من تبعني من أمتي إلى يوم القيامة... إلى آخر الحديث، فصلوات الله وسلامه عليك يا سيدي يا رسول الله، يا صاحب الخُلُق العظيم.
أيها المؤمنون: وممَّا يؤسف له أن بعض الناس صاروا يُعجَبون بأخلاق غير المسلمين، وطِباعهم وعاداتهم، يقولون: إن مواعيد غير المسلمين أصدق، ومعاملاتهم أدق، وليس الإسلام كذلك، والحقيقة أن العيب في المسلمين حتمًا لا في الإسلام، ومعلوم أن الإسلام انتشر في كثير من بقاع الأرض بالأخلاق الحسنة، والمعاملات المنضبطة، التي بهرت الكثير من شعوب الأرض؛ فدخلوا في دين الله أفواجًا، وقد جاء الغرب ليرد المسلمين عن دينهم؛ مستنِدًا إلى سوء التطبيق، الذي وقع فيه كثير من مسلمي هذا العصر، ورفعوا شعارَ: سنغزو بلاد المسلمين بما غزانا به المسلمون الأوائل.
أيها المؤمنون: ولا نُنكِر أنَّ هناك بارقة أمل في الصحوة الإسلاميَّة الراشدة، والتي نسأل الله -تعالى- أن يعصمها من الزلل والضلال، وقد وقف العالم الآن مشدوهًا أمام أخلاقهم الحسنة؛ مما جعل كثيرًا من غير المسلمين يدخلون في الإسلام مختارين غير مجبرين ولا مكرهين، وهذه أول خطوة في الطريق الصحيح؛ فحاجتنا اليوم إلى مسلم فَعَّال أشد بكثير من حاجتنا إلى مسلم قَوَّال، والله المستعان، وبالله التوفيق، وقد أُثِرَ عن الحسن البصريّ أنَّه قال: "ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قومًا خرجوا من الدنيا ولا عمل لهم، وقالوا: نحن نحسن الظن بالله، وكذبوا؛ لو أحسِنوا الظن لأحسنوا العمل"، أو كما قال: "التائب من الذنب لا ذنب له"، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، ويا فوز المستغفرين استغفروا الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، أحمده -تعالى- وأستهديه وأسترشده وأتوب إليه، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، ولا مثيل له، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأشهد أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، بعَثَه اللهُ رحمةً مهداةً للعالَمينَ، أقام صروحَ العدل، وحارَب الظلمَ، ونشَر الأخلاق الحميدة، وحارب الرذيلة، دعا مكارم الأخلاق، ونبذ التباغض والتحاسد والتدابر، والتنافر بين المؤمنين؛ فتحولت الجزيرة العربيَّة بمولده وبعثته، وصارت مركز إشعاع نور وهدى على العالمين، صلوات ربي وسلامه عليك يا سيدي يا أبا القاسم، وعلى آلك وصحبك الغر الميامين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ، أيها المؤمنون: ففي ظل ما تشهده بلادُنا العربيَّةُ والإسلاميَّةُ من مصائب وبلايا ومحن، بَدءًا بالاقتتال والتنازع والتشرذم، والحروب المدمرة، وانتهاك حرمة الإنسان والمقدَّسات، وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارَك، الذي يتعرض يوميًّا إلى اعتداءات واقتحامات مِنْ قِبَل المتطرفين، ومرورًا بزلازل سوريا وتركيا والمغرب وفيضانات ليبيا، لابدَّ من وقفة مع الذات لمحاسبة أنفسنا، ما أحوج البشريَّة هذه الأيام إلى هدي النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- خاصَّة في ظل الأزمات والحروب والصراعات؛ بسبب عدم اتباع الْهُدَى وحب الذات، والفساد في الأرض، وانتشار الظلم، وهو عكس ما نادت به شريعة الإسلام؛ فاللهمَّ أبعدنا عن الظلم والفساد، وعن الحرام، وعن الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأبعد عَنَّا وعن شعبنا ظلم الظالمين المفسدين.
يا مؤمنون: وإنَّ من أكبر المصائب التي تصاب بها الأمة أن يكون علماؤها منافقين متلونين للحكام والأمراء، تحكمهم المصلحةُ والمنفعةُ، رغمَ عِلمِهم أن العالِم الحقيقيّ لا يحكمه إلا شرعُ الله، وقد صدق في هؤلاء قول الإمام الشافعي:
ولا خيرَ في وُدِّ امرئٍ متلوِّنٍ *** إذا الريحُ مالَتْ مالَ حيثُ تَمِيلُ
أيها المؤمنون: لقد شهدت مدينة القدس عبر عصور الإسلام الزاهرة حياةً مشرقةً، بالحق والعدل والتسامح؛ وعليه فستبقى خالدةً بذكرى الإسراء والمعراج، وسيبقى عطر سيد البشريَّة فوَّاحًا من رباها الطيبة، وآثار معراجه إلى السماوات العلا حيث سدرة المنتهى، ستبقى باقية على صخرتها المشرفة، فمكانتها عظيمة في القلوب والأرواح، وسيبقى العرب والمسلمون أصحاب الحق الشرعي فيها، وستبقى مفتاح الحرب والسلام، وعلى العقلاء من الناس أن يدركوا ذلك تمامًا.
يا مؤمنون: ستشرق شمسها من جديد، وستتبدد ظلمة ليلها عمَّا قريب، وستفتح ذراعيها وقلبها لاستقبال من يكسر قيدها والأغلال التي تكبلها، والجدران التي تحيط بها من كل جانب بمشيئة الله -تعالى-.
يا قدسُ مَهمَا الليلَ طال *** فَلَنْ يدومَ الظلامْ
الفجرُ آتٍ لا محالةَ *** والظلامُ إلى زوالْ
لَاحَتْ تباشيرُ الصَّبَا *** حِ وجاء دَورُكَ يا بلالْ
وما ذلك على الله بعزيز؛ (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)[الرُّومِ: 4-5]، فشِدُّوا الرحالَ إلى المسجد الأقصى المبارَك، ورابِطوا فيه ما استطعتُم إلى ذلك سبيلًا، وعلِّموا أولادَكم حُبَّه، وحُبَّ القدس، وحُبَّ أرض الإسراء والمعراج، وعلِّموهم أن الأقصى هو أُولَى القِبلتين، وثاني المسجدينِ، وثالث المساجد التي تُشَدّ إليها الرحالُ، وأن حبه عقيدة وإيمان، وأن خذلانه خيانة لله وللرسول وللإسلام، وستبقى مآذنه تصدح بالتكبير والتهليل، بكل حرية وأمان، بمشيئة الله -تعالى-.
فاللهمَّ ثبتنا على ديننا ولا تفتنا، وأحسن لنا الختام، اللهمَّ يا منزل الشفاء، ومجري السحاب، ورافع البلاء، ومجيب الدعاء، ارفع عَنَّا وعن شعبنا وإخواننا المسلمين في كل مكان البلاء والوباء والحصار، وانصرنا على أعدائنا، وآمنا في أوطاننا، وآمِنْ روعاتنا، واستر عوراتنا، واحفظ بلادنا وقدسنا ومقدساتنا وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارَك، أولى القبلتين، ثاني المسجدين، وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، مسجد إسلامي، بقرار رباني، بكامل ساحاته ومساحاته وأبوابه ومصاطبه وأَرْوِقته، لا يقبل التقسيم ولا الشراكة، فشدوا الرحال إليه؛ (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، اذكروا الله يذكركم، واستغفروه يغفر لكم، واسألوه يعطكم، واشكروه يزدكم، وأَقِمِ الصلاةَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم