عناصر الخطبة
1/ فضله 2/ موجباته 3/ شروطه 4/ صفته 5/ سننه 6/ إسباغه 7/ الحكمة من مشروعيته 8/ مواضع يُشرع فيها 9/ أحوال الناس إزاءهاقتباس
واعلموا أن الوضوء في الإسلام شأنه عظيم، وأمره جسيم؛ ولأجل ذلك فقد شرعه الله -سبحانه وتعالى- في مواضع عدة؛ لما له من أثر في تحقيق الطمأنينة للنفس، وإخماد ثورانها؛ فقد شرع الوضوء عند الغضب؛ لأن الغضب من الشيطان المخلوق من النار، والماء من أفضل الوسائل لإخمادها؛ قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" ..
الحمد لله القوي المتين، خَلَق فسوّى، وقدَّر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وله الحكم وإليه الرُّجْعَى، يوم يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام الهدى، وصفوة الورى، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أولي الأحلام والنهى، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله-سبحانه وتعالى-، وراقبوه في السر والنجوى، وتزوَّدوا من الأعمال الصالحة في الحياة الدنيا، واعملوا صالحاً، وافعلوا الخير لعلم ترحمون.
عباد الله: الوضوء سمة من سمات الدين الإسلامي الحق الذي حرص على طهارة أتباعه طهارة حسية ومعنوية، وهو فرض من فروض الأعيان في الإسلام التي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يحرص عليها، وأن يتعلمها على الوجه المشروع، وأن يحذر من التفريط أو الإفراط فيها.
قال الله-سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة:6].
والغرة والتحجيل، وهما من آثار الوضوء-عباد الله-، من خصائص أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- التي خصها الله -تعالى- به عن سائر الأمم؛ تشريفاً لها وتتويجاً، وتطهيراً لها وتمييزاً؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غُرَّاً مُحَجَّلين من آثار الوضوء" رواه البخاري. قال أبو هريرة-رضي الله عنه-: سمعت خليلي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" رواه مسلم.
وإلى جانب كون الوضوء وسيلة من وسائل التطهر والطهارة في حياة المسلم الذي يتوضأ في اليوم والليلة خمس مرات، فهو كذلك من أعظم مكفرات الذنوب ومذهبات الخطايا والآثام؛ فقد قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة" رواه مسلم. والمكاره: تكون بشدة برودة الماء، أو حرارته، أو تألُّم الجسم منه بمرض ونحوه.
عباد الله: وإذا كان الوضوء أهم شرط لقبول الصلاة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول". فإن المحافظة عليه، والتنبه لنواقضه، وشروطه، وسننه وآدابه، علامة من علامات الإيمان الصادق في العبد المسلم؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" رواه أحمد وابن ماجه.
معاشر المسلمين: صفة الوضوء المشروع الذي جاءت به السنة النبوية المطهرة، وبينته الأحاديث النبوية الشريفة، تتلخص في أن ينوي الإنسان الوضوء لما يشرع له من صلاة، وتلاوة قرآن وطواف، ونحوها، ثم يسمِّي، ثم يغسل كفيه ثلاثاً، ثم يتمضمض ثلاثاً، ويستنشق ثلاثاً، ويغسل وجهه ثلاث مرات مع غسل لحيته، ثم يغسل يديه مع ا لمرفقين ثلاث مرات، ثم يمسح رأسه كاملاً وأذنيه مرة واحدة بالماء، ثم يغسل رجليه ثلاث مرات مع الكعبين.
وُيْشَترط لذلك كله أن يكون المتوضئ مسلماً عاقلاً مميِّزاً له نية في العبادة، وأن يكون الماء طهوراً غير نجس؛ والماء الطهور هو الماء الباقي على خلقته التي خلقه الله عليها لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه تغيرا فاحشاً، وأن يكون الماء مباحاً غير مغصوب، وأن يزيل المتوضئ قبل الوضوء ما يمنع وصول الماء إلى بشرته؛ من طين وعجين وشمع وأصباغ.
عباد الله: ومن السنن التي تراعى في الوضوء: السواك؛ ومحله عند المضمضة، وغسل الكفين ثلاثاً قبل البَدء بالوضوء، والبَداءة بالمضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه، والمبالغة فيهما لغير الصائم، وتخليل اللحية الكثيفة بالماء حتى يبلغ داخلها، وتخليل أصابع اليدين والرجلين، والتيامُن في غسل الأعضاء، والزيادة على الغَسْلة الواحدة؛ فإنَّ غسل العضو الواحد مرة واحدة هو الواجب، وما عدا ذلك سنة. وهذه السنن مكملات للوضوء، وفيها زيادة أجر ومثوبة، وتركها لا يمنع صحة الوضوء.
فإذا توضأ المسلم هذا الوضوء فقد جاز له أن يصلي، وأن يقرأ القرآن، وأن يطوف بالبيت، ولو طال الزمن على وضوئه ما لم يحصل منه ناقض من نواقض الوضوء؛ وهي: الخارج من السبيلين من بول وغائط، ومني ومذي، ودم استحاضة، وريح؛ وزوالُ العقل وتغطيته، بالنوم، أو الجنون، أو الإغماء؛ وأكل لحم الإبل قليلاً كان أو كثيراً.
هذه هي النواقض المتفقٌ عليها بين الفقهاء، فمن حصل منه شيء منها انتقض وضوؤه، ووجب عليه إذا أراد الصلاة وتلاوة القرآن أن يتوضأ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم--فيما أخرجه الشيخان-: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"، وقوله – فيمن شك هل خرج منه ريح أو لا- "فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً" رواه مسلم.
وقال -صلى الله عليه وسلم-لفاطمة بنت أبي حبيش- وكانت امرأة كثيرة الاستحاضة-: "فتوضئي وصلِّي؛ فإنما هو دم عرق"؛ أي: دم فساد؛ رواه أبو داود، والدارقطني بسند صحيح. وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح أنه أمر بالوضوء من أكل لحوم الإبل.
عباد الله: وأما الخارج من البدن من غير السبيلين؛ كالدم والرعاف، ومس المرأة بشهوة، وتغسيل الميت، وحمله، والردة عن الإسلام فموضع خلاف بين أهل العلم -رحمهم الله- هل تنقض الوضوء أم لا؟ والراجح من قولي العلماء: أنها لا تنقض، لكنَّ الوضوء منها -خروجاً من الخلاف- أحسن وأفضل؛ براءة للذمة، وحرصاً على كمال العبادة، وتحصيل الأجر.
عباد الله: وإسباغ الوضوء واجب من واجبات الوضوء، ومعناه: إتمام الوضوء باستكمال الأعضاء وتعميم كل عضو بالماء، وألا يترك منه شيئاً لم يصبه الماء؛ فقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة كقدر الدرهم لم يصبها الماء, فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، رَوى ذلك الإمام أحمد، وأبو داود، وإسناده صحيح.
ويستعجل بعض الناس فلا يسبغ الوضوء في جميع أعضائه، فربما ترى من يصلى وعقبه لم يصبه الماء؛ بل إن بعضهم ليصب الماء على رجليه صبا دون مسح لهما، أو تفقُّد لما قد يكون عالقاً بهما من وسخ وقذر، ودون اكتراث لعدد الغسلات التي أمر بها الشارع الحكيم في الوضوء، فيقعون بذلك في وعيد النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "ويل للأعقاب من النار" متفقٌ عليه.
ويخطئ في الفهم -عباد الله- مَن يظن أن معنى إسباغ الوضوء كثرة صب الماء على الأعضاء؛ فترى أحدهم يتوضأ بما يعدل بِرْكة ماء؛ مسرفاً في الماء، مضيعاً له، وقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت عنه يتوضأ بالمُدِّ، ويغتسل بالصاع. والمُدُّ: ملء كفَّي الإنسان المعتدل إذا ملأهما، ومد يده بهما.
ومعنى الإسباغ المأمور به شرعاً تعميم العضو المغسول بجريان الماء عليه كله، أمَّا كثرة صب الماء فهذا إسراف مذموم نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- وحذر منه؛ فقد مرّ -صلوات الله وسلامه عليه- بسعد -رضي الله عنه- وهو يتوضأ، فقال: "ما هذا السرف؟". قال: أفي الوضوء إسراف؟! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "نعم، ولو كنت على نهر جارٍ" رواه أحمد وابن ماجه.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، وقال: "هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلَم" رواه أحمد والنسائي، وسنده صحيح.
وكم شكا الناس من قلة المياه، وتضجروا من تكاليفها الباهظة في بعض المواسم، وهم الجناة عليها بالإسراف فيها، وعدم المحافظة عليها! حتى إن بعض البيوت والحارات لتجري منها الفيضانات المدمرة، والسيول العارمة، والسماء صحو لم تمطر بقطرة واحدة؛ من كثرة ما يستهلك فيها من المياه، ويضيع، فالله المستعان!.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعاً بهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله -تعالى- فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واعلموا أن الوضوء في الإسلام شأنه عظيم، وأمره جسيم؛ ولأجل ذلك فقد شرعه الله -سبحانه وتعالى- في مواضع عدة؛ لما له من أثر في تحقيق الطمأنينة للنفس، وإخماد ثورانها؛ فقد شرع الوضوء عند الغضب؛ لأن الغضب من الشيطان المخلوق من النار، والماء من أفضل الوسائل لإخمادها؛ قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا غضب أحدكم فليتوضأ".
وقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يتوضأ وضوءه للصلاة عند نومه، وقال -صلى الله عليه وسلم- للبراء بن عازب -رضي الله عنه-: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة" رواه البخاري.
ويشرع الوضوء -كذلك- عند الأكل لمن كان جنباً من جماع ونحوه؛ قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة. رواه مسلم.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ؛ فإنه أنشط لِلعَوْد" رواه مسلم.
والوضوء مشروع للعائن ليصبه على من عانه؛ فقد اغتسل أبو سهل بن حنيف، فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعه ينظر، وكان سهل رجلاً أبيض حسن الجلد، فقال له عامر: ما رأيت كاليوم، ولا جلد عذراء! فوعك سهل مكانه، فأُخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقال: "علام يقتل أحدكم أخاه؟! ألا برَّكْتَ عليه، إن العين حق، توضأ له". فتوضأ له عامر، فراح سهل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم . رواه مالك.
عباد الله: ومع شرف الوضوء في الإسلام ومكانته وثوابه ويسره وسهولته، وعناية الإسلام به في مواطن شتى إلا أن الناس فيه طرَفان ووسط؛ فطرَف فرطوا في الوضوء، لا يقيمون له وزناً، لا أحكاماً ولا سنناً ولا واجبات له يحافظون عليها أو يتعلمونها، وربما استحل بعضهم الصلاة وتلاوة القرآن وهو غير طاهر من الحدث ونحوه؛ بل لم يجزم بعضهم بعد بوجوب الوضوء للصلاة.
وطرَف ثانٍ من الناس أفرطوا في الوضوء، فترى أحدهم يتوضأ للصلاة الواحدة عشرات المرات، كلما خرج يريد الصلاة وسوس له الشيطان أن وضوءك غير تام، أو أنه انتقض، فيمكث الساعات الطوال في دورات المياه، وقد تفوته الصلاة مع الجماعة وهو معذب باستعمال الماء ووسوسة الشيطان.
وطرَف ثالث وسط، يحافظون على الوضوء بصفته الشرعية التي أمر الشارع بها دون إفراط أو تفريط، وهؤلاء هم أولى الناس بالفوز بالنجاة يوم القيامة؛ إذ يبعثون غراً محجلين من آثار الوضوء.
اللهم صَلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم