عناصر الخطبة
1/من مظاهر رحمة الله بعباده المؤمنين 2/الحث على اغتنام ليلة القدر 3/تعريف الاعتكاف وبيان بعض فضائله 4/الوصية بالتزود من النوافل وشتى الطاعاتاقتباس
تلك الليلة الموعودة المشهودة، سجَّلَها القرآنُ الكريمُ في سِجِلِّ الخلودِ، وإنَّما أُخفيت ليلةُ القدرِ كما أُخفِيَتْ ساعةُ الجمعةِ رحمةً بهم؛ ليجِدُّوا في العبادة، ويجتهدوا في طلبها بالصلاة والذِّكْر، والدعاء والتضرع إليه -جل جلاله-، فيزدادوا قربًا وثوابًا من الله -عز وجل-...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله مقدِّر الأقدار، خلَق فقدَّر، وشرَع فيَسَّرَ، مكوِّر الليل على النهار، العزيز الباقي، القاضي بالزوال على أهل هذه الدار؛ ليَدُلَّنا على أنَّ لكل نازِل رحيلًا وانتقالًا، اختار لنا من أيام دهرنا نفحات نتعرض فيها لنسائم رحمته، وعزائم مغفرته، وجزيل عطاياه، في مواسم فاضلة، يخلف بعضها بعضا؛ لنتوب إليه ونستغفره، ونذكر آلاءه فنشكره.
وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، وصَفِيُّه من خَلقِه وخليلُه، وأصلي وأسلم عليه، وعلى آله وصحابته، والتابعين لهم وعنا معهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ، فيا أيها المسلمون: أحسِنوا الظنَّ بربِّ العالمينَ، ولا تقنطوا من رحمة الله؛ فهو رحمن رحيم، وعليكم بالطاعة والتقوى؛ فهُمَا الطريق الموصِل إلى عتبة الله الرحمن الرحيم، الذي تتجلَّى رحمته -سبحانه وتعالى- في قوله -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)[الْأَعْرَافِ: 156].
ومن رحمته ستره -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين عند الحساب، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "سمعتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: إِنَّ اللَّهَ -عز وجل- يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، وَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى في نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ، فَـ(يَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[هُودٍ: 18]"(رواه البخاري ومسلم).
عبادَ اللهِ: إنَّ شهرَ رمضانَ شهرٌ عظيمٌ حقًّا، شرَّف اللهُ -تبارك وتعالى- به هذه الأمةَ المُحمديَّةَ، وجعَل فيها حدثًا عظيمًا يتكرَّر في حياة الإنسان في كل عام مرة؛ إنها ليلة القدر، وهي في العشر الأواخر من رمضان على وجه القطع واليقين، وفي أوتارها آكَدُ، قال عليه الصلاة والسلام: "تحرَّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر"(رواه البخاري).
وقد قضى الخالق -عز وجل- أن يكون كلُّ عمل من أعمال الخير والعبادة والذِّكر في هذه الليلة بقدر جزاء من عمل ثلاثًا وثمانين سنة، وهي ألف شهر؛ لأن ليلة القدر خير من ألف شهر، وقد أنزل الله في شأنها كتابًا ذا قدر، بواسطة ملك ذي قدر، على لسان رسول ذي قدر، لأمة ذات قدر، ولأنَّه يقدر فيها ويفرق فيها كل أمر حكم، من أتى فيها بالطاعات صار ذا قدر وشرف عند الله -عز وجل-، قال -تبارك وتعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[الْقَدْرِ: 1-5].
تلك الليلة الموعودة المشهودة، سجَّلَها القرآنُ الكريمُ في سِجِلِّ الخلودِ، وإنَّما أُخفيت ليلةُ القدرِ كما أُخفِيَتْ ساعةُ الجمعةِ رحمةً بهم؛ ليجِدُّوا في العبادة، ويجتهدوا في طلبها بالصلاة والذِّكْر، والدعاء والتضرع إليه -جل جلاله-، فيزدادوا قربًا وثوابًا من الله -عز وجل-، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تَقدَّمَ مِنْ ذَنبِهِ"(رواه البخاري).
وعلينا أن نُكثِرَ فيها من قول: "اللهُمَّ إنكَ عفوٌّ تُحِبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي"، كما ثبَت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حديثِ أُمِّ المؤمنينَ عائشةَ -رضي الله عنها-، وهي من جوامع كلمه -عليه الصلاة والسلام-، فإذا حصل العفو من الله للعبد أعطاه ما ينفعه، وصرَف عنه ما يضره؛ فاتقِ الله -أيها المسلم- ولا تُفوِّت فُرَصَ حياتك، واقتدِ بالصفوة المطهَّرة -صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا-، فقد كان يجتهد فيها فوق ما كان يجتهد في غيرها في ليالي رمضان؛ يشدّ مئزرَه، ويوقظ أهله.
وكان من هديه -عليه الصلاة والسلام- في هذه العشر الاعتكاف، وفِقْهُهُ: حبسُ النفسِ على عبادةِ اللهِ -سبحانه وتعالى- والأُنسِ به، وقَطْعُ العلائقِ عن الخلائق، وإخلاءُ القلب مِنْ كل ما يشغل عن ذكر الله -عز وجل-؛ فاتقوا الله -عباد الله- وتعرضوا لنفحات الجواد المنان -جل جلاله-، وقفوا عند باب الواحد الكريم، وتوجهوا إلى الرؤوف الرحيم، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفثه، بسم الله الرحمن الرحيم: (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الدُّخَانِ: 1-6].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من البيان والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولكافة المسلمين، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد للهِ الذي تفضَّل على الصائمينَ بتوفيةِ الأجورِ، وجعَل الصيامَ جُنَّةً من سهام الفجور، نحمده على أَنْ هيَّأ لنا أسبابَ النجاةِ يومَ النشورِ، وأوضَح لنا سبلَ الخيرِ وطرقَ الشرورِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، ختَم به الرسالةَ، وأتمَّ به الهدايةَ، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ، عبادَ اللهِ: فاتقوا الله -تبارك وتعالى- حق التقوى، ورَاقِبُوه في السِّرِّ والنَّجْوَى.
إخوةَ الإسلامِ: عن عبد الله بن قيس أَنَّهَ سَمِعَ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- وَذُكِرَ عِنْدَهَا قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِذَا أَدُّوا الْفَرَائِضَ لَا يُبَالُونَ أَنْ يَتَزَيَّدُوا، فَقَالَتْ: "لَعَمْرِي لَا يَسْأَلُهُمُ اللَّهُ إِلَّا عَمَّا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يُخْطِئُونَ بِالنَّهَارِ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ مِنْ نَبِيِّكُمْ وَنَبِيُّكُمْ مِنْكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ، إِلَّا أَنْ يَمْرَضَ فَيُصَلِّي وَهَوَ جَالِسٌ، ثُمَّ نَزَعَتْ -أي: جاءت- بِكُلِّ آيَةٍ في الْقُرْآنِ يُذْكَرُ فِيهَا قِيَامُ اللَّيْلِ"(رواه المروزي في قيام الليل).
فاللهَ اللهَ عبادَ اللهِ، جاهِدوا النفسَ على طاعةِ اللهِ وصابِرُوها واربحوا هذه الأعمارَ بصالح الأعمال، واغتنِمُوا الأزمنةَ الفاضلةَ، بفعلِ الخيراتِ، وتركِ المنكَراتِ، والمسارَعةِ إلى فعل الطاعات قبل فوات الأجل.
اللهمَّ وفِّقْنا لقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، واكتب لنا فيها ما كتبتَه لعبادكَ الصالحينَ، وأَعِنَّا على شُكرِكَ وذِكرِكَ وحُسْنِ عبادتِكَ، وقِنَا شرورَ أنفسِنا، وسيئاتِ أعمالِنا، وارحَمْ ضَعفَنا وتقصيرَنا، واكفِنا كلَّ أمرٍ يَهُمُّنا، ولا تُشمِتْ بنا الأعداءَ ولا الحاسدينَ.
اللهُمَّ أنجِ المستضعَفينَ من المسلمين في فلسطين، اللهُمَّ اشدد وطأتك على اليهود الغاصبين، اللهُمَّ اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتك في عهد من خافك واتقاك يا أكرم الأكرمين، اللهُمَّ وفق إمامنا وولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، بتوفيقك، وأيدهما بتأييدك، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى، وهيئ لهما البطانة الصالحة الناصحة، التي تدلهما على الخير وتقربهما منه، واجزهم وحكومتهم والقائمين على الحرمين خير الجزاء، على رعاية الحرمين، وخدمة ضيوف الرحمن من حجاج ومعتمرين ليؤدوا نسكهم براحة وأمن وأمان.
اللهُمَّ يا قويُّ يا عزيزُ، احفظ جنودَنا المرابطينَ على الحدود، اللهُمَّ تقبَّلْ شهداءهم، واشفِ مرضاهم، ووفِّقْنا اللهُمَّ لحُسْنِ الصلاةِ والتسليمِ على النبي الكريم، كما أمرتَنا بذلك في كتابِكَ المبينِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهُمَّ صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آله إبراهيم إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وبَارِكْ على محمد، وعلى آله محمد، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وأَقِمِ الصلاةَ؛ (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم