بأخلاقنا نوصل للعالم رسالتنا

عمر بن عبد الله المقبل

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أخلاق وحقوق
عناصر الخطبة
1/بعض صنوف الأذى التي لاقاها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في المرحلة المكية 2/تربية النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابة على مكارم الأخلاق 3/قصص رائعة في أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- 4/دور الأخلاق الحسنة في قبول دعوة المسلمين 5/ضعف مكارم الأخلاق في العصر الحاضر 6/وسائل قبول الناس للدعوة والدعاة

اقتباس

لقد بلغ صلى الله عليه وسلم من الشرف والمقام والمنزلة عند الله مقاماً لم يزده إلا تواضعاً، يُسْرى به من مكة للمسجد الأقصى، ثم يُعرج به من الأقصى لما فوق السماء السابعة، ويسمع صرير أقلام الملائكة، ثم يعود من الغد، ليجالس الفقراء والمساكين، وبعض الناس إذا...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

فحينما صدع النبي -صلى الله عليه وسلم- برسالته بين ظهراني مكة، واجهه عامةُ قريش -إلا نفراً يسيراً- بألوان من الأذى، وصنوف من السخرية والتكذيب، ومحاولة التشويه الإعلامي؛ للصدّ عن دعوته، وهو في هذه الأثناء -ومع شدة ما لقي إلا أنه- لم يفرّط في أصلٍ عظيم فُطِرَ عليه، ولم تزده النبوة إلا رسوخاً، ألا وهو: خُلقه الحسن صلى الله عليه وسلم، فزكّاه العليم الخبير -الذي لا تزكية بعده ولا فوقه- في سورة من أوائل السور المكية نزولاً، فقال سبحانه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4].

 

وحسبك أن الذي وصف خُلقه بأنه عظيم هو العظيم -سبحانه-! ولم يزده هذا الثناء إلا تواضعاً، وبعضهم يأخذ شهادة تقدير، أو يسمع كلمة ثناء من مسؤول كبير، فيتكبر!.

 

أما هو صلى الله عليه وسلم فلم يزل منذ نزلت عليه هذه الآية، وهو يترقى في منازل الأخلاق، حتى بلغ غايتها، وتسنّم ذروتها، وتربّع على عرشها، فلا يُذْكَرُ خُلُقٌ محمودٌ إلا وكان له صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر، ولهذا لم تزد عائشة -رضي الله عنها- حين سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم- لم تزد على تلك الكلمة التي تحتاج إلى مجلدات لشرحها: "كان خُلقه القرآن" [رواه مسلم ح(746)].

 

ولقد بلغ صلى الله عليه وسلم من الشرف والمقام والمنزلة عند الله مقاماً لم يزده إلا تواضعاً، يُسْرى به من مكة للمسجد الأقصى، ثم يُعرج به من الأقصى لما فوق السماء السابعة، ويسمع صرير أقلام الملائكة، ثم يعود من الغد، ليجالس الفقراء والمساكين، وبعض الناس إذا سافر لبلد غربي أو شرقي، وجد صعوبةً بالغة في الجلوس مع الفقراء والعمال!.

 

أيها المسلمون: إن المتدبر للسور المكية بالذات، والتي كانت تتنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه العصبة المؤمنة من الصحابة في مكة، وهم يواجهون صنوف العذاب والتسفيه والمضايقة التي اضطرت كثيراً منهم للهجرة.

 

إن المتدبر لهذه السور ليلحظ كثرة التنصيص على التزام أصول الأخلاق مع الأعداء فضلاً عن الأصدقاء، ومع الأقارب فضلاً عن الأباعد؛ وما ذاك إلا رسالة ضمنية لأهل الإسلام -وللدعاة خصوصاً- وخلاصة هذه الرسالة: لا نجاح لدعوتكم إلا بحسن الخلق!.

 

لقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يرون في شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- النموذج الحيّ لتوجيهات القرآن، يرونه يُرمى عليه سلا الجزور، ويُرمى بالكذب والسحر والكهانة بل والجنون، فلا يَسمع منه أعداؤه شيئاً؛ لأنه صاحب رسالة، وإمام منهج، يعامل الناس بأخلاقه لا بأخلاقهم، ولو تفرغ لردِّ شتائمهم؛ لخسر دعوته، بل كان صلى الله عليه وسلم يغتنم كل فرصةٍ للمحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن.

 

ومع شدة ما واجهه من أخص أقاربه -وعلى رأسهم أبو لهب- قال يوماً: "إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رَحِم سأبلها ببلالها" [البخاري ح(5990)].

 

يا أمة القرآن: تأملوا في مثل هذه الآيات المكية، التي ربّى القرآنُ عليها النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، ثم ربّى عليها أصحابه: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين) [الأعراف: 199].

 

(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 34 - 35].

 

(وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) [الإسراء: 37].

 

(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَن) [الإسراء: 53].

 

(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر: 94].

 

(وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان: 18 - 19].

 

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) [الضحى: 9 - 10].

 

وغيرها من الآيات الكثيرة، التي تغرس هذا الأصلَ العظيم وتنمّيه في نفوس الصحابة ومن يتأسى بهم.

 

ولما انتقل المسلمون للمدينة؛ استمرّت التربيةُ القرآنيةُ والنبويةُ لذلك الجيل العظيم، بالتمسك بحسن الخلق، وعدم التنازل عن هذا الأصل العظيم والمهم في الدعوة إلى الله، وكسب الناس للدين، فنزل عليهم أمثال هذه الآيات: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة: 83].

 

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران: 186].

 

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين) [آل عمران: 159].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين) [التوبة: 119].

 

إلى غيرها من الآيات العظيمة، التي تؤكد الرسالة السابقة: بأخلاقنا تصل رسالتنا للعالم.

 

ولهذا كان عقلاءُ الكفار في مكة والمدينة -الذين أسلموا بعدُ- يقولون: لم يكن محمد يَدعُ الكذب على الناس ويكذب على الله، ورأوا فيه الأمانة، فاستودعوا أموالهم عنده، فاستدلوا بعقولهم على صدق دعوته، وصحة رسالته، يقول عبد الله بن سلام -رضي الله عنه-: لما قدم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- انجفل الناسُ إليه، فجئت لأنظر إليه، فلما استبنتُ وجه رسول الله عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء تكلم به أن قال: "أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام" [سنن النرمذي ح(2485) وقال: "هذا حديث صحيح"].

 

وكان من حكمة الله -تعالى-: أنه لمّا جعل هذه الشريعة أكملَ الشرائع؛ كمّل نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- بأكمل الأخلاق.

 

ولم يكن حُسْنُ خُلُقه مقتصراً على الآدميين، بل حتى الحيوانات والطيور العجماء طالها من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ما طالها، فكان ينتصف لها، ويساعدها في حلّ ما نزل بها، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمّرة -نوع من الطير قريب من العصفور- معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمّرة فجعلت تَفرِش -تبسط جناحيها وتبسطهما تريد أن تسقط-، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها" ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: "من حرّق هذه؟" قلنا: نحن، قال: "إنه لا ينبغي أن يعذِّب بالنار إلا ربُّ النار" [أبو داود ح(2675)، وقد اختلف في وصله وإرساله].

 

ودخل صلى الله عليه وسلم حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا جمَل قد أتاه فجَرْجَرَ، وذرفتْ عيناه -أي أظهر صوتاً يدل على حزنه- فلما رأى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حنّ وذرفت عيناه، فمسح صلى الله عليه وسلم ظهرَه ومؤخرة رأسه، فسكن، فقال: "من صاحب الجمل؟" فجاء فتى من الأنصار، فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: "أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملككها الله! إنه شكا إلي أنك تجيعه وتُدْئبُه" أي: تكدّه وتتعبه [رواه أبو داود ح(2549)، أحمد ح(1754) واللفظ له، وأصله في صحيح مسلم، دون القصة].

 

بل حتى الجمادات نالها من روعة أخلاقه الشريفة ما نالها، ففي صحيح البخاري عن ابن عمر قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبرَ تحول إليه؛ فحنّ الجذعُ! فأتاه فمسح يده عليه [البخاري ح(3583)].

 

هذه قطرة من بحر أخلاقه صلى الله عليه وسلم، تنادي بصوت مسموع، وتحمل رسالةً واضحةً وضوح الشمس في ردأة الضحى، لعلنا نسلط الضوء عليها في الخطبة الثانية -إن شاء الله-.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

فإن الحديث عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وعن منهج القرآن في تربية أهله على هذا الأصل العظيم كُتبت فيه مجلدات، ولكن المراد هنا الإشارةُ إلى حقيقة كبرى، وهي: أننا لا نستطيع أن نوصل رسالتنا إلى العالم كما ينبغي، سواء في دعوة من ضل من المسلمين، أو من ليس بمسلمٍ أصلاً؛ ما لم نكن سائرين على هذا المنهج القرآني النبوي في حسن الخلق.

 

وإن المتابع لما يدور في الساحة؛ ليدرك وبحزنٍ عميق أن هذا الأصل غائب عند كثير من الناس في حواراتهم، ومن له أدنى صلة بمواقع التواصل الاجتماعي يدرك هذا بسهولة! فلغة التخوين، والسب والشتم، والدعاء على الآخرين، واللعن، والاتهامات المعلّبة؛ كلها حاضرة إلا عند نفير قليل.

 

والسؤال: هل نظن بهذا أننا سنحقق رسالة؟ أو نقدِّم قِيَماً؟ أو ننتصر للحق؟ لا، والله، بل هو الانتصار للنفس، وحضور الشيطان، ولهذا قال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) [الإسراء: 53].

 

وإذا انتقلتَ إلى واقع التعامل مع العُمّال والخدم؛ وجدتَ ما يندى له الجبين، من صور مجافاة الخُلق الحسن، بل الظلم الذي لا يرضاه الله، ولو كان مع كافر!.

 

وفيمن يسافر من أبناء المسلمين لبعض بلاد الكفر مَن يقع في تصرفات سيئة، سواء كانت في باب الأموال، أو الأعراض، تشوِّه سمعةَ هذا الدين الذي يَنتسب له، والكافر حين يراه لا يرى إلا أنه يمثّل الإسلام!.

 

أيها المسلمون: إن مضامين الرسائل المكية والنبوية التي أشرتُ لها في الخطبة الماضية، وما نبهت عليه من طرف أخلاقه العظيمة صلى الله عليه وسلم.

 

إن مضامين هذه الرسائل لتقول لنا -أيها المسلمون-: إذا أردتم أن تكونوا مؤثرين، ولدعوة الخير ناشرين؛ فكونوا أصحاب أخلاق عالية، وإلا فلا تتعبوا كثيراً، فإن رسائل الأخلاق أقصر وأقرب من آلاف الخطب والمحاضرات.

 

أيها الداعية، أيها المحب لرسولك -صلى الله عليه وسلم-: أيها الراغب في نشر الخير: إن الرسائل تقول لك: كن سهلاً لينًا، قريبًا من الناس، عش مع قضاياهم ما استطعت، كن جابرًا لقلب من سألك ولو بكلمة طيبة، اقبل من المحسن، واعفُ عن المسيء، وتجاوز عن العثرة، واغفر الزلة، انصب موازين العدل في تعاملك، تواضع، كن طلْقَ الوجه، وابذل المعروف ما استطعت، فإن عجزت عن ذلك كلّه، فلا أقلّ من كف أذاك، فإنها -كما قال صلى الله عليه وسلم-: "صدقة منك على نفسك".

 

قال شيخنا العثيمين -رحمه الله- مقولة العالم والداعية المجرِّب: "وأنتَ لا يمكن أن تُصلِح الخلق بمجرد دعوة أو دعوتين -لاسيما إذا لم تكن ذا قيمة بينهم- لكن اصبر، وأطِل النفس، وادع بالحكمة، وأحسِن الخلق؛ وسيتبين لك الأمر فيما بعد".

 

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، واجعل هوانا تبعاً لما جئتَ به.

 

 

المرفقات

نوصل للعالم رسالتنا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات