عناصر الخطبة
1/ الموت نهاية كل حي 2/ أحداث مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته 3/ دروس وعبر من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم 4/ التعزي في المصائب بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم.اقتباس
في لحظات إغمائه.. تلك اللحظات التي ينقطع فيها كلُّ تصنُّع، ويزول فيها كل تمثيل، لو كان ثمة شيء من هذا وحاشاه.. يغمى عليه ثم يفيق، ولا يقول إلا: "أصلى الناس"؟! فيقال له: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله! ثم يغمى عليه ثم يفيق، ولا يقول إلا: "أصلى الناس"؟! فيقال له: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله! يغمى عليه ثم يفيق، ولا يقول إلا: "أصلى الناس"؟! فيقال له: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله! إنها الفريضة التي ملأت القلب همًّا! وشغلاً. إنها الفريضة التي أحبها الله، فأحبها رسوله وخليله -صلى الله عليه وسلم-،...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الموت سنةٌ ربانية، يجريها الله -تعالى- على البر والفاجر، والشقي التقي، ولو سلم منه أحد لسلم الأنبياء والرسل! ولكن هكذا يظهر الله لعباده أمارات نقصهم، وآيات كماله -عز وجل-!
وحديثنا اليوم إنما هو إطلالة على مشهد الوفاة النبوية على صاحبها -أفضل الصلاة والسلام-.
لقد عرف نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن قرب أجله بعلامات كثيرة، كان يدرك بعضها كبار أصحابه العالمون به -صلى الله عليه وسلم-، من جراء نزول آياتٍ متتابعة، كآية إكمال الدين، وسورة النصر، بل صرّح النبي -صلى الله عليه وسلم- لابنته عن قرب أجله، وأنها أول أهل بيته لحوقاً به! ولمّا كان -صلى الله عليه وسلم- يعلم الناس مناسك الحج، كان يقول لهم: "خذوا عني مناسككم؛ فلعلي لا أراكم بعد عامي هذا"!
أما سبب الموت الحسي، فمنذ تلك الوجبة اليهودية التي دُسَّ فيها السم له -صلى الله عليه وسلم-،وأثر تلك الوجبة يؤثر في جسده الطاهر -صلى الله عليه وسلم-، حتى قال - في وجعه الذي مات فيه -: "مازلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر، فهذا أوان قطعت أبهَري".
فنبينا - إذن - أحد ضحايا قتلة الأنبياء، عليهم لعائن الله وغضبه إلى يوم القيامة.
وبدأت خلايا الموت تنتشر، وآثاره تظهر، مرةً من شكوى الصداع الشديد، ومرةً من ألم في القلب، ومرةً بثقل يجده في جسده الشريف،حتى توفاه الله -عز وجل-.
ولما خُيِّر نبيكم -صلى الله عليه وسلم- بين الموت وبين البقاء في الدنيا، خطب الناس -كما في حديث أبي سعيد في الصحيحين- ، وقال: "إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله"، قال أبو سعيد -رضي الله عنه- فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا.
وفي مثل هذا الشهر من السنة الحادية عشرة ثقل المرض برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واسـتأذن أن يمرض في بيت عائشة -رضي الله عنها-، فأذنت له زوجاته، فبقي عشرة أيام أو تزيد قليلاً.
ولما شعر بعجزه عن الصلاة بالناس أمر أبا بكر أن يصلي بالناس.
وخطب الناس في آخر حياته، يعتذر من أصحابه إن كان أخطأ على أحد منهم، وطلب منهم القصاص، أو المسامحة.
وفي أثناء تلك الأيام وجد نبينا -صلى الله عليه وسلم- من نفسه مرةً خفّةً، فخرج بين الفضل بن العباس، وبين علي -رضي الله عنهما-، فخرج -صلى الله عليه وسلم- وقد انهزمت العافية في بدنه الجلد أمام سطوة المرض العاتي.
خرج.. فرأته تلك النفوس التي اهتدت به، فرأته متعباً.. فلما رآه الناس كادوا يفتتنون في صلاتهم، فلما رآه أبو يكر تأخر في صلاته، فصلى بهم النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الفجر، وكانت آخر صلاة صلاّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأمته.
ثم رجع -صلى الله عليه وسلم- إلى فراش المرض، يصارع الموت، ويعاني بداياته التي أظلّته..
وكلما وجد من نفسه خفةً كشف الستر، ليلقي بنظراته على أمته التي صنعها، وعلى الرجال الذين رباهم وأحبهم؛ وليطمئن عليهم وهم في هذه الشعيرة العظيمة - شعيرة الصلاة -.
ويشتد الكرب على نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ومع شدة وطأة الحمى، وحدة مسها، فقد ظلَّ يقظ الذهن، مهموماً بتعاليم الرسالة، ومهمة البلاغ، حريصًا على نصح أمته.
فمن على فراش الموت يؤكد الوصية بالتوحيد والتحذير من الشرك،فيقول: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجداً"!
ولما كان يخشى على أمته أن تغلبهم شهوات الغي فينسون الصلاة، أو تغلبهم شهوة الكبر فيظلمون من تحت أيديهم من الرقيق، أكَّد الوصية بهذين الأمرين فقال: "الصلاةَ وما ملكت أيمانكم"، ذلك أن "الأمة التي تستبد بالشهوات لا تصلح للحياة، ولا تصلح بها حياة، ومن اليسير أن يتركها الله تلقى جزاء ما تصنع، وهو خزي الدنيا، وعذاب الآخرة"(فقه السيرة: 466).
فلما كان في اليوم الأخير من وفاته -صلى الله عليه وسلم- كان أبو بكر يصلي للناس فكشف النبي -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة ينظر إلينا، وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر، فتوفي من يومه -صلى الله عليه وسلم-.
ولقد اشتدت عليه سكرات الموت -صلى الله عليه وسلم- قبيل وفاته، فكان يغمى عليه ثم يفيق، فكلما أفاق قال: "أصلّى الناس"؟! فيقال له: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله! ثم يغمى عليه، ثم يفيق فيقول: "أصلى الناس"؟! فيقال له: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله! فكلما أغمي عليه وأفاق، لم يسأل إلا عن الصلاة!
وتشتد عليه السكرات بأمي هو وأمي، فكان يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق".. "اللهم الرفيق الأعلى"، قالت عائشة: فكانت آخر كلمة تكلم بها "اللهم الرفيق الأعلى".
وفاضت روحه الطاهرة وهو في حجر أمنا عائشة -رضي الله عنها-، وهو يتمتم بهذه الكلمات! وانتشر خبر الوفاة! ويا له من خبر!
تقول عائشة -رضي الله عنها-: مات النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر بالسُّنح - وهي مزرعته قرب المدينة - فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال عمر -رضي الله عنه-: ولن يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبّله، قال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً، ثم خرج فقال: أيها الحالف على رِسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: "ألا مَن كان يعبد محمداً -صلى الله عليه وسلم- فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، وقال: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر: 30]، وقال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]، فنشج الناس يبكون.
فغُسِّل في ثيابه التي مات بها، ودُفن حيث مات، وصلى عليه أصحابه جماعات حتى أتموا الصلاة عليه، ثم دُفن -صلى الله عليه وسلم-.
أيها المسلمون! أحباب محمد -صلى الله عليه وسلم-:
إن الموت مصير كل حي، إلا الحي القيوم، ولقد علم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعظم هذه الفجيعة على قلوب أصحابه، وعلى قلوب الذين يحبونه حقّاً، فسلاهم بتسليةٍ تخفف وقع هذه المصيبة على قلوبهم، فقال -في الحديث الذي حسنّه بعضهم -: "يا أيها الناس! أيما أحد من الناس، أو من المؤمنين أُصيب بمصيبة فليتعَزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي".
والمهم هنا - يا أحباب محمد -صلى الله عليه وسلم- - أن نتوقف قليلاً عند دروس هذه الموتة النبوية التي ملئت دروساً وعبراً، فإن الغرض هنا ليس تجديد الأحزان، بل للوقوف عند ما هو أهم من ذلك:
1- شدة اهتمامه بالصلاة في تلك الساعات...
لقد كانت الصلاة في قلبه -صلى الله عليه وسلم- أهمّ شيء، وأعظم شيء حرص عليه أن يؤدى ويفعل.. ولقد تبدّى هذا الاهتمام في هذه الساعات في أمرين ظاهرين:
أما الأول، فهو حرصه على الصلاة جماعةً وهو في هذه الحال -حال المرض الشديد وقرب الموت- ومع ذلك يخرج يهادى بين رجلين من أصحابه، كل ذلك حرصاً على صلاة الجماعة!
أين هذا من أناس، هم في عافية من أبدانهم، وقوة من أجسامهم.. يتخلف أحدهم لأتفه سبب! فضلاً عن تخلفه بسبب تسمّره أمام شاشة! أو مسامرة لصاحب! أو لهو في تجارة!
وأما الثاني من مظاهر عنايته بالصلاة في هذا الموقف الرهيب:
فقد تبدّى في لحظات إغمائه.. تلك اللحظات التي ينقطع فيها كلُّ تصنع، ويزول فيها كل تمثيل، لو كان ثمة شيء من هذا وحاشاه ـ..
يغمى عليه ثم يفيق، ولا يقول إلا: "أصلى الناس"؟! فيقال له: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله!
ثم يغمى عليه ثم يفيق، ولا يقول إلا: "أصلى الناس"؟! فيقال له: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله!
يغمى عليه ثم يفيق، ولا يقول إلا: "أصلى الناس"؟! فيقال له: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله!
إنها الفريضة التي ملأت القلب همًّا! وشغلاً.
إنها الفريضة التي أحبها الله، فأحبها رسوله وخليله -صلى الله عليه وسلم-.
ولقد رأى الناس - من أحوال الموتى - عبراً.. فمن كان على شيء في حياته نطق به لسانه عند وفاته، فانظر بم تحب أن يختم لك؟!
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة خير أنبيائه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فمن الدروس والعبر:
2- تفقد أصحابه حتى آخر اللحظات.. قارن هذا بمن يهمل أهل بيته، وهو في صحة من بدنه، وسعة من رزقه!
وهذا ظاهرٌ جلي في خروجه في اليوم الذي مات فيه، ورفع الستر، وتفقده لأصحابه.. لصلاتهم؟ اطمئنانه على اجتماعهم.. فيراهم ويتبسم، ثم يُرخي الستر، وتكون تلك هي آخر نظرة ألقاها على أصحابه في هذه الدنيا.
قارن هذا بمن يهمل من ولاّه الله -تعالى- أمر أهل بيته.. فلا يبالي بمشاعرهم، ولا يتفقد أحوالهم.. ولا ينظر في حوائجهم، ولا يتبسم في وجوههم.
3- عدل على فراش الموت.. فمع كون العدل لا يجب عليه في قول أكثر أهل العلم، إلا أنه أبى إلا الأخذ بالأكمل.. قارن هذا بمن ينقض موازين العدل، وهو بأتم صحة!
4- ذهب الرسول وبقيت الرسالة، وذهب الداعي وبقيت الدعوة!
فدين ربكم محفوظ.. والدعوة والرسالة سفينة تبحر في عباب هذا البحر الخضم، فمن ركبها نجا، وإلا فلا يلومن إلا نفسه! والدعوة إلى الله قطار سائر لا يتوقف، فمن ركب فيه فله الشرف، وإلا...
5- لقد جلس -صلى الله عليه وسلم- على المنبر في أواخر أيامه ليخطب، ويقوم بمهمة البلاغ.. جلس على المنبر كما جلس قبل ثلاث وعشرين سنة على الصفا.. إنها الدعوة التي كانت تجري في عروقه، فلم يفتر عنها يوماً، ولم يتوقف عنها لحظة..
وهي رسالة لكل داعية في بيته، أو في مدرسته أو في عمله.. لا تقف ولو وجدت فتوراً.. فإن الداعية الحق السائر على منهج النبوة قد يفتر، لكنه لا يقف، قد يراجع نفسه،لكنه لا يتوقف!
6- وأخيراً: هذه أعظم مصيبة نزلت بالبشرية.. مصيبة لا يقدر قدرها إلا من عرف قيمة وجود محمد -صلى الله عليه وسلم- حياً، ترمقه العيون، وتسمعه الآذان!
ومع ذلك لم يجعل الصحابة -رضي الله عنهم- يوم موته مناحةً، تجدد فيه الأحزان، ولم يقيموا أسبوعاً، ولم يقيموا أربعين ولا شيئًا من تلك البدع التي أحدثها الناس!
والسؤال: لماذا لم يفعل الصحابة ذلك؟!
لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ربّاهم على أن لا يجعلوا الذاكرة خزانةً للمصائب والفواجع! لأننا لو جعلناها كذلك ما قام لنا مشروع، ولما استطعنا أن نتحرك، فلنا مصائبنا الخاصة والعامة التي أثخنت بها الأمة! وهل يصنع تجديد الحزن شيئاً؟!
بل لقد رباهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجعلوا الحياة كلها هي مشروع المستقبل.
ولذا، كان من أول ما فعله الصديق -رضي الله عنه- إنفاذ جيش أسامة، ثم قتال المرتدين! في مشاريع كبار كان لها الأثر في تثبيت دعائم الدولة الإسلامية في أول امتحان لها بعد وفاة نبيها -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم إنَّا نحتسب موت نبينا -صلى الله عليه وسلم-! اللهم فأجرنا اللهم في مصيبتنا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم