الهجرة إلى الحبشة (1/2) أسباب وغايات -أحداث ونتائج

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

رحمة النبي-صلى الله عليه وسلم-وشفقته بأمته عندما أمرهم بالخروج من مكة؛ تجنباً لحملات الاضطهاد والتعذيب، ثم إعطاءه القدوة من نفسه-بأبي هو وأمي-صلى الله عليهوسلم -، إذ أرسل ابنته وزوجها، وابن عمه جعفر، وابن عمته الزبير، وابن عمته الآخر أبا سلمة في مقدمة المهاجرين؛ حتى لا يقال: إنَّ محمداً قد قذف بالمستضعفين، والأباعد-من غير ذوي القربى-إلى بلاد نائية، وعرضهم للأخطار في أرض مجهولة.

بين يدي الهجرة:

كان لجوء قريش لأسلوب التعذيب والتنكيل بأتباع الدعوة الإسلامية بمثابة الحل الأخير، الذي يُعِّبر عن يأس المشركين وفشلهم في مواجهة الدعوة بالحجة والبيان، ثم فشلهم في الأساليب المتنوعة؛ لوقف الدعوة، أو حتى إقناع صاحبها-عليه الصلاة والسلام-بالكف عن هدم باطلهم، وهتك ضلالهم، فكان التعذيب هو الحل الأخير، وهو حل اليائسين؛ لذلك اشتدت قريش في تعذيبها للفئة المؤمنة، بصورة جنونية، تخالف ما كانت عليه أخلاق العرب، من مروءة، ونصرة للمظلوم، وحمية للعشيرة، فلم يكن لوسائل التعذيب والاضطهادات؛ سقف تقف عنده أو تنتهى إليه، ووتيرة التعذيب والتنكيل؛ تزداد كل يوم؛ حتى طالت الكبير والصغير، الرجال والنساء، الأحرار والعبيد، الأشراف والضعفاء، حتى صاحب الدعوة-نفسه-رغم مكانته وشرفه ومنعة عمه أبي طالب سيد قريش-قد تعرض لصنوف شتى من التعذيب والاضطهاد، وتحت شدة التعذيب بدأت الدعوة تفقد بعض مكتسباتها بالشهادة تحت وطأة التعذيب، أو بالافتتان عن الدين، ومن هنا جاء تفكير النبي-صلى الله عليه وسلم-في الهجرة إلى الحبشة.

 

القرآن ينير الطريق:

في ذروة الاضطهاد، وقد أحلك الوضع على المؤمنين؛ نزل جبريل-عليه السلام-بوحي السماء نوراً، وهدايةً، وإرشاداً إلي المخرج من هذه الأزمة الخانقة؛ إذ نزلت في تلك الفترة آيات من سورة الكهف تقص على المؤمنين نبأ الفتية المؤمنين الذين اعتزلوا قومهم وما في القصة من إرشاد لطريق الهجرة؛ للحفاظ على الدين والدعوة، ثم نزل قوله-عز وجل-: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) [النحل: 41]، وقوله-عز وجل-: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].

 

وفي هذه الآيات دلالة واضحة، ومباشرة من الله-عز وجل-على الهجرة، إن عجز المؤمنين عن إقامة دينهم وفتنوا فيه، وإن الله-عز وجل-سيجعل لهم الفرج، والأجر العظيم بعد ذلك.

 

أسباب الهجرة إلى الحبشة:

ربما يظن البعض أن الهجرة كانت فراراً بالأرواح، وحفاظا على الحياة، وهروباً من نار التعذيب التي اكتوى بها المؤمنون جميعاً، لو كان الأمر هكذا؛ لما احتاجوا-أصلاً-إلى الهجرة، وترك الأوطان، والتفرق في البلاد، إنما كان يكفيهم أن يتظاهروا بموافقة المشركين على مرادهم، وتبقى قلوبهم عامرة بالإيمان، كما حدث مع عمار بن ياسر-رضي الله عنه- عندما أذن له الرسول-صلى الله عليه وسلم-أن يتظاهر بموافقة المشركين، ومسايرتهم؛ كلما اشتدوا في تعذيبه، ولكن لا يصلح-أبداً-أن يكون الأصل في الدعوة الإسلامية التقية والتظاهر بما ليس في القلب، فتلك حالة استثنائية، وتطبق عند الضرورة، لا تصلح أن تكون هي الأصل في الدعوة، كما هو الحال عند طوائف الشيعة المنحرفة.

 

ولكن الهجرة كانت أكبر من مجرد إنقاذ أرواح، وحفاظ على أفراد، ولها أسباب وغايات عظيمة، ذكر أهل العلم طرفاً منها فقالوا:

1-تجنب الصدام مع المشركين:

فعلى الرغم من قسوة وسائل التعذيب، وضراوة الأساليب التي يتبعها المشركون؛ للصَّد عن سبيل الله ووقف الدعوة، إلا أن عدد المسلمين كان يزداد كل يوم، وكثر الداخلون في الإسلام من داخل قريش وخارجها، وأصبح صوت الإسلام مسموعاً في كل مكان، وتلك الكثرة التي تتنامى يوماً بعد يوم، كانت ستؤدي-حتماً-؛لصدام مع قوى الشرك المستنفرة والمستفزة نحو هذا الصدام، والمسلمون وخاصة الشباب، كانوا يرغبون في رد عدوان المشركين، والدفاع عن أنفسهم، فقد روى ابن إسحاق في السيرة بسند صحيح أن عبد الرحمن ابن عوف، وأصحابه ذهبوا إلي النبي-صلى الله عليه وسلم-بمكة فقالوا: يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون، فلمَّا آمنا صرنا أذلة، قال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم.

 

وهذا من كمال حكمته-صلى الله عليه وسلم-وعظيم سياسته لشؤون الدعوة، ومراعاة طبيعة كلِّ مرحلة، فالفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد وبناء للفئة المؤمنة، وسط تلك الظروف الصعبة والأوضاع الضاغطة؛ حتى يتعلم الصحابة كيفية تحمُّل مختلف الظروف، وليتعلموا كيفية التحكم في قراراتهم وعواطفهم، وسط المؤثرات مهما كانت شدتها.

 

كما أن النبي-صلى الله عليه وسلم-لو أذن لأتباعه بالصدام مع المشركين؛ لخسرت الدعوة أضعاف ما كسبت، ذلك لأن كفَّ الأذى كان أشدَّ أثراً وأنفذ في مثل بيئة قريش، والتي كان لها الرياسة والشرف بين قبائل العرب، وسترد على القتال بأشد منه، ثم إنَّ الإذن بالقتال أو حتى رد العدوان؛ كان سيؤدي لقتال في كل بيت، فالرايات لم تكن واضحة أو متميزة، فالتعذيب والاضطهاد لم يكن من سلطة نظامية أو جهاز بعينه، يتولى كبر هذا التعذيب، والبيت الواحد كان فيه المؤمن والكافر، وكانت الأسر القرشية هي التي تتولى تعذيب أبنائها ومواليها، ولا تسمح لغيرها بفعل ذلك مع أبنائها.

 

2-الفرار بالدين:

وهو أبرز أسباب الهجرة، بل إنَّ تشريع الهجرة كان في الأصل لمن لم يستطع أن يمارس شعائر دينةٍ، ويعاني من التضييق والاضطهاد بحيث لا يستطيع أن يجهر بمعتقده وشريعته، والآيات التي نزلت في شأن الهجرة؛ كانت تتحدث عن فتنة المسلمين عن دينهم، والتمكين الذي سيحصلون عليه بعد صبرهم على ألم فراق الأوطان وترك الأهل، قال ابن اسحاق في السيرة: "قال الزهري في حديثة عن عروة في هجرة الحبشة: فلما كثر المسلمون وظهر الإيمان فتحدث به، ثار المشركون من كفار قريش بمن آمن من قبائلهم يعذبونهم ويسجنونهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم، فلما بلغ ذلك الرسول-صلى الله عليه وسلم-قال للذين آمنوا به: (تفرقوا في الأرض) قالوا: فأين نذهب يا رسول الله؟ قال: هاهنا والإشارة إلى أرض الحبشة.

 

 

3-فتح مجالات جديدة للدعوة:

فالهجرة لم تكن-فقط-فراراً بالدين، أو تجنباً للصدام، ولكن-أيضاً-؛ لفتح أرض جديدة للدعوة، وكسب أنصار جدد للدعوة، ويظهر ذلك-جلياً-باستعراض أسماء من هاجر الهجرة الأولى للحبشة، فقد كانوا عشرة رجال وأربع نسوة، ليس فيهم أحد من الموالي أو الأرقاء أو الضعفاء، الذين كانوا يتحملون القدْرَ الأكبر من التعذيب والاضطهاد، بل كانوا من ذوي النسب والمنزلة والقبائل العريقة، مما يوضح أن للهجرة غايات أخرى غير الفرار بالدين، غايات تحتاج لمهارات خاصة وقدرات دعوية.

 

ثم إنَّ تلك الغاية تتضح بشدة وتظهر كغاية أولى بعد الهجرة الثانية للحبشة، حيث ظلَّ المهاجرون مقيمين بالحبشة من العام السادس من النبوة حتى العام السابع من الهجرة أي قرابة الأربعة عشر سنةً، على الرغم من الحوادث الضخمة التي وقعت في تلك الفترة، لم يُعلمْ أن الرَّسول-صلى الله عليه وسلم-قد طلب منهم العودة، ولقد بقيت المدينة بعد هجرة الرسول-صلى الله عليه وسلم-معرضة لهجمات المشركين حتى العام الخامس من الهجرة، ومع ذلك لم يرسل إلى مهاجري الحبشة؛ ليعودوا، وكان بقاء المهاجرين بالحبشة بأمر مباشر من رسول الله-صلى الله عليه وسلم-؛ لنشر الإسلام هناك وبناء قاعدة احتياطية للدعوة؛ تحسباً لمتغيرات طارئة في الجزيرة العربية، مما يدل على ذلك ما رواه البخاري من قول جعفر بن أبي طالب للأشعريين حين وافقوه بالحبشة: (إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-بعثنا هنا، وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا).

 

أسباب اختيار الحبشة:

ربما يبدو اختيار الحبشة كمكان لهجرة المؤمنين للوهلة الأولى اختياراً غريباً، فالبلدُ في مكان بعيد، ويفصل البحر الطريق إليها، ولسان قومه وعاداتهم وأحوالهم مختلفة-تماماً-عن المؤمنين ذوي الأورمة العربية، والمحتد الصحراوي.

 

ولكن عند التمحيص والنظر الدقيق؛ تتجلى لنا الحكمة النبوية العالية والذكاء الاستراتيجي الفذ للنبي-صلى الله عليه وسلم-وإن الحبشة هي المكان الأنسب والأفضل؛ لهجرة الفئة المؤمنة وذلك لعدة أسباب:

1-بلاد الحبشة بعيدة عن نفوذ قريش التي كانت لها السيادة الروحية والدينية على سائر العرب أو على الأقل أغلبها، وبالتالي لو خرج إليها المؤمنون لن يكون في وسع قريش الضغط على صانع القرار في الحبشة؛ لإجباره على تسليمهم، أو حتى إخراجهم من البلاد، وهذا يظهر من فشل محاولات قريش المتكررة في استرداد المهاجرين بواسطة وفد زائر يقوده داهية قريش-وقتها-عمرو بن العاص قبل إسلامه.

 

2-أيضاً بلاد الحبشة رغم بعدها النسبي جغرافياً وديموغرافياً عن العرب وقريشٍ، إلا أنَّ العرب في الجاهلية كانوا يعرفونها-جيداً-بسبب الرحلات التجارية، والصفقات التي كانت تتم بين الأحباش والعرب، وللعرب زيارات كثيرة إليها خاصةً في أيام الشتاء، وقد ذكر المؤرخون أمثال: الطبري، وابن عبد البر، وابن حبان، وغيرهم، أنَّ أرض الحبشة كانت متجراً لقريش، يتجرون فيها، ويجدون فيها سعة من الرزق وأمناً.

 

3-عدْل ملك الحبشة وصلاحه، ولعل هذا السبب هو أظهر الأسباب وأوضحها وقد نص عليه-صراحةً-النَّبي-صلى الله عليه وسلم-عندما أشار على الصحابة بالخروج إلى الحبشة إذ قال لهم: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنَّ بها ملك لا يُظلم عنده أحدٌ) وهذا-إن دل فإنه-يدل على أمرين هامين:

 

أولهما: المعرفة الواسعة للنبي-صلى الله عليه وسلم-بأحوال الدولة، والملوك في المنطقة وأيُّهم يشتهر بالعدل أو غيره وهكذا.

 

ثانيهما: شهرة عدل النجاشي (ملك الحبشة) التي سارت بها الركبان؛ حتى وصلت إلى قلب الجزيرة العربية.

 

وسيظهر أثر ذلك العدل والصلاح عندما سيرفض قبول الرشوة من قريش؛ لإرجاع المهاجرين وإيمانه الفوري بدعوة الرسول-صلى الله عليه وسلم-وذلك لصحة معتقده في عيسى (عليه السلام).

 

الهجرة الأولى والعودة السريعة:

غادر الوفد الأول لهجرة الحبشة والمكون من عشرة رجال يقودهم عثمان بن مظعون وأربع نسوة، وذلك على وجه السرِّية والكتمان، في شهر رجب من العام الخامس من النبوة، ولم تشعر قريش بخروجهم إلا بعد فوات الأوان، فحاولت-عبثاً-إدراكهم ولكن الأمر قد فاتهم، ولما دخل المهاجرون الحبشة أقاموا في سلام وأمن، والراجح أنهم لم يدخلوا على النجاشي في تلك الهجرة، وما حدث من محاولات استرجاعهم من جانب قريش كانت في الهجرة الثانية.

 

ولكن لم يمض على المهاجرين في الحبشة سوى أقل من ثلاثة شهور؛ حتى عادوا إلى مكة مسرعين من غير إذن ولا أمر من النبي-صلى الله عليه وسلم-، وتلك العودة السريعة؛ فتحت المجال لولوج قصة أسطورية من أكذب الكذب ومن أبطل الافتراءات على الرسول-صلى الله عليه وسلم-هي قصة وأسطورة الغرانيق؛ أدَّتْ لولوجها إلى كتب التراث القديمة عند المؤرخين والمفسرين.

 

خلاصة أسطورة الغرانيق:

خلاصة الأسطورة على ما ذكرها المؤرخون، مثل: الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والمقدسي البزار، وعند ابن إسحاق، وغيرهم كثير، أنَّ المشركين كانوا يقولون: لو كان هذا الرجل-يعني رسول الله-يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، وكان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قد اشتد عليه ما نال وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنته ضلالتهم، وكان يتمنىَّ هداهم، فلما أنزل الله-عز وجل-سورة النجم قال: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى)[النجم:19-20]؛ ألقى الشيطان-عندها-كلمات فقال: (وإنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لهي ترتجى) وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وقالوا: إن محمداً قد رجع إلى دين قومه.

 

فلما بلغ رسول الله آخر النجم؛ سجد وسجد كل من حضر من مسلم ومشرك، غير أن الوليد بن المغيرة-وكان شيخاً كبيراً-رفع ملء كفه تراباً فسجد عليه، وفشت تلك الكلمة، وذلك السجود حتى بلغت أرض الحبشة، وظن المهاجرون أنَّ قريشاً قد أسلمت؛ فعادوا مسرعين إلى مكة؛ فوجدوا أنَّ الأمر مختلفٌ بالكلية فهاجروا ثانيةً.

 

الرد على الأسطورة:

بدايةً، لابد أن نعترف بالفضل الكبير لعلماء الإسلام من السابقين واللاحقين، خاصةً أهل الحديث منهم، فقد ردوا على ذلك الإفك المبين، بأقوى وأحسن البراهين، فقوضوا دعائمها-نقلاً وعقلاً-وردوا كيد المبطلين، والمستشرقين، الذين أفاضوا في نشر تلك الأسطورة؛ ليضيفوا عليها نوعاً من المصداقية.

 

وهذه طائفة من بعض الأدلة التي رد بها علماء الإسلام على تلك الأسطورة المكذوبة:

 

1-إن القرآن العظيم ليس من عند رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ولا يستطيع أن يقوله بشر، ولا يستطيع أحد أن يتقول الله-عز وجل-كما قال الله-عز وجل-:(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3-4] وقال-عز وجل-: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء:88].

 

ولقد حاول مدعو النبوة، مثل: مسيلمة الكذاب، وسجاح، وطليحة الأسدي محاكاة القرآن؛ فجاءت محاولاتهم مفضوحةً تافهةً عقيمةً ضحكت منها العقول السوية، كما أن القرآن الكريم محفوظ من رب العالمين حفظاً يمنع أيدي التحريف والعبث أنْ تنال منه، ولو بحرف واحد، كما سبق وأن فعلتْ مع الكتب السابقة قال-تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].

 

2-والشيطان الذي يقولون إنه تسلط على قراءة الرسول-صلى الله عليه وسلم-وألقى فيها الكلمات المذكورة؛ قد منعه الله-عز وجل-وحجبه عن التسلط على رسله الكرام، فالرسل معصومة من كيد الشياطين ووسوستهم، بل إنَّ الشيطان ليس له سبيل على عباد الله المخلصين والمؤمنين والمتوكلين، قال تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل:99]، وقال تعالى: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص:82-83]؛ فكيف-إذاً-يتسلط على خير الخلق، وسيد المرسلين، وإمام المخلصين، وأستاذ المتوكلين.

 

3-قصة الغرانيق وردت بروايات مختلفة، تتضارب مع بعضها البعض، فرواية تقول: (تلك الغرانيق العلا)، ورواية تقول (الغرانقة العلا)، ورواية تقول (أن شفاعتهم ترتجى) دون ذكر لفظ الغرانيق أو الغرانقة، ورواية تذكر الغرانيق بالتأنيث، ورواية تذكر بالتذكير، وهذا التضاد؛ يكشف أن القصة من وضع الزنادقة، كما قال ابن إسحاق: "وإن الغرض منها التشكيك في صدق تبليغ الرسول-صلى الله عليه وسلم-لرسالة ربه".

 

4- دليل آخر أقوى وأقطع، ذلك أن سياق سورة النجم، وأنه يدل على عدم احتمال ورود مسألة الغرانيق تلك؛ إذ يقول الله-عز وجل-: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى * أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ...) فالسياق القرآني صريح في أنَّ اللات والعزى (أسماء سماها المشركون هم وآباؤهم)؛ فلو كانت القصة صحيحة؛ فكيف يمدحهم ويقول: (إن شفاعتهن لترتجى) ثم يذمها في أربع آيات متعاقبة، فهذا عين الاضطراب والتناقض، الذي يدل على فساد القصة وبطلانها، فالمشركون حتى لو فرحوا بالمدح في آيتين؛ سينسون ذلك المدح ويغضبون بشدة؛ للذم الذي جاء بعده مباشرةً في أربع آيات؛ فكيف تروج تلك الأكاذيب على أصحاب العقول السليمة؟

 

5-أمَّا من ناحية اللُّغة فإن وصف العرب في الجاهلية لآلهتهم بأنها الغرانيق؛ لم يرد في نظْمٍ ولا نثرٍ، ولم يُعلم أنه جرى على ألسنتهم، وإنما ورد الغرنوق أو الغرنيق على أنه اسمٌ لطائر مائي أبيض أو أسود اللون، ووصف للشاب الأبيض الجميل.

 

6-أن تلك الأسطورة الباطلة؛ قد نالت أعز جانب في الإسلام، بل أم الدين وهي مسألة التوحيد، لبُّ دعوة النبي-صلى الله عليه وسلم-وأساسها والتي لم يقبل فيها-منذ اللحظة الأولى-أيَّ هوادة، أو شك، أو مفاوضات من جانب المشركين، وما الحاجة للرسول-صلى الله عليه وسلم-أن يهادن في مسألة ظل عدة سنوات يدعو إليها واحتمل هو وأصحابه في سبيل نشرها ألواناً من الأذى والتعذيب؟ ثم لماذا يهادن بعد أن أمن على نجاح تجربة الهجرة، وتيسر خروج المؤمنين لأرض الله الواسعة؟ ثم لماذا يهادن بعد أن أسلم عمر، ثم حمزة، وأعتز المسلمون بهما، وصارت لهم فيهما شوكة ومنعة.

 

ومن بيّن بطلان خبر الغرانيق من علماء الإسلام-قديماً-ابن إسحاق، والإمام أحمد، والبزار، والقاضي عياظ، والسهيلي، وابن حجر، وابن كثير، والذهبي، وحديثاً القاسمي، والألباني، وغيرهم.

 

الرد على شبهات المستشرقين:

وهنا ربما يثور سؤال من بعض الذين تأثروا بكتابات المستشرقين، أمثال: السيروليام موير (مستشرق أسكتلندي) وغيره، بخصوص قصة الغرانيق، وذلك بخصوص تفسير سجود المشركين مع الرسول-صلى الله عليه وسلم-بعدما قرأ سورة النجم، ولماذا سجدوا معه رغم شركهم وعداوتهم إليه وإلى دعوته؟

 

أولاً: خبر سجود المشركين مع الرسول-صلى الله عليه وسلم-صحيح مقطوع بصحته، بل يصل إلى حد التواتر؛ فقد أخرجه البخاري في كتاب سجود القرآن، ومسلم في كتاب المساجد، وأبو داود في الصلاة، والترمذي في الصلاة، والنسائي في الافتتاح، من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-: أن النبي-صلى الله عليه وسلم-سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. وفي رواية أخرى-عندهم-عن ابن عباس-أيضاً-أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قرأ سورة النجم فسجد لها؛ فما بقي أحد من القوم إلا سجد.

 

ثانياً: عن تفسير سجود المشركين مع الرسول-صلى الله عليه وسلم-فسببه-والله أعلم-روعة وجمال البيان القرآني واستحواذه على مجامع قلوب المشركين، فقد خرج عليهم الرسول-صلى الله عليه وسلم-وفي أنديتهم بصحن الكعبة؛ فاجأهم بتلاوة آيات سورة النجم ذات المقاطع القصيرة؛ فبهرتهم قوة الآيات الرائعة، وقد قال ابن مسعود:" أن سورة النجم هي أول سورة جهر بها الرسول-صلى الله عليه وسلم-كاملة على مسامع المشركين"، فلما وصل الرسول إلى آخر السورة وسجد؛ لم يتمالك أحد نفسه حتى خروا لله سجداً وهم داخرين، والمشركون من قبل كانوا يعترفون بإعجاز القرآن وروعته وجماله؛ كما ورد ذلك-من قبل-في شهادة الوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، والنضر بن الحارث، وحتى أبا جهل نفسه؛ وقد أقروا-جميعاً-بأنه ليس من كلام البشر، وليس له نظير من شعر، ولا نثر، ولا سحر، بل أن الواحد فيهم كان يمكث الليل بطوله؛ ينصت لتلاوة النبي-صلى الله عليه وسلم- في بيته على وجه الخفية والاستتار؛ حتى لا يراه باقي المشركين، كما ورد في خبر أبي سفيان، والأخنس بن شريق، وأبي جهل عند ابن إسحاق في السيرة بسند صحيح.

 

الشبهة الثانية: التي أثارها المستشرقون، هي كثرة روايات القصة وورودها في الكثير من كتب التاريخ والسيرة والتفسير، وكثرة الروايات-حتى ولو ضعيفة-تدل على أن القصة-أصلاً-لابد من الاعتناء بها.

 

والرد على تلك الشبهة يكون بتحقيق القصة تاريخياً، وتفسيرها عقائدياً، فكثرة الروايات تدل-فعلاً-على أن للقصة أصل، ولكن كيف يكون له رائحة من الصحة؛ وقد أبطلها أهل العلم نقلاً وعقلاً، سنداً ومتناً؟ وهنا يأتي دور التحقيق التاريخي الذي يضع في اعتباره الأصول العقدية والعلمية في تحقيق الحدث التاريخي.

 

وعلى هذا الأساس يكون توجيه القصة تاريخياً وعقائدياً، بمعرفة رد فعل المشركين؛ بعدما بهرتهم روعة آيات سورة النجم؛ فسجدوا مع الرسول-صلى الله عليه وسلم-فبعد أن سجدوا أخذوا في لوم بعضهم البعض، وانهال عليهم النكير من كل جانب، خاصة من جانب الذين لم يشهدوا الموقف، وكان المشركون كلما مال أحد إلى كلام الرسول وجلس إليه، حتى ولو لم يأمن به؛ اتهموه، ووبخوه، وحاصروه، وضغطوا عليه؛ حتى يترك مجالسة الرسول، وكانت الشبهات لا تستثني أحداً، فقد طالت بعض رؤساء قريش، مثل: عتبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وقريش كانت سريعة الشك تجاه هذا الأمر بشدة، لذلك اشتد الإنكار والاتهام لكل من سجد، وعندها قرر المشركون الخروج من تلك الأزمة والاعتذار عن السجود والافتراء والكذب على رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بأنه قد أثنى على آلهتهم في قرآنه وقال عنهم (تلك الغرانيق العلى......) ومن هنا كان أصل القصة، والتي استغلها أعداء الإسلام وقلبوا معناها وإسنادها؛ لتكون سبة للإسلام ورسوله، بدلاً من أن تكون على المشركين الكاذبين المفترين، ولكن بما نفسر الرجوع السريع للمهاجرين؟

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
fati
08-10-2018

salam

عضو نشط
زينب
27-09-2019

اين هي النتائج ؟؟???

هناك مقال آخر يكمل السلسلة فلعلك تتكرمين بالاطلاع عليه وفقكم الله تعالى