الواصلون

الشيخ عبدالعزيز بن محمد النغيمشي

2021-10-01 - 1443/02/24 2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/من منازل العبودية 2/من مظاهر صلة ما أمر الله به أن يوصل 3/ثمرة وصل ما أمر الله به أن يوصل

اقتباس

عبدٌ وَصَلَ حَقَّ اللهِ, فلا يُؤَخِرُ أمراً قَدَّمَهُ اللهُ ورسُولُه، ولا يُقَدِّمُ أَمْراً أَخَرَهُ اللهُ ورسولُه، لا يُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لا يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى، إذا قضى اللهُ ورَسولُهُ أمراً لَمْ يَكُنْ لَه الخيرةُ مِن أمرِه...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

أيها المسلمون: ميثاقُ العبوديةِ مِيثاقٌ مَتين, طاعةٌ لله واستجابة، وخضوعٌ لَه وانقياد, استسلامٌ لله تامٌّ، وعبوديةٌ لَه خالِصَة, عبدٌ أدركَ شَرَفَ تحقيقَ العبوديةِ لله, فهو في بـَحْبُوْحَتِها يتَقَلَّب, متذللٌ للهِ يَسْعَى في رضاه، يبتغي فوزاً أكيداً يوم يأتي للقاه.

 

ولا يزالُ العبدُ يَرْتَقِيْ في منازلِ العبوديةِ حتى يُكونَ للهِ ولياً, وَمِنْ أَكْرَمِ صِفَاتِ أَوْلِياءِ اللهِ المؤمنين صِلَةُ ما أمر اللهُ به أن يُوصَل, واصِلٌ, إنْ قامَ داعي الوَصْلِ يدعو, واصِلٌ, قادَهُ دِيْنٌ وشَرْعٌ, واصِلٌ في زُمَرِ الواصلين قد أمضى مَرَاكِبَهُ؛ (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ)[الرعد: 21], لَهم وَعْدٌ يوم القيامةِ لَنْ يُخْلَفْ؛ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ)[الرعد: 23].

 

واصلٌ ما أمر اللهُ به أن يُوصَل, وأعظمُ الحقوقِ وَصْلاً حَقُّ رَبِّ العالمين، توقيرٌ للهِ وإجلال، وطاعةٌ لأمرِه وامتثال، واتِّباعٌ لهدي رَسولِهِ دونَ انتقاصٍ ولا إخْلال؛ (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)[النساء: 80], يَعبُدُ ربَّه على بصيرةٍ كما أرادَ اللهُ وأمَر, لا تَتِيْهُ بِهِ الدُّرُوبُ، ولا يَـمِيْلُ بِهِ الهوى. 

 

عبدٌ وَصَلَ حَقَّ اللهِ, فلا يُؤَخِرُ أمراً قَدَّمَهُ اللهُ ورسُولُه، ولا يُقَدِّمُ أَمْراً أَخَرَهُ اللهُ ورسولُه، لا يُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لا يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى، إذا قضى اللهُ ورَسولُهُ أمراً لَمْ يَكُنْ لَه الخيرةُ مِن أمرِه.

 

واصلٌ حقَّ اللهِ, فلا يُحبُ إلا فيه، ولا يُبْغِضُ إلا فيه، ولا يُوَالي إِلا فيه ولا يُعادي إِلا فيه,   يَصِلُ ما أمر اللهُ به أن يُوصَل, وَمَنْ وَصَلَ أعظَمَ الحقوقِ -حَقَّ اللهِ ورَسولِه- وصَلَ آخِرَها, ومَنْ عَظَّمَ أعلاها لَمْ يستَهِنْ بأدناها.

 

وَوَصْلُ الوَالدينِ, حَقٌّ قامَ بعدَ حقِّ الله ورسولِه, بِرٌّ وتواضُعٌ وخَفْضُ جَناح، وتوددٌ وإحسانٌ وطِيْبُ مَعْشَر, لا هَنَاءَ للولدِ دُوْنَ هَنَائِهِما، ولا أُنْسَ لَه دُوْنَ أُنْسِهِما, وَصَلَ حقَّ والدَيهِ حتى قَرَّا بِه عيناً, مَالُهُ لَـهُما مَبْسُوْط، ووقتُهُ لهما ممدودِ، في حَوَائِجِهِما يَغْدُو وَيَرُوْح، في جَنَّةِ البِرِّ لا يَبرَحُها, حتى إذا ما فارقا هذي الحياة وعن دُنياهُما ارتحلا, أسْرَجَ خَيْلَ البِرِّ والوصلِ في عَزْمٍ جديد. 

 

وَوَصْلُ الوالدين بعد الموتِ سَعْيٌ خَالِصٌ, دعاءٌ لهما واستغفار، وتَرَضٍّ للهِ عنهما آناء الليل وأناء النهار, قضاءٌ لما عليهما من حقوقٍ، وتبرئةٌ لما  عليهما من ذِمَم، والصدقةٌ عنهما من تمام الوصلِ وعظيم الإحسان, جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: يا رسول الله! إنَّ أمِّي افتُلتَتْ  نفسُها -أي ماتت فجأةً- وأظنُّها لو تكلَّمَتْ تصدَّقَتْ؛ فهل لها أجرٌ إن تصدَّقتُ عنها؟ قال: "نعمْ"(متفق عليه).

 

واصلٌ ما أمر اللهُ به أن يُوصَل, وَصَلَ أهلَهُ وأولادَهُ بالرعايةِ والعنايةِ والتربية، لَمْ يَقْصُرْ عنهما إحساناً في أمر دُنيا، ولم يَقْصُرْ عنهما إحساناً في أمر دِين, يُقِيْمُهُم على التقوى وعلى الإيمانِ يُنَشِّؤهُم؛ (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)[طه: 132],

 

يَصِلُهُم بحُسْنِ التربيةِ لا يَفْتُرُ، وبِرَقِيْقِ الموعظةِ لا يَمَل، يُعَلِمُهُم أمْرَ دِنِهِم، ويُفقِهُهُم فيما شَرَعَهُ الله لهم, يزرعُ فيهم حُبَّ اللهِ ورسولِه, ويغرسُ فيهم مُراقبةَ الله في السرِ والعَلَن, يَصِلُهُم لِيُوصِلَهُم إلى كُلِّ فضيلةٍ ويحجزَهُم عن كُلِّ رذيلة، يرجو لهم حُسنَ العاقِبَةِ، ويخشى عليهم سوء المُنقلَب؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].

 

واصلٌ ما أمر اللهُ به أن يُوصَل, وَصَلَ رَحِمَهُ فلَمْ يَقْطَعها، وأوثَقَ حِبَالَها فلَمْ يُمَزِّقْها، لَم يلتفت لِوَقِيْعةِ مُفسدٍ، ولم يَنْثَنِ لوشايةِ نَمّام، لَمْ يُرْخِصْ رَحِمَهُ لِعَرَضِ دُنيا، ولم يتشاغَلْ عنها لأدنى متاع.

 

واصِلٌ, يَرْجوا من الله وَصْلاً, فدَربُ القاطعينَ إلى تَبَارٍ, عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّه -تَعَالى- خَلَقَ الخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟, قَالَتْ: بَلَى، قال: فذَلِكَ لَكِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- اقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)[محمد: 22، 23]"(متفق عليه).

 

وعلى طريقِ الوصْلِ ترسوا مراكبٌ, ومراكبٌ تكبو إلى الدركاتِ؛ (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[الرعد: 25].

 

باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ, ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليماً. 

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.

 

أيها المسلمون: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ)[الرعد: 21], قومٌ قامَ تعظيمُ الله في قُلُوبِهم، قاموا بما أمرَ اللهُ به, لَهم وَعْدٌ يومَ القيامةِ يُنْجَزُ؛ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ)[الرعد: 23].

 

واصلٌ ما أمر اللهُ به أن يُوصَل, يَصِلُ المسلمينَ بِما لَهُم مِن حَقِّ الأخوةِ في الدين, فَينصَحُ لأئمةِ المسلمين وعامتِهم، يُحِبُّ للمسلمين الخيرَ ويسعى في إيصالِهِ لهم، لا يغدرُ ولا يخون، ولا يظلمُ ولا يؤذي, يزجُرُ الظالِمَ ويُنصُرُ المظلوم, يبذُل المعروفَ ويأمُرُ بِه، ويَكُفُّ المُنكرَ وينهى عنه.

 

واصلٌ, يَصِلُ الفقيرَ بمالَهُ من حقٍّ على الغني؛ (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ)[الإسراء: 26], ويَصِلُ الجارَ بِمالَهُ مِنْ حقٍّ على الجار، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "ما زالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بالجارِ، حتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ"(متفق عليه).

 

واصلٌ, يَصِلُ صُحبةَ الصلاحِ بِطِيْبِ العِشْرَةِ، وَجَمِيْلِ الوفاءِ، وَحُسْنِ العَهد, يشكرُ مَنْ أَحْسَنْ، ويُقِيْلُ مَن اعتذَر، ويُحسنُ الظنَّ بِمَن أخطأ, يَصِلُ صاحِبَهُ في حاجَتِه، ويقومُ مَعَهُ في نائِبَتِه.

 

فَما أَكثَرَ الإِخوان حينَ تَعدّهُم *** وَلَكِنَهُم في النائِباتِ قَليلُ

 

واصلٌ, يَصِلُ الحقَ لا يقطَع، ويصِلُ الخيرَ لا يَمْنَع، ويصِلُ المعدومَ لا يَبْخَل, ويصِلُ ذا الحاجةَ ما استطاع, في صحيح مسلمٍ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ؛ فَلْيَفْعَلْ", صِل بِنَفْعِكَ آفاق الفضاءِ؛ فإن الواصِلون لهم عِزٌّ ومُرْتَفَعُ.

 

ومَنْ وَصَلَ ما أمرَ اللهُ به أن يُوصَل، قَطَعَ وَصْلَ مَنْ لَمْ يأذَنِ اللهُ بِوَصْلِهِ؛ مِنْ فِعلٍ أو قولٍ أو قومٍ أو مكان, فلا يَصِلُ مَن يُحادّونَ اللهَ وَرَسُوْلَه ولا يتصلُ بِهم, ولا يَصِلُ أماكن الباطِلِ ولا يخطو إليها, ولا يَصِلُ المُنكرَ ولا يَتَفَوَّهُ ولا يعمَلُ به.

 

اللهم أصلح أحوالنا، وطهر سرائرنا، وأخلص أعمالنا، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

 

المرفقات

الواصلون.doc

الواصلون.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات