اقتباس
فالقراءة والكتابة والعلم والتعلم غاية من غايات خلق الله -تعالى- للإنسان، ومحو أمية الناس وإجادتهم للقراءة والكتابة هو بوابة استفادتهم بالعلوم كلها؛ فالأمية تقف حجر عثرة في طريق التعلم، وهي من معرقلات الازدهار والتقدم...
ألست تحزن كما أحزن، ألا يتملكك الأسى حين تعلم أن أمة "اقرأ" لا تقرأ ولا تكتب؟! نعم؛ أمة "اقرأ" خمسها لا يقرأ!!
فتحدثنا صحيفة الأيام البحرانية فتقول: "أظهرت الإحصاءات الحديثة أن معدل الأمية في الوطن العربي بلغت 21 %، وهو مرتفع عن المتوسط العالمي الذي يبلغ 13,6 %، وإن هذه الأرقام قابلة للارتفاع في ظل الأوضاع التعليمية التي تعانيها بعض الدول العربية بسبب الأزمات والنزاعات المسلحة، والتي نتج عنها عدم التحاق قرابة 13,5 مليون طفل عربي بالتعليم النظامي بين متسربين وغير ملتحقين، كما تشير الإحصاءات إلى أن نسبة الأمية لدى الذكور في الوطن العربي هي في حدود 14,6 %، بينما ترتفع لدى الإناث إلى 25,9 %".
وإنه لأمر يتفطر له قلب كل مسلم واع غيور؛ أن يكون أكثر من خمس الأمة الإسلامية -على الأقل- من الأميين الذي لا يقرءون ولا يكتبون! ويتملكنا العجب؛ كيف يكون ذلك والأمة تعلم أن من أوائل ما خلق الله -عز وجل- أن خلق القلم، فما أن خلقه حتى أمره بالكتابة، فعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وكيف لا يتحسر الواعون على أمة "اقرأ" التي خمسها لا يقرأ ولا يكتب، وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فداء أسرى بدر الذين لم يكن لهم مال أن يُعلِّموا أولاد المسلمين الكتابة؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة"(رواه أحمد، وحسنه أحمد شاكر وغيره).
ولما كان القرآن الكريم يتنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يجمع حوله من يجيدون الكتابة والقراءة ليُدوِّنوا آيات القرآن بين يديه، يقول ابن كثير: "أما كُتَّاب الوحي وغيره بين يديه -صلوات الله وسلامه عليه ورضي عنهم أجمعين- فمنهم الخلفاء الأربعة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهم-..."(البداية والنهاية)، وما زال يعددهم حتى بلغ بهم ثلاثة وعشرين كاتبًا.
***
وها هنا سؤال يطرح نفسه بشدة فيقول: إذا كان الأمر كذلك؛ وكان للقراءة والكتابة هذه الأهمية والمكانة في الإسلام، فلماذا إذًا كان نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- أميًا لا يقرأ ولا يكتب؟! فها هو جبريل -عليه السلام- يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء: "اقرأ"، فيجيبه -صلى الله عليه وسلم-: "ما أنا بقارئ"(متفق عليه) مرارًا، بل هذا القرآن الكريم يصف النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ)[الأعراف: 157]، وقائلًا: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ)[الأعراف: 158]، فما السبب وما الحكمة؟
يجيب الإمام الخازن قائلًا: "قال أهل التحقيق: وكونه -صلى الله عليه وسلم- كان أميًا من أكبر معجزاته وأعظمها؛ وبيانه: أنه -صلى الله عليه وسلم- أتى بهذا الكتاب العظيم الذي أعجزت الخلائق فصاحته وبلاغته وكان يقرؤه عليهم بالليل والنهار من غير زيادة فيه ولا نقصان منه ولا تغيير، فدل ذلك على معجزته وهو قوله -تعالى-: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى)[الأعلى: 6].
وقيل: إنه لو كان يحسن الكتابة ثم إنه أتى بهذا القرآن العظيم لكان متهمًا فيه؛ لاحتمال أنه كتبه ونقله عن غيره، فلما كان أميًا وأتى بهذا القرآن العظيم الذي فيه علم الأولين والآخرين والمغيبات دل ذلك على كونه معجزة له -صلى الله عليه وسلم-.
وأيضا فإن الكتابة تعين الإنسان على الاشتغال بالعلوم وتحصيلها، ثم إنه أتى بهذه الشريعة الشريفة والآداب الحسنة مع علوم كثيرة وحقائق دقيقة من غير مطالعة كتب ولا اشتغال على أحد، فدل ذلك على كونه معجزة له -صلى الله عليه وسلم-".
مصداق ذلك من القرآن الكريم قوله -تعالى-: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)[العنكبوت: 48]، "أي: لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس فيقول: إنما تعلم هذا من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء، مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الفرقان: 5]"(تفسير ابن كثير).
ويُلخَّص الإمام الماوردي الأمر قائلًا: "فإن قيل: ما وجه الامتنان بأن بعث نبيًا أميًا؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: لموافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء. الثاني: لمشاكلة حال لأحوالهم، فيكون أقرب إلى موافقتهم. الثالث: لينتفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعا إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها"(تفسير القرطبي).
***
وسؤال آخر يقول: لماذا قدَّم الله -عز وجل- تعليم القرآن على خلق الإنسان في قوله -تعالى-: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ)[الرحمن: 1-3]؛ ويجيب العلماء فيقولون: "فإن قيل: لم قدم تعليم القرآن للإنسان على خلقه، وهو متأخر عنه في الوجود؟ فالجواب: لأن التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه"، ويزيدون: "إشارة إلى أن الإنسان إنما خلق لأجل تلقى القرآن، ولذلك علمه البيان".
يقول ابن عثيمين -رحمه الله-: "وبدأ الله -تعالى- بتعليم القرآن قبل خلق الإنسان: إشارة إلى أن نعمة الله علينا بتعليم القرآن أشد وأبلغ من نعمته بخلق الإنسان، وإلا من المعلوم أن خلق الإنسان سابقٌ على تعليم القرآن، لكن لما كان تعليم القرآن أعظمَ مِنَّةٍ من الله -عز وجل- على العبد قدمه على خلقه".
فالقراءة والكتابة والعلم والتعلم غاية من غايات خلق الله -تعالى- للإنسان، ومحو أمية الناس وإجادتهم للقراءة والكتابة هو بوابة استفادتهم بالعلوم كلها؛ فالأمية تقف حجر عثرة في طريق التعلم، وهي من معرقلات الازدهار والتقدم.
***
وإن كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- قد تنبَّه منذ قرون طويلة لأهمية القراءة الكتابة، وكان أول ما تنزَّل من القرآن الكريم كلمة: "اقرأ"، فإن الغرب والشرق لم يتنبه لذلك إلا منذ عقود قليلة من الزمان، وجعلوا الثامن من سبتمبر من كل عام يومًا عالميًا لمحو الأمية، والإسلام يؤيد ذلك بشدة ولا يعارضه، ويروِّج له ولا ينابذه، وقد جمعنا فيما يلي -كعادتنا- بعضًا من خطب خطبائنا التي تفصِّل الأمر وتؤصِّله وتقعِّده.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم