الهدايا في عشر وصايا

خالد بن علي أبا الخيل

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ أفضل النعم نعمة الإسلام 2/ الحكمة من خلق البشر 3/ أسعد الناس أعبدهم لله 4/ نجاتك في صلاتك 5/ الإيمان واحة الاطمئنان 6/ فضائل صلة الأرحام 7/ أخلاقك عنوان سعادتك 8/ فضل الإكثار من الذكر 9/ احفظ الله يحفظك 10/ استعد لآخرتك.

اقتباس

إذا حفظت الله في حياتك، حفظك الله -عز وجل- في جوارحك، متعك متاع الصالحين، حفظك الله في سمعك، وفي بصرك، وفي ولدك، وفي مالك، فالجزاء من جنس العمل، (احفظ الله يحفظك)، فحافظ على جوارحك، ابتعد أن ترى شيئًا حرمه الله، أو تسمع شيئًا حرمه الله، أو تتكلم بالغيبة والنميمة والاستهزاء، أو غير ذلك من المحرمات، واعلم أنك مسؤول أمام رب البريات.. ينبغي أن نتخذ لرحيلنا عملًا صالحًا، نتخذ يوميًا، نبرمج حياتنا، ماذا أودعنا؟ ماذا ادخرنا؟ ماذا استعددنا؟ ماذا عملنا؟ فإن...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله ولي التوفيق، وأشهد أن لا إله إلا الله، منّ على من شاء بأحسن منهج، وأقوم طريق، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، علَّم أمته كل جليل ودقيق، صلى الله عليه وعلى أهله وأصحابه وأتباعه، أهل الهدى والتحقيق.

 

أما بعد: عباد الله: فاتقوا الله -جل في علاه-، فمن اتقى الله وقاه، ومن اتقى الله كفاه، ومن اتقى الله منحه رضاه، ومن اتقى الله فاز بجنته ورضاه.

 

إخوة الإسلام:

لعمرك ما الإنسان إلا بدينه *** فلا تترك التقوى اتكالًا على النسب

 

ألا إنما العز -عباد الله- هو تقوى الله، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]، في هذه اللحظات، وهذه الدقائق المعدودات، تلكم هدايا في عشر وصايا، في هذه العناصر العشر، أسأل الله -عز وجل- أن ينفعنا بما نقول وبما نسمع، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، وحزبه المفلحين، وأوليائه المتقين.

 

عباد الله: أول العناصر: أفضل نعمة. أفضل النعم، وأجل المنن والكرم، نعمة الإسلام، نعمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، فأفضل النعم -أيها الأحبة- أفضل ما منّ به -عز وجل- على عبده أن جعله من أهل لا إله إلا الله، (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات: 17]، أي فرح وأي سرور، وأي أُنس وأي حبور أن جعلك الله -عز وجل- من عباده المسلمين وأوليائه المؤمنين؟ (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].

 

عباد الله: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم على حلقة في المسجد فقال: "ما أجلسكم؟"، قالوا: جلسنا نذكر الله وما منَّ به علينا من نعمة الإسلام. قال: "آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟"، قالوا: لا والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: "أما إني لم استحلفكم تهمة لكم، ولكن آتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم ملائكته".

 

الله أكبر! عباد الله: نعمة الإسلام، نعمة التمام والكمال، نعمة الجلال والجمال، نعمة الأنس والطمأنينة، نعمة الانشراح والراحة الطيبة، (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ) [الأنعام: 125]، (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) [الزمر: 22]، ولهذا: لهذا الإيمان أُنس وحلاوة، وطمأنينة وطلاوة، ففي صحيح مسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا".

 

 ولهذا كان مجدد الملة، وإمام الدعوة، محمد بن عبد الوهاب أجزل الله له الأجر والثواب، كان كثيرًا ما يقول:

بأي لسان أشكر الله إنه *** لذو نعمة عظمى أعجزت كل شاكر

حباني بالإسلام فضلا ونعمة *** عليّ وبالقرآن نور البصائر

وبالنعمة العظمى اعتقاد ابن حنبل *** عليها اعتقادي يوم تبلى السرائر

 

لهذا أنزل الله على رسوله في أخريات حياته آية عظيمة كبيرة جليلة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) [المائدة: 3].

 

وأما العنصر الثاني -أيها الأحبة-: الهدف من خلقك. الله -جل وعلا- خلقنا لحكمة، وأوجدنا لغاية، لم يخلقنا عبثًا، ولم يتركنا سدى، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً) [الحج: 115]، (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) [القيامة: 36]، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) [الأنبياء: 16]، [الدخان: 38].

 

 خلقنا الله لحكمة، وأوجدنا لغاية وهي عبوديته وحده لا شريك له، إفراده بالعبودية، دعاؤه وسؤاله، الاستغاثة به ورجاؤه، وخوفه ومحبته، تلكم العبادة له وحده، (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) [الجن: 18]، بين الله -عز وجل- تلك الحكمة في قوله سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].

 

فما أوجد الله الجن والإنس على وجه هذه البسيطة إلا ليعبدوه وحده لا شريك له، أمر الله جميع البشرية بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21]، (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) [البينة: 5]، فالهدف من خلقك في هذه الحياة هو عبودية الله -عز وجل-، وإفراده بالعبادة، فما دعت الأنبياء والمرسلون، ولا أنزلت الكتب، ولا شرعت الشرائع إلا ليعبد وحده لا شريك له، (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [المؤمنون: 32]، فحقق هذا الهدف، فمن تحقيق ورائه يأتي العنصر الثالث.

 

العنصر الثالث: تحقيق العبودية. اسمع -أيها الأخ المبارك- إلى كلمة لابن تيمية عظيمة جليلة وهي قوله -رحمه الله تعالى-: "من أراد السعادة الأبدية، فليلزم عتبة العبودية".

وقوله -رحمه الله تعالى-: "أسعد الناس أعبدهم لله"؛ فحقِّق العبودية لله -عز وجل-، شرفك الله بها، وجعلك من أهلها.

 

ومما زادني شرفًا وتيهًا *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك: يا عبادي *** وأن صيرت أحمد لي نبيًا

 

عباد الله: تحقيق العبودية يتمثل في السراء والضراء، في الليل والنهار، دائمًا وأبدًا، في الإقامة والسفر، على أي حال حقق هذه العبودية، "عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن"، فكما أن لك لله عبودية في السراء، فكذلك في الضراء.

 

 فتحقيق العبودية –أيها الأحبة- من مثل قراءة القرآن، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والتبكير للمساجد، وقيام الليل، وصلاة الوتر، والصدقة، وحسن الخُلق، وغير ذلك من ألوان وأنواع الخيرات والعبادات، (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90].

 

 نعم -أيها الأحبة-، بقدر ما تعبدوا الله، وتحقق هذه العبودية، بقدر ما يحصل لك من الطمأنينة والحياة الطيبة، (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل: 97]، "إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".

 

العنصر الرابع -أيها الإخوة الأكارم، وفقكم الله لكل خير وبر وهدى-: نجاتك في صلاتك. نجاتك في صلاتك، سعادتك في صلاتك، مستقبلك في صلاتك، صلاحك في صلاتك، تريد أن تربي أولادك التربية الجميلة، والتنشئة العظيمة، ربّهم على الصلاة، تلك الدورة العظيمة اليومية، فإن الصلاة عنوان سعادة، (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه: 132].

 

أعجبني -أيها الأحبة- بعض الآباء لما فاتت ابنه الصلاة، فجاء إليه في البيت، قال له الأب: ارجع إلى المسجد وصلِ هذه الصلاة في المسجد. تربية حالية واقعية تأثيرية، ليعلم حب المسجد، ويعلم مدى المسجد، وأن الخير في المسجد، وأن الصلاة أمرها عظيم، وشأنها كبير، "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع".

 

 فحافظ على الصلاة تجد النجاة والسعادة، "من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة يوم القيامة، وكان مع قارون وهامان وأُبي بن خلف".

 

"الصلاة نور": نور لك في حياتك، نور لك في مالك، نور لك في ولدك، نور لك في عملك، نور لك في هذه الدنيا، ونور لك برزخك، ونور لك في آخرتك، والصلاة هي الراحة القلبية، "أرحنا بالصلاة"، "جعلت قرة عيني في الصلاة"، فإياك أن تتساهل بها، أو تتهاون بها، أو تتخلف عن المساجد، أو تصلي في بيتك بدون عذر شرعي، (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) [مريم: 59]، "سبعة يظلهم الله في ظله... ورجل قلبه معلق بالمساجد"، كم للمساجد من الفوائد؟ وكم لها من العطايا والعوائد؟.

 

ولهذا -أيها الأحبة-: إذا دخلت المسجد قلت: اللهم: افتح لي أبواب رحمتك. فالرحمات والجنات والخيرات والبركات في بيوت الله، (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ) [النور: 36، 37].

 

يمشون نحو بيوت الله إذ سمعوا *** الله أكبر في شوق وفي جدل

نجواهم ربنا جِئناك طائعةً نفو *** سنا وعصينا خادع الأمل

هم الرجال فلا يلهيهم لعب *** عن الصلاة ولا أُكذوبة الكسل

 

ولهذا كان سلفنا الصالح يمكثون السنين العديدة لم تفتهم الصلاة، فها هو سعيد بن المسيب أربعين سنة لم تفته الصلاة، ولم يؤذن المؤذن إلا وهو في المسجد، والصفي سُمي الصفي لأنه لزم مسجد البصرة خمسين سنة في الصف الأول، والأعمش -رحمه الله- سبعون سنة لم تفته الصلاة إلا مرة واحدة، ماتت أمه فاشتغل بتجهيزها.

 

الله أكبر! عباد الله: ولهذا ختم الله -عز وجل- أوصاف المؤمنين (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 9- 11]، حافظ على صلاتك، وأمر أولادك، وربهم عليها، واجعل الصلاة تختلط بلحومهم ودمائهم.

 

فمن أعظم وسائل التربية، لاسيما في خضم هذا الزمان، في خضم الأحداث والأفكار، والانحرافات والتوجهات، والتغيرات والتبدلات، أعظم وسيلة لتربية الأبناء والبنات: الصلاة، أعظم وسيلة، وأكبر وسيلة، وأجل قدرًا هذه الصلاة، ربهم عليها، نشئهم عليها، إن اقتربوا من ربهم حصل كل خير، إذا اقتربوا من ربهم اندفع عنهم كل شر، إذا اقتربوا من ربهم صلحت حالهم، واستقامت أمورهم، ونجحوا في أفعالهم وأقوالهم.

 

العنصر الخامس -أيها الأحبة-: الإيمان واحة الاطمئنان. لن يجد الإنسان الراحة ولا الطمأنينة إلا بالإيمان بالله وحده، (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]، فقوِّ إيمانك بالله، وقوِ إيمانك بملائكة الله، وقوِ إيمانك بكتبه، وقوِ إيمانك برسله، وقوِ إيمانك باليوم الآخر، وقوِ إيمانك بالقضاء والقدر.

 

يجري القضاء وفيه الخير أجمعه *** لمؤمن واثق بالله لا لاهي

إن جاءه فرح أو نابه طرح***   في الحالتين يقول: الحمد لله

 

قوِّ إيمانك بالله تجد الطمأنينة والراحة، (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن: 11]، ما يحصل من الزعزعة، وما يحصل من القلق والأرق إلا بضعف الإيمان، وكلما رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا نالك الطمأنينة والسعادة، "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا"، "ثلاثة من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"، في الإيمان الانشراح، وفي الإيمان النور، (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ) [الأنعام: 125]، حقق هذا الإيمان بالله -عز وجل-، وأرضَ بقضائه وقدره.

 

والسادسة -أيها الأحبة-: برك وصلتك. ما مدى برك بوالديك؟ والإحسان إليهما؟ وإدخال السرور عليهما؟ ما مدى صلتك إلى أرحامك؟ والإحسان إليهم؟ والنفقة عليهم؟ وإعطاؤهم وتفقدهم بين الفينة والأخرى؟

 

 يجب علينا -عباد الله- أن نبر بوالدينا، وأن نصل أرحامنا، فالأقربون أولى بالمعروف، فالبعض يبر صديقه، ويُحسن إلى غيره، ووالده وقريبه في أمس الحاجة، فابذل لهم السلام، ابذل لهم الابتسامة والبشاشة، إذا أردت أن تعرف مدى برك بوالديك، فاعرض نفسك على آية البر، وآية البر -أيها الأحبة- هي آية الإسراء: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء: 23، 24].

 

ولهذا "رغم أنفٌ، ثم رغم أنفٌ، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة"، فأحسن إليهما، وأدخل السرور عليهما، وقبل رؤوسهما، واستأذنهما، واحترمهما، وقدّرهما، فإن الجزاء من جنس العمل، وأقاربك لا تنساهم، ولو عبر الاتصال، فإن "من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه"، احذر العقوق، احذر قطيعة الأرحام، (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد: 22، 23]، والملعون هو المطرود عن رحمة الله، عياذًا بالله.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه.

 

أيها الأحبة: العنصر السابع: مع حسن خُلقك. فالدين -عباد الله- جاء في العبادات، وجاء في المعتقدات، وكذلك في التعاملات والمعاملات، جاء سعد بن هشام إلى عائشة –رضي الله عنها- وقال: أنبئيني عن خُلق النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: ألست تقرأ القرآن؟. قال: بلى. قالت: "كان خُلقه القرآن". وربنا يقول: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4].

 

 وفي الصحيحين يقول أنس: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا. فتخلق بالأخلاق الجميلة، والآداب السامية، والسمات الحسنة النبيلة، والأعمال والأقوال الفاضلة.

 

والمرء -عباد الله- يحب أن يعامله الناس بالمعاملة الحسنة، يحب من لاقه أن يسلم عليه، يحب من رآه أن يبش في وجهه، يحب أن يفسح له في الطريق، يحب السرور والفرح من غيره له، نعم، كل ذلك مطلوب، إذا أردت ذلك فأفعله أنت في إخوانك، ففي صحيح مسلم تلكم القاعدة النبوية: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يحب أن يأتي للناس ما يؤتى إليه".

 

فأخلاقك جمال حياتك، وأخلاقك عنوان سعادتك، يقول ابن القيم كلمة عظيمة جليلة: "ليس هناك شيء أنفع للقلب إلا في معاملة الناس باللطف. الله أكبر، "وخالق الناس بخلقٍ حسن".

 

ومن أوصاف المتقين أنهم يكظمون ويعفون عن الناس، (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134، وغيرها] ، فاعفُ، واصفح، وسامح، وسلم، وبشَ، وابذل السلام، وحسِّن أخلاقك لإخوانك، بالبشاشة والبسامة، فالابتسامة صدقة منك لنفسك، فـ "تبسمك في وجه أخيك صدقة"، بل قال عليه الصلاة والسلام: "لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق".

 

فحسن أخلاقك، لا سيما أقاربك، لا سيما زوجتك وأولادك، فإن بعض الناس أخلاقه مع الناس جميلة، أخلاقه مع الناس نبيلة، لكنه في بيته في تعاسة وهمٍ وغمٍ وكربة عظيمة، فتعامل مع أهلك فالأقربون أولى بالمعروف، إذا دخلت بيتك فسلم، وبشَّ في أولادك وزوجك، تعامل معهم المعاملة الحسنة، والكلمات الطيبة، والإيجابيات العظيمة، ارفع المعنويات، وذكرهم بكتاب الله وسنة رسوله، ونحو ذلك من الخيرات.

 

الثامنة -أيها الأحبة-: مع ذكرك لربك. نعم أيها الأحبة: فإنه بقدر ذكرك لربك، بقدر ما يهرب منك شيطانك، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [مريم: 124]، فراحة القلوب، وأُنس القلوب، وسعادة القلوب بذكر الحي القيوم.

 

وكن ذاكرًا لله في كل حالة *** فليس لذكر الله وقت مقيد

فذكر إله العرش سرًا ومعلنًا *** يزيل الشقا والهم عنك ويطرد

ويجلب للخيرات دنيًا وآجلًا *** وإن يأتك الوسواس يومًا يشرد

 

جاء صحابي إلى رسول الله، وقال: يا رسول الله: شرائع الإسلام كثيرة، فمرني بأمر جامع شامل مانع. قال: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله"، (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب: 35].

 

 ذكر الله على نوعين -عباد الله-: ذكر مطلق، وذكر مقيد، حافظ على المقيد كالصباح والمساء، والنوم الاستيقاظ، والأكل والشرب وغير ذلك، فإنك إذا حافظت على أورادك، وحافظت على أذكارك في وظائفها، كنت من الذاكرين الله -عز وجل- كثيرًا.

 

 ذلكم -عباد الله-: أنه لا يخلو موطن إلا وله ذكر مقيد، لهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: الذكر للقلب بمنزلة الماء للسمك. إذا خلا القلب من الذكر مات أو مرض، كالسمك إذا خرج من الماء مات، فعلى الإنسان أن يكثر من ذكر الله وتسبيحه وتهليله، اشغل لسانك بذكر الله عن ذكر عباد الله، اشغل لسانك بالتسبيح والتهليل.

 

أو ما علمت بأنها القيعان فاغرس ***  ما تشاء بذا الزمان الفاني

فغراسها التسبيح والتحميد *** والتكبير والتوحيد للرحمنِ

تبًا لتارك غرسه ماذا الذي *** قد فاته من مدة الإمكان

 

والعنصر التاسع: احفظ جوارحك من الذنوب والآثام. (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36]، فلا تسمع الحرام، ولا تنظر للحرام، ولا تبطش في الحرام، ولا تمشِ إلى حرام، فحافظ على جوارحك يحفظك الله في دينك ودنياك، وذلكم في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "احفظ الله يحفظك".

 

احفظ الله في عينك، في سمعك، في بصرك، في زوجك، في ولدك، في بيتك، في عملك، في معاملتك، في تعاملك، يحفظك الله -عز وجل- في أعظم شيء وهو دين الله -عز وجل-، يحفظك بأن يتوفاك على هذا الإسلام، ويمن عليك بالوفاة عليه، (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) [إبراهيم: 27]، يا رب: ثبتنا على الإيمان، ونجنا من سبل الشيطان، ونسأل الله: حسن الخاتمة، فهي وربي لحظات حاسمة.

 

 إذا حفظت الله في حياتك، حفظك الله -عز وجل- في جوارحك، متعك متاع الصالحين، حفظك الله في سمعك، وفي بصرك، وفي ولدك، وفي مالك، فالجزاء من جنس العمل، (احفظ الله يحفظك)، فحافظ على جوارحك، ابتعد أن ترى شيئًا حرمه الله، أو تسمع شيئًا حرمه الله، أو تتكلم بالغيبة والنميمة والاستهزاء، أو غير ذلك من المحرمات، واعلم أنك مسؤول أمام رب البريات، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36].

 

والعنصر الأخير وهو العاشر -أيها الإخوة الأعزاء-: استعد لآخرتك. نعم استعد لآخرتك، وتزود فأن خير الزاد التقوى، تزود ليوم ترحل، تزود حينما تذهب عن أهلك وولدك، تزود حينما تجلس منفردًا، تزود -أيها الأخ الحبيب- بالأعمال الصالحة.

 

سبيلك في الدنيا سبيل مسافر *** ولا بد من زاد لكل مسافر

ولا بد للإنسان من حمل عدة *** ولاسيما إن خاف صولة قاهر

 

الله -عز وجل- كتب الفناء على جميع البشر، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) [الرحمن: 26، 27]، (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88، 89].

 

يا من بدنياه اشتغل *** قد غره طول الأمل

الموت يأتي بغتة *** والقبر صندوق العمل

سبيل الخلق كلهم الفناء *** فما أحد يدوم ولا بقاء

يقربنا الصباح إلى المنايا *** ويدنينا إليهن المساء

 

واعلم أنه لن يبقى معك في قبرك إلا عملك الصالح، تهجدك، قراءتك، صلاتك، صدقتك، إحسانك، برك، صلتك، طاعتك لربك، في الصحيحين: "إذا مات ابن آدم تبعه أهله وماله وعمله"، فإذا وضع في قبره انصرف أهله، انصرف ماله، بقي معه عمله، فاستعد لهذا اليوم العظيم، استعد لآخرتك، "يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".

 

أيها الأحبة الأكارم، أيها الإخوة الأفاضل: ينبغي أن نتخذ لرحيلنا عملًا صالحًا، نتخذ يوميًا، نبرمج حياتنا، ماذا أودعنا؟ ماذا ادخرنا؟ ماذا استعددنا؟ ماذا عملنا؟ فإن الإنسان لا يدري متى يرحل في هذه الحياة، سهم بيد غيرك، لا تدري متى يغشاك، فالله الله -عباد الله- في التزود للآخرة، والتزود بالأعمال الصالحة.

 

تزود من التقوى فإنك لا تدري *** إذا جن ليل هل تعيشُ إلى الفجر

فكم من عروس زينوها لزوجها *** وقد أخذت أرواحهم ليلة القدر

وكم من صغار يرتجى طول عمرهم *** وقد أدخلت أرواحهم ظلمة القبر

فكن مخلصًا، واعمل من الخير دائمًا *** لعلك تحظى بالمثوبة والأجر

وداوم على تقوى الإله فإنها *** أمان من الأهوال في موقف الحشر

 

أيها الأحبة: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].

عدد الخلائق والنسائم والمدى *** صلى عليك الله يا علم الهدى

يا خير من وطئ الثرى متواضعًا ***    ميمون الطليعة مرشدًا

 

والله أعلم.

 

 

المرفقات

في عشر وصايا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات