الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء

الشيخ عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت

2023-02-10 - 1444/07/19 2023-03-14 - 1444/08/22
عناصر الخطبة
1/سرد حديث بدء الوحي 2/نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم 3/حسن تصرف خديجة رضي الله عنها 4/سبب البعثة النبوية 5/تأملات في ضمة جبريل للنبي 6/أهمية المرأة الصالحة في حياة الرجل.

اقتباس

فالقراءة وسيلة للتعلم، والعلم وسيلة لمعرفة الله وقبول العبادة، فالله يُعبَد بالعلم وليس بالجهل، فاجتهدوا مع أبنائكم في طلب العلم والمعرفة، واحرصوا غاية الحرص على التربية والأخلاق؛ لأن القراءة باسم الله لا تكون إلا مصحوبةً بالتخلق بهذا العلم...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسولُ الله.

 

نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضلَ رُسلك، وأنزلت علينا خيرَ كُتبك، وشَرعت لنا أفضلَ شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرِّضا.

 

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون: فقد رأينا في الخطبتين السابقتين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بلغ التاسعة والثلاثين من عمره كان يخلو بغار حراء، وكان قبل مبعثه -صلى الله عليه وسلم- بستة أشهر بُدئ بالرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.

 

وبينما هو في إحدى خلواته في غار حراء جاءه جبريل -عليه السلام- بالوحي من ربه وهذا موضوع خطبتنا اليوم؛ مفتتحين بها الكلام عن حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- من البعثة إلى الهجرة؛ وهو عنوان السلسلة الثالثة، فكيف كان نزول الوحي عليه -صلى الله عليه وسلم- لأول مرة؟ وفي أي زمان ومكان كان هذا؟ وما سبب بعثته -صلى الله عليه وسلم-؟ مع فوائد أخرى نذكرها:

 

عباد الله: روى البخاري في صحيحه، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: "أول ما بُدِئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد الليالي ذوات العدد- قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، -أي: كيف أستطيع القراءة وأنا أمِيٌّ لا أقدر عليها ولا علم لي بها؟- قال: فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجَهد -أي: أمسك به جبريل واحتضنه وضمه ضمةً شديدةً- ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني، فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) حتى بلغ (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[العلق: 1 - 5].

 

 فكانت أولى الآيات نزولاً على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤاده -وفي رواية بوادره: جمع بادرة؛ وهي اللحمة التي بين الكتف والعنق تضطرب عند الفزع-، فدخل على خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- فقال: "زملوني زملوني" -أي: غطوني بالثياب ولفوني بها-؛ فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى ابن عم خديجة -أخي أبيها- وكان امرأً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمِيَ، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس -أي: جبريل- الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا -أي: شابًّا- ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أو مخرجيَّ هم؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِيَ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم ينشب ورقة أن تُوفِّيَ وفتر الوحي"(رواه البخاري:3، ومسلم:160).

 

ولنا مع هذا الحدث ثلاث وقفات:

الوقفة الأولى: مكان وزمان وقوع حدث البعثة:

المكان غار حراء، وقد سبق الحديث عنه عند الكلام عن تحنث النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، والزمان يوم الاثنين؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: "ذلك يوم وُلدت فيه، ويوم بُعثت، أو أُنزل عليَّ فيه"(رواه مسلم: 1162).

 

وكان ذلك في شهر رمضان لقوله -تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)[البقرة: 185]، وكان عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين سنةً؛ لقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "بُعِثَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأربعين سنةً"(رواه البخاري: 3902).

 

فنستفيد نحن شرف زمن البعثة النبوية فقد كانت يوم الاثنين في رمضان، ولذلك خصهما الشرع بالصيام والمزيد من الطاعات، أما شرف المكان، فلم يتعلق به فضيلة، لا في الحج ولا غيره، فمن رزقه الله الذهاب للحج، فلا يُتعب نفسه في زيارة غار حراء، ويتكلف الصعود إليه، ويفوّت على نفسه حضور صلاة الجماعة في الحرم، وهي التي يتعلق بها طلب الشارع وترغيبه فيها، فالصلاة الواحدة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف في غيره.

 

الوقفة الثانية: سبب البعثة:

بعد حديثنا الطويل عن حال الناس في الجاهلية في السلسلة الأولى، اقتضت حكمة الله إرسال رسول خاتم ليُبدِّد به ظلمات الكفر والطغيان؛ حيث اختاره الله -تعالى- نبيًّا له ورسولًا في الأرض، ونورًا يهدي به إلى الطريق المستقيم ثم إلى الجنة؛ وقد وصفه الله بذلك فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[المائدة: 15، 16].

 

 فكانت بعثته -صلى الله عليه وسلم- والنور الذي جاء به حجة على الناس، فمن تبِعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، وهكذا -أيها الإخوة المؤمنون- وجب على الذين يقومون مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية المعاصرة، من الدعاة والعلماء، بل وجب علينا جميعًا كل من موقعه؛ القيام ببعثة جديدة تقوم على تجديد الحق والدين الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- في نفوس الناس، وتذكيرهم بالوحي الذي جاء به ونشره بينهم وإحياء سننه؛ حتى تعود الأمة إلى سابق رشدها، وتأخذ الريادة من جديد.

 

فاللهم اجعلنا من أتباعه إلى أن نلقاك يا رب العالمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى.

 

أما بعد: فقد رأينا في الخطبة الأولى حدث بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومكان وزمان وسبب هذه البعثة المباركة، ونختم بجملة فوائد من الحديث السابق؛ وهي الوقفة الثالثة، وأكتفي بثلاث فوائد منه:

 

الأولى: لماذا كان جبريل يضم النبي -صلى الله عليه وسلم- ضمةً شديدةً، حتى بلغ منه أقصى ما تتحمله الطاقة البشرية؟ فعل ذلك؛ إيناسًا له، وتقويةً لنفسه، وتنشيطًا لقلبه على تلقي الوحي الإلهي؛ لأن هذا الوحي –أيها الإخوة– ثقيل؛ قال -تعالى-: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)[المزمل: 5].

 

ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- حصلت له من الرعدة من شدة هول الأمر وثقله؛ قال ابن جرير الطبري: "إن الله وصفه بأنه قول ثقيل، فهو كما وصفه به ثقيل مَحْمله، ثقيل العمل بحدوده وفرائضه"، فالقرآن قول ثقيل في أن تحفظه وتحافظ على المحفوظ، فهو أشد تفلتًا من الإبل في عقالها؛ كما أخبر الحبيب -صلى الله عليه وسلم-.

 

فجَاهِد نفسك على حِفْظ ما تيسر، وإذا حفظت جاهد نفسك على حفظ المحفوظ، وإذا حافظت عليه جاهد نفسك لفهمه، أو اسأل العلماء عن معانيه، وإذا فهمت، فجاهد نفسك للعمل به، وليس أثقل على النفس من العمل ومخالفة هواها، كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد خشيت على نفسي"؛ أي: ألَّا أطيق حمل أعباء الوحي؛ لأنها أمانة ليست بالسهلة، وفيها تكاليف، وقد نأت عنها السماوات والأرض؛ قال -تعالى-: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[الأحزاب: 72].

 

والثانية: في الأمر بالقراءة: فكان أول ما نزل عليه الأمر بالقراءة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)[العلق: 1]؛ فالقراءة وسيلة للتعلم، والعلم وسيلة لمعرفة الله وقبول العبادة، فالله يُعبَد بالعلم وليس بالجهل، فاجتهدوا مع أبنائكم في طلب العلم والمعرفة، واحرصوا -رحمكم الله- غاية الحرص على التربية والأخلاق؛ لأن القراءة باسم الله لا تكون إلا مصحوبةً بالتخلق بهذا العلم؛ حتى يكون نافعًا وحجةً للمتعلم لا عليه.

 

والثالثة: أهمية المرأة الصالحة في حياة الرجل؛ ويتجلى ذلك في موقفين لخديجة -رضي الله عنها-:

 

الأول: في التخفيف عن زوجها فيما نزل به وتذكيره بفضله؛ فقالت: "كلا، لا خوف عليك، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا"، ولن يضيعك، ثم جعلت تهوِّن عليه ما هو فيه، فقالت: والله إنك لتصل الرحم، بالإحسان إلى أقربائك، وتصدق الحديث، فلا تكذب، وتُعرف بالصادق، وتحمل الكَلَّ، وهو الضعيف المنقطع، واليتيم، وتتبرع بالمال لمن عدمه، وتعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، وتكرم الضيف وتهيئ له طعامه ونزله، وتعين على نوائب الحق، والنوائب جمع نائبة؛ وهي ما ينزل بالإنسان من المهمات، وأُضيفت إلى الحق لأنها تكون في الحق والباطل، وهذه الخصلة جامعة لما سبق من الخصال وغيرها، ونفهم أن مكارم الأخلاق سبب للسلامة من المكاره.

 

والثاني: في البحث معه عن حلول؛ ولذلك صحبته إلى ورقة بن نوفل الذي تنصَّر وعنده علم أهل الكتاب، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيكون نبي هذه الأمة؛ إذ جاءه مَلك الوحي، وتمنَّى نصرته لو كان شابًّا حينما يخرجه قومه، ونفهم أن من تمنى الخير فله أجره وإن لم يعمله.

 

وأخبره بسنة من سنن الله في ابتلاء الأنبياء والدعاة إلى الله، ومنها ما سيلاقيه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأذى، فصدق في استشارته؛ وهكذا على المستشار أن يكون أمينًا، فلتكن زوجاتنا عونًا لأزواجهن على مصاعب الحياة ولتكن خديجة قدوةً لهن.

 

فاللهم اجعلنا ممن ينتفعون بالقرآن الكريم، واجعلنا من أهله، واجعله حجةً لنا يا رب العالمين، آمين.

 

 

المرفقات

الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء.doc

الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات