عناصر الخطبة
1/ الحث على الوصية 2/ فضلها 3/ بعض أحكامها 4/ ثمراتها 5/ التحذير من وصية الجنف والإثم والمضارة 6/ من صور الإضرار بالوصية 7/ واجب الأوصياءاقتباس
يجب علينا أن نقف مع المدلول الواضح للحديث الذي رواه ابنُ عمرَ -رضي الله عنهما-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما حق امرئ مسلم، له شيء يريد أن يوصيَ فيه، أن يبيت ليلتين -وفي رواية: ثلاثَ ليالٍ- إلا...
أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله وعظموا أمره، واجتنبوا ما يسخطه، وخذوا من أيامكم عبراً، واستوصوا بأنفسكم وأهليكم خيراً.
أيها الأحبة: ابنُ آدم يتقلب في هذه الحياة ما أَمَدَّ الله له من العمر بين الطفولة والشباب، والكهولة والهرم، يمر خلالها بأحوال من العسر واليسر، والفقر والغنى، والحزن والسرور، والصحة والمرض، والقوة والضعف.
وهو -في كل الأحوال- بحاجة إلى التَذكُرِ والتذكير، وبحاجةٍ إلى التوبة النصوح، وإحسان الظن بربه، متقلباً بين الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) [الحجر:49-50]، وقال: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر:9]
أيها الإخوة: الصدقة في حال الحاجة والصحة أفضل منها عند الممات، كما قرر أهل العلم ذلك كثيرا؛ لكن الإنسان ربما غلبه التسويف أو طول الأمل فأخر، لكن؛ ليعلم أن أمر الشارع الحكيم وحثه على الإنفاق في سبل الخير مستمر في كل حال ليستدرك المسلم ولو في آخر حياته ما فاته من فُرص الصدقة في الحال الأفضل.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ" رواه ابن ماجة وحسنه الألباني.
وعن إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْد بن أبي وقاص عَنْ أَبِيهِ قَالَ: عَادَنِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلا يَرِثُنِي إِلا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ؛ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: "لا"، قُلْتُ أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: "لا", قُلْتُ: فَالثُّلُثِ؟ قَالَ: "وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إِنَّكَ أنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ" متفق عليه واللفظ للبخاري.
أيها الإخوة: لقد ورد الحث على الوصية إذا وجد مقتضاها، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ -وفي رواية ثلاثَ ليالٍ- إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ".
قال نافع: سمعت ابن عمر يقول: ما مرت علي ليلة منذ سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك إلا وعندي وصيتي مكتوبة. متفق عليه.
وقال الإمام الشافعي: من صواب الأمر للمرء أن لا تفارقه وصيته.
أيها الأحبة: من لزمته حقوق شرعية لله، أو لعباد الله، من زكوات وكفارات وديون وودائع وأمانات؛ فليسارع في أدائها، وليبادر في قضائها مادام قادرا على الأداء، متمكنا من القضاء.
وإلا فليوص بذلك وصيةً واضحةً في لفظها ومعناها، مجودة في كتابتها، عادلة في شهودها؛ من أجل أن تحمد سيرته، وتحفظ حقوقه ولا يبقى أهله من بعده في منازعات، ويلقى الله -عز وجل- وقد أدى ما عليه، وأبرأ ذمته، وابيضت صحيفته، وحسنت بإذن الله خاتمته، وخفّ في الآخرة حسابه.
ومن قصَّر فقد أهمل في براءة ذمته؛ وليعد للسؤال جوابا.
أحبتي: من لم تكن عليه حقوق، ولا تلزمه واجبات، وله ورثةٌ محتاجون وذريةٌ ضعفاء، فليبدأ بهم، ولا يقدِّم عليهم وصيته؛ لأنهم أولى بمعروفه، وأحق بماله، وأعظم في ثوابه؛ ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام- لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: "إِنَّكَ إنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ".
وعن جابر -رضي الله عنه-:" أن رجلاً تصدق على قوم فقال له: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ، فَهَكَذَا وَهَكَذَا؛ يَقُولُ فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ". رواه مسلم.
أما من فاض مال الله عنده، وبسط الله له في الرزق، ووسع له فيه؛ فليدخر لنفسه عملاً صالحاً، وصدقة جارية، يمتد له ثوابها.
وليبدأ بالأقربين من غير الوارثين، فهم أحقُ ببره، وأولى بفائض ماله، حتى لا يتعرضوا لمهانة الفقر، وذل الحاجة.
ولذلك قال النبي الرحيم -صلى الله عليه وسلم- لأبي طلحة -رضي الله عنه-: "اجعلها في الأقربين؛ لأنها عليهم صدقة وصلةٌ".
واعلموا -وفقكم الله- أن وجوه البر كثيرة، من فقراء الأقارب غير الوارثين كما سبق، وعمارة المساجد وخدمتها، وبناء الأربطة والمساكن للمحتاجين، وقضاء ديون المعسرين، والصدقة على المحتاجين، والإنفاق على طلبة العلم، وتعليم القرآن، وسقي الماء، وتعبيد طرق المسلمين، وطبع الكتب المفيدة ونشرها، وغيرها، وأبواب البر -بفضل الله- واسعة، ووجوهها لا تنحصر.
ومما يجب التفطن له أن الوصية يجب أن تكون بالحدِ المُحددِ شرعا وهو الثلث، فقد قال النبي لسعد: "الثلث، والثلث كثير". قال شيخنا محمد بن عثيمين معلقا على الحديث: يعني لا بأس بالثلث مع أنه كثير.
ومن فقه ابن عباس أنه قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ فإن النبي قال: الثلث كثير، وهذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون أنزل من الثلث.
أيها الأحبة: يجب علينا أن نقف مع المدلول الواضح للحديث الذي رواه ابنُ عمرَ -رضي الله عنهما-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما حق امرئ مسلم، له شيء يريد أن يوصيَ فيه، أن يبيت ليلتين -وفي رواية: ثلاثَ ليالٍ- إلا ووصيتُه مكتوبةٌ عنده".
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- معلقا على هذا الحديث:" َفِي الْحَدِيث مَنْقَبَة لابْنِ عُمَر لِمُبَادَرَتِهِ لامْتِثَالِ قَوْل الشَّارِع وَمُوَاظَبَته عَلَيْهِ، وَفِيهِ النَّدْب إِلَى التَّأَهُّب لِلْمَوْتِ وَالاحْتِرَاز قَبْل الْفَوْت، لأنَّ الإنْسَان لا يَدْرِي مَتَى يَفْجَؤُهُ الْمَوْت، لأَنَّهُ مَا مِنْ سِنّ يُفْرَض إلا وَقَدْ مَاتَ فِيهِ جَمْع جَمّ؛ وَكُلّ وَاحِد بِعَيْنِهِ جَائِز أَنْ يَمُوت فِي الْحَال، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُون مُتَأَهِّبًا لِذَلِكَ فَيَكْتُب وَصِيَّته، وَيَجْمَع فِيهَا مَا يَحْصُل لَهُ بِهِ الأَجْر وَيُحْبِط عَنْهُ الْوِزْر مِنْ حُقُوق اللَّه وَحُقُوق عِبَاده، وَاَللَّه الْمُسْتَعَان".
أيها الإخوة: إن على كل واحد منا أن يخرج من حقوق عباد الله حال حياته، وعليه المبادرة ما وسعه ذلك، وأن يقوم بتوثيقه وكتابته.
وأقترح أن يجعل كل مسلم دفترا خاصا به يقيد فيه ماله وما عليه، ويتابع تصحيحه باستمرار، وقد كان كثير من الآباء والأجداد يفعل ذلك، مع أنهم لا يجيدون الكتابة، فيبحثون عمن يثقون به لكتابتها. فمالنا في عصر العلم وسهولة التوثيق نتكاسل؟ أسأل الله أن يوفقنا لاتباع السنة؛ إنه جواد كريم.
أيها المؤمنون بالله ورسوله: ليخرج كل واحد منا من هذا المسجد وهو عازم كل العزم على أن يكتب وصيته ولا يسوف، وعليه أن يراجعها باستمرار، ويصحح ما يطرأ عليها، وأن يطلب ذلك من صاحب علم وبصيرة.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا ووالدينا من الراشدين، إنه جواد كريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الإخوة: احذروا وصية الإثم والجَنف، وإياكم والمضارة بالوصية، فقد نهى عنها -تبارك وتعالى- بعد ذكر بعض أحكام الميراث فقال: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) [النساء:12].
قال ابن كثير رحمه الله: أي: لتكون وصيته على العدل، لا على الإضرار والجور والحيف، بأن يحرم بعض الورثة، أو ينقصه، أو يزيده على ما قدرَ الله له من الفريضة، فمتى سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمته وقسمته.
ودعا الرسول على من ضار المسلمين عموماً، فكيف بمن ضار ذوي قرباه؟ فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ، مَنْ ضَارَّ ضَارَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ" رواه الدارقطني وحسنه الألباني.
سبحان الله أيها الإخوة! كيف يتجرأ هذا المخذول ليضار في وصاياه، وهو في حالة إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة؟ في حال يصْدق فيها الكذوب، ويتوب فيها الفاجر! وأي قسوة أشد من هذه القسوة؟! فنعوذ بالله من الخذلان.
في الوصية الجنف يغلبُ الجشعُ، ويحلُ الطمع، ويضيعُ الحلال، وإن ربك لبالمرصاد! ألا وإن من جار في وصيته وظلم مات على جهالة، وسلك مسالك الضلالة.
ومن صور الإضرار بالوصية أن يقرَّ بكلِّ ماله أو بعضه لغير مستحقٍّ، أو يُقِرَّ على نفسه بدين لا حقيقة له من أجل أن يمنع الوارث من حقِّه، أو يبيع شيئاً بثمنٍ بخسٍ، أو يبيع بيعاً صورياً، أو يشتري بثمنٍ فاحشٍ من أجل أن يضر بالورثة ويمنعهم حقوقهم أو يبخسها، ومنها تخصيص أحد الورثة بشيء دون الآخرين. نسأل الله العافية والسلامة.
قال الشيخ السعدي: ليس للعبد أن يتصرف في ماله بمقتضى شهوته النفسية وهواه، بل عليه أن لا يخالف الشرع، ولا يخرج عن العدل. اهـ.
ولا تصح الوصية في الأمور المبتدعة، والمسائل المحرمة، كالنياحة، والبناء على القبور، وتجصيصها، والدفنِ في المسجد أو في بيت خاصٍ. ذكر ذلك فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم رحمهم الله.
ومما يجب أن يعتني به الأوصياء الحرص على تنفيذ الوصية الشرعية، وعدم جحدها أو إخفائها، وإن كانت الوصية من والد صار تنفيذها من البر.
وصلوا وسلموا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم