الهم والحزن والغم والكرب

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/حال المسلم مع المصائب 2/الإيمان بالقدر سلاح الهموم والأحزان 3/المصائب كفارات للخطايا 4/ من معينات المؤمن على الهموم والأحزان

اقتباس

إن أكدار الدنيا من غموم وهموم وأحزان يصاب بها العباد على اختلاف طبقاتهم من مسلم وكافر, وطائع وفاجر, لكن للمسلم عند نزول الهموم به ما ليس لغيره من أهل الأرض, فهو يملك ما يواجه به...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71]،  أما بعد:

 

معاشر المسلمين: إن من حكمة الله -تعالى- أن جعل الدنيا غير خالصة العنت والشقاء, ولا خالصة السعادة والهناء؛ فلا يزال العبد يتقلب فيها بين حالتين؛ حتى ينتهي به الترحال إلى دار السعادة الخالصة, أو إلى دار الشقاوة الخالصة.

 

ثَمَانِيَةٌ تَجرِي عَلَى النَّاسِ كُلِّهِم *** وَلا بُدَّ لِلإِنسَانِ يَلقَى الثَّمَانِيَة

سُرُورٌ وَحُزنٌ وَاجتِمَاعٌ وَفُرقَةٌ *** وَيُسرٌ وَعُسرٌ ثُمَّ سُقمٌ وَعَافِيَة

 

وإن أكدار الدنيا من الغموم والهموم والأحزان التي يصاب بها العباد على اختلاف طبقاتهم؛ من مسلم وكافر, وطائع وفاجر؛ لكن للمسلم عند نزول الهموم به ما ليس لغيره من أهل الأرض؛ فهو يملك ما يواجه به مصاعب الدنيا وكرباتها؛ فلا توهن قوته ولا تضعضع عزيمته, ولا تتحطم نفسيته؛ حيث جعل مقياسه منحة في أثواب محنه, لا يراها سوى نعمة ربانية لكن جاءت بلباس المصيبة.

 

هكذا هي المصائب والكربات وما ينتج عنها من أحزان وهموم تكدر الخواطر, وتعكر المزاج, وتظلم الدنيا على عين صاحبها, سواء كانت المصيبة فقد عزيز أو تراكم ديون، أو فقد مال، أو فوات أمنية أو غير ذلك, من مصائب الدنيا وأكدارها.

 

عباد الله: إن سلاح المؤمن الذي يواجه به ذلك كله هو إيمانه الصادق بقضاء الله وقدره؛ فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ فلمَ تحزنُ لشيءٍ لابد أن يقع؟!, ولمَ تأسف على فائت لم يكن أبداً ليقع, (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) [الحديد: 22-23].

 

إن من لا يؤمن بالقدر إذا نزلت به المصيبة جنَّ جنونه وفقد شعوره, وهجمت عليه الاضطرابات النفسية حتى ربما وصلت به إلى الانتحار, تلح عليه أسئلة الاعتراض على مجريات الأقدار, يلح عليه تأنيب النفس: "لو فعلت كذا لما كان كذا, لو كان كذا لم يحصل كذا.."؛ كما قال المنافقون من قبل: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) [آل عمران: 154].

 

إن هذه الاعتراضات على أقدار الله إنما هي عذاب عاجل قبل العذاب الأخروي, فلا تسلكوا طريقهم, ولا تتبعوا سنتهم, يقول المولى -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [آلعمران:156].

 

وليعلم المؤمن أن كل ما يقضي الله له فهو خير إن أحسن استغلاله, ولله عليه عبودية عند النعم, وعبودية عند المصائب؛ فإذا أنعم الله عليك بنعمة تسرك فاشكرها تكن من الشاكرين, وإن نزلت بك بلية تسوؤك فاصبر تكن من الصابرين؛ فأنت بين حالين: إما مسرور شاكر, وإما مبتلى صابر, وفي كلا الحالتين أنت مأجور, لهذا يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خير له"(رواه مسلم).

 

وتأمل -أخي المسلم- هل يشاركك أحد في الدنيا في هذه الخاصية من غير المسلمين؟. لا -والله-, ولهذا يقول -صلى الله عليه وسلم- في الرواية الأخرى للحديث: "عجباً لأمر المؤمن, أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن"؛ فاحمد الله أن منَّ عليك بنعمة الإيمان.

 

يا عبد الله: إن ما تبتلى به من هم أو غم صغير أو كبير حقير أو خطير, فإنه كفارة لك من ذنوبك على قدر المصيبة, يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يصيب العبد من هم ولا غم ولا وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه".

 

أيها المؤمنون: ومما يعين المؤمن على الأحزان والهموم والكربات: تدبر القرآن الكريم, حيث تجد فيه ما وعد الله الصابرين من الأجر والثواب والنعيم المقيم, والنظر في أخبار أنبياء الله ورسله وأتباعهم وما لقوا من العناء العظيم في هذه الدنيا.

 

وانظر إلى نوح -عليه السلام- وهو يصارع قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ومن أعدائه زوجه وولده, والخليل إبراهيم لقي من العناء الكثير, كاده الناس وتسلط عليه الجبابرة, وطرد من أرضه وأوقدت له النار وطرح فيها, ونجاه الله من ذلك بعد صبر عظيم.

 

وانظر لموسى وما لقي من فرعون وقومه, ثم ما لقي من بعض أتباعه من بني إسرائيل, ما زال معهم في عناء حتى لحق بالرفيق الأعلى, وأيوب -عليه السلام- ابتلى بالمرض الطويل وموت الأهل, وذهاب المال, فصبر على ذلك كله حتى جاء الفرج.

 

وخاتم الرسل وسيدهم -صلى الله عليه وسلم- ولد يتيماً ونشأ فقيراً, وعاداه قومه وأخرجوه, وابتلاه الله بأنواع من البلاء, فمات أولاده كلهم قبله إلا فاطمة, وكان يبتلى ببعض الأوجاع والإصابات التي قد تلزمه الفراش ولا يصلي بسببها إلا قاعداً, وكان يمر به الشهران ولم يوقد في بيوته نار, إنما يأكل هو وأزواجه الماء والتمر إلا أن يهدى إليه شيء.

 

ومع ذلك كانوا لربهم حامدين شاكرين وعلى ما أصابهم صابرين, فهؤلاء صفوة الخلق, أفما لك فيهم -يا عبد الله- أسوه؟ أمالك في أخبارهم تخفيف وسلوه؟.

 

أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطـبة الثانيــة:

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، أما بعد:

 

عباد الله: ومما يعين المؤمن في مواجهة ما يعترضه من الهموم والأكدار والمصائب: الإكثار من الدعاء, ولا سيما الأدعية الواردة في علاج الهموم والكربات؛ فاحفظها -أيها المهموم المغموم المكروب- وتدبرها وألح بتكرارها حين حصول أسبابها بصدق وثقة وخشوع وضراعة, وسترى من عجيب لطف الله بك ما لا يخطر لك على بال.

 

ومن هذه الأدعية المباركة ما جاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو عند الكرب يقول: "لا إله إلا الله العظيم الحليم, لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش العظيم"(متفق عليه)، وعن أنس -رضي اللّه عنه- عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا أكربه أمر قال: "يا حَيُّ يا قَيُّومُ, بِرَحْمَتِكَ أسْتَغِيثُ"(حسنه الألباني).

 

وعن أبي بكرة -رضي اللّه عنه- أن رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "دَعَوَاتُ المَكْرُوب: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرْجُو فَلا تَكِلْنِي إلى نَفْسي طَرْفَةَ عَيْنٍ, وأصْلِحْ لي شَأنِي كُلَّهُ, لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ"(أخرجه أبو داود وحسنه الألباني). وعن أسماء بنت -عُمَيْس رضي اللّه عنها- قالت: قال لي رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وآله وسلم-: "ألا أُعَلِّمُكَ كَلِماتٍ تَقُولِيْنَهُنَّ عِنْدَ الكَرْبِ, اللَّهُ اللَّهُ رَبي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً"(صححه الألباني).

 

وعن سعد بن أبي وقاص -رضي اللّه عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين, لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له"(رواه أحمد).

 

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قال إذا أصبحَ وإذا أمْسى: حَسبِي الله لا إلَه إلا هو عليه توكلتُ وهو ربُّ العرشِ العظيم سبع مرات، كفاه الله ما أهمه"(رواه أبو داود).

 

هذه أدعية مباركة، وإذا خرجت من قلب صادق واثق بوعد الله عظيمِ الرجاء فيما عنده كان لها أنفع الأثر -بإذن الله-.

 

وعليك -أيها المهموم- أن ترطِّب لسانك بذكر الله, وخاصةً التسبيح وكثرة الاستغفار، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ السَّاجِدِينَ)[الحجر: 988], وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لزِم الاستغفارَ جعلَ الله له من كلِّ ضيقٍ مخرجَا، ومنْ كلِّ همٍّ فرَجا، ورزقَه من حيث لا يحتسب"(رواه أبو داود والنسائي).

 

وإن مما يشرح الله به صدورنا ويزيل به غمومنا وهمومنا، طاعة الله -تعالى-, وأعظمها الصلاة بين يديه -سبحانه-, قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة: 455]، وقد كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى.

 

أيها المسلمون: وإذا كان اللجوء إلى الله -تعالى- سبباً في انسلال الهموم الجاثمة على المرء؛ فإن ذكر الحبيب المصطفى -صلوات الله وسلامه عليه- سببٌ في الأنس وكفاية الهم؛ فقد قال رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله: "أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك -أي أصرف بصلاة عليك جميع الزمن الذي كنت أدعو فيه لنفسي-، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذن يكفيك الله -تبارك وتعالى- ما أهمك من دنياك وآخرتك"(رواه أحمد).

 

ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

 

 

----------

 

مصدر الخطبة: سلاح المؤمن عند هجوم الهموم

 

المرفقات

الهم والحزن والغم والكرب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات