النهاية

إبراهيم بوبشيت

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/أهمية التأمل والتفكر في كيفية القدوم على الله 2/الإنسان مجبول على الطغيان ونعمة توفيقه للعمل الصالح 3/النهايات الأربع للإنسان 4/بعض الآثار الإيجابية للتفكر والتأمل في النهايات 5/أقسام نهايات الناس عند القدوم على الله وفضل السابقين بالخيرات 6/حال من كانت نهايته حسنة ومن كانت نهايته سيئة يوم القيامة 7/تحسر العصاة عند الموت

اقتباس

عندما يتأمل الإنسان في هذه الدنيا، يرى أن لها نهايات، فالصحة نهايتها بالمرض، والغنى نهايته بالفقر، والعمل نهايته بالتقاعد، أو القعود، والحكم نهايته بالزوال، والدنيا بأكملها نهايتها بالموت، والحياة يقدرها الله -جل وعلا- كيفما شاء.
فالعبد المؤمن يفكر دائما في النهايات، فالصداقة إذا أعقبها خلاف، انظروا إلى أثرها، والزواج إذا أعقبه الطلاق، انظروا إلى نهايته، والتجارة إذا أعقبها الدين، انظروا إلى ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده سبحانه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -جل وعلا- من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أشهد أنه قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، فكشف الله به الغمة، وأنار الله -جل وعلا- به أعينا عميا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أنا العبد الذي كسب الذنوبا *** وصدته الأماني أن يتوبا

 

إلهي قلت، وقولك الحق: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102].

 

معاشر الأحبة: كيف القدوم على الله؟

 

عندما يتأمل الإنسان في هذه الدنيا، يرى أن لها نهايات، فالصحة نهايتها بالمرض، والغنى نهايته بالفقر، والعمل نهايته بالتقاعد، أو القعود، والحكم نهايته بالزوال، والدنيا بأكملها نهايتها بالموت، والحياة يقدرها الله -جل وعلا- كيفما شاء.

 

فالعبد المؤمن يفكر دائما في النهايات، فالصداقة إذا أعقبها خلاف، انظروا إلى أثرها، والزواج إذا أعقبه الطلاق، انظروا إلى نهايته، والتجارة إذا أعقبها الدين، انظروا إلى تجارته وحاله، والسعادة إذا كانت نهايتها الهم والغم، انظروا إلى حاله.

 

فيا عباد الله: دعوني وإياكم نبحر دقائق معدودات، نتفكر فيها حال عبد من عباد الله، كيف يلقى الله؟ كيف يعانق عملك الصالح الجنة؟ كيف الود والمحبة، تلقاها في لحظة من اللحظات؟

 

سئل الإمام أبو حازم –عليه رحمه الله تعالى-: كيف القدوم على الله؟ قال: "أما المطيع، فقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه، وأما العاصي، فكقدوم الآبق على سيده الغضبان".

 

ذاك يأتي ودمع الفرح قد غلب، وهذا يأتي والذل قد غلب! هذا هو القدوم على الله.

 

قال ربنا -تعالى-: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ).

 

تأمل هذه الكلمة التي هي وعد من الله لك: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف: 110].

 

النفس البشرية -معاشر الأحبة-: جبنت على الطغيان، وعلى الهوى، وعلى عصيان الرحمن.

 

النفس البشرية جبلت على أمور، لذلك قال الله -جل وعلا-: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)[الليل: 5-7].

 

وإن أعظم شيء ييسره الله لك، أن يدلك على العمل الصالح.

 

قال أحد الصحابة -رضوان الله عليه-: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة، كما قال ابن الجوزي –عليه رحمه الله- وعظنا موعظة وجلت لها قلوبنا، وذرفت منها العيون، فقام سعد بن أبي وقاص، وقال: "يا رسول الله إذاً نتمنى الموت" فقال: "لا يا سعد إن كان ولا بد، فالمؤمن لا يزيده طوله العمر إلا إحسانا في العمل".

 

قال أحد السلف: " «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان غده شرا من يومه، فهو ملعون".

 

العبد المؤمن يتذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري، قال: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ".

 

إذا كانت نهاية الصحة مرض بلا طاعة، ونهاية الفراغ معصية وغفلة، ماذا عساكم أن تنتظروا؟

 

النهايات إذا نزلت بالإنسان استشعر لحظة، قال عنها عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه".

 

إنها النهاية التي روتها أمنا عائشة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما عند البخاري أن في النهايات يشتاق الإنسان ليبني حياة جديدة، ومرحلة جديدة، ها أنتم في كل يوم تودعون أسبوعا، أو تودعون يوما، أو تودعون سنة.

 

قال ابن الجوزي -عليه رحمة الله تعالى-: "وما في الحياة الدنيا في الآخرة إلا كشهر رمضان يصومه المؤمن، ويوم الفطر، يكون سعادة له، فكذلك المؤمن الدنيا كلها، كشهر رمضان، ويوم الفطر، هو يوم لقاء الله".

 

ها نحن كل يوم نودع حبيبا ونترك قريبا، وصاحبا، ولكن: ما النهاية أيبشر بجنة أو موعود بنار؟ أو ما هي النهاية؟

 

يتفكر العبد منا، فيسأل نفسه هذه الأسئلة: ما نهاية طفولتك؟ وما نهاية مراهقتك؟ وما نهاية شبابك؟ وما نهاية شيخوختك؟

 

احفظها في أربع، احفظها إن كنت تريد أن تقيم حياتك، بأنك من أسعد الناس، فتأمل هذه الأربعة، إن أنهيت طفولتك ومراهقتك وأنت في عفة ونزاهة، وقد نجوت من ذل العصيان والفوز بطاعة الرحمن؛ فهنيئا لك، وإن أنهيت شبابك بطاعة وقرب؛ فهنيئا لك، وإن أنهيت شيخوختك وكبر سنك، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- دائما ما يدعو بهذا الدعاء كما عند الإمام مسلم يقول: "اللَّهُمَّ أحيني مَا كَانَت الْحَيَاة خيرا لي، وتوفني إِذا كَانَت الْوَفَاة خيرا لي".

 

عندما يتذكر الإنسان -أيها الأحبة-: أن النهايات هي جلسة محاسبة للإنسان مع نفسه، قال الله -جل وعلا-: (لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)[المدثر: 37].

 

لمن شاء منكم أن يتقدم في الجنة، لمن شاء منكم أن يتقدم في صفوف القدوم على الله -تعالى-.

 

لو ضربت مثالا لملك من ملوك الدنيا من يكون قريبا منه، إنما هم الذين  يتقربون إليه، والذين يثق فيهم، والذين أعطاهم الولاية.

 

أما غيرهم، فبعداء عنه، لا يعرفونه.

 

فكذلك ربنا، وهو أجل وأعظم سبحانه وتعالى يقرب إليه من تقرب، ويبعد عنه من تباعد، ويرفع درجات من شاء.

 

إن العبد المؤمن -معاشر الأحبة-: ليدرك أن هذه الدنيا في الحقيقة ممرات قصيرة، وأوقات يسيرة، قال ربنا -تعالى-: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ)[المؤمنون: 112-113].

 

انظر إلى ولدك كم عمره؟

 

عشر أو عشرين، لقد مرت أيامهم سريعة.

 

انظر إلى حياتك كم عمرك أربعين أم خمسين أو ستين؟

 

لقد مضت بكرباتها وأفراحها وأحزانها.

 

لقد مضت حياتك بأكملها، وأنت تودع عاما بعد عام.

 

كم في القبور؟ لو تكلموا فما عساهم أن ينصحوننا؟

 

لو تكلم الموتى ما عساهم أن يقولون، لو تكلم أولئك ما عساهم أن ينطقوا؟

 

أما يتفكر عبد، قال الله له: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[الملك: 22].

 

إن النهايات التي لو فكر فيها كل إنسان منا لكان أحرى به أن ينهي يومه، أو شهره، أو عامه، وقد استودع رصيدا عظيما في الجنة، ينتظره يوم القدوم على الله.

 

قال أحدهم بقوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ)[الكهف: 49].

 

صحائف سودوها، فسودت وجوههم: (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49].

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله، فيا ربنا أحينا إذا كانت الحياة خيرا لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيرا لنا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، ثم الحمد لله، ثم الحمد لله، قال الله -عز وجل-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)[فاطر: 32].

 

النهاية في القدوم على الله على ثلاثة أنواع، تأملها:

 

قدوم من ظلم نفسه.

 

وقدوم من تساوت عنده الطاعة والمعصية، خلط عملا صالحا بآخر سيئا.

 

والقدوم الثالث: سابق بالخيرات: (فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) [الواقعة: 88-89].

 

إنه السعيد الذي يدرك تلك اللحظة، وتلك النهاية، لا أحد يحب أي وظيفة فيها مقابلة، ولا يتمنى المقابلة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "من نوقش الحساب هلك".

 

فكيف بالمقابلة الأخيرة؟!

 

إنها النهاية التي تأملها، فسوف تذكر ما أقول لك في ذلك اليوم، يوم أن تقف بين يدي من يحاسبك، فإن كنت في النهاية من الفائزين، فتأملها، وأنت يعلو صوتك الآفاق، ويعلو صوتك كل مكان، وأنت تردد قائلا: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ)[الحاقة: 19].

 

تلك اللحظة التي بكل فخر، وبكل اعتزاز، تفخر بما يوجد في كتابك، تفخر بما يوجد عندك من عمل، تفخر بما يوجد، وأنت تقول: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ)[الحاقة: 19].

 

تلك اللحظة التي تكون فيها من أسعد الناس.

 

إنها النهاية التي كنت على استعداد تام، فإذا بك ترى القرآن شفيعا، وترى الصلاة حجة، وترى الصيام مباركا، وترى الصدقة والطاعة التي تربيت عليها تضلك، فترى خيرا يجاورك ويؤنسك.

 

يا لها من لحظة، وأنت تقول: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ)[الحاقة: 19].

 

وأما الآخر، فإنه سيتحسر: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ) [الحاقة: 25-26].

 

يا الله، إنها النهاية التي كان لا يتمناها.

 

إنه اليوم الذي أصبحت فيه السرائر علانية.

 

إنه اليوم الذي يعلم الإنسان فيه ما قدم وما آخر، وما أسر وما أعلن.

 

إنه ذلك اليوم، فأي الفريقين تكون أنت وأكون أنا؟

 

إنها نهاية، إنك تودع عاما -أيها المؤمن الكريم-: وتستقبل عاما، وكل يوم تودع يوما، وتستقبل يوما، فليكن ذلك لك واعظا.

 

اغتنم شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل ، وحياتك قبل موتك.

 

واعلم أن هذه الدنيا ما هي إلا وصية جبريل لمحمد -صلى الله عليه وسلم- عندما، قال له: "يَا مُحَمَّدُ أَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ؛ فَإِنَّكَ مُفَارِقُه، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ؛ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَعِشْ مَا شِئْتَ؛ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ".

 

هذه النهايات، فاختم حياتك بما يحب الله، أو يكون عامك القادم خيرا من عامك الماضي، أو يكون أسبوعك القادم خيرا من أسبوعك الماضي، أو تكون حياتك وعلمك ودراستك حجة لك أو حجة عليك، أو تكون مراهقتك حجة على طفولتك، أو يكون شبابك حجة على مراهقتك، أو تكون شيخوختك حجة على شبابك.

 

يا سعادة من فاز بالأربع المراحل، ويا هناء من فاز يوم الوقوف بين يدي الله.

 

في النهاية، إذا حضر ملك الموت الذي وعدني الله -جل وعلا- به، فقال سبحانه وتعالى مبينا لنا هذه النهايات التي سوف تمر بنا كلنا، ستمر بحياتنا طرفة عين: (حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ)[النساء: 18].

 

تلك النهاية ما تنفع فيها الكلمات، ولا الشفاعات، ولا غيرها: (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)[المؤمنون: 99- 100].

 

جاء الجواب: (كلا).

 

ليس هناك إرجاع إنما هو عمل قدمته، وعمل أخرته، فتجازى بالإحسان إحسانا، وبالسيئات، نسأل الله أن تكون عفوا وغفرانا.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين...

 

اللهم اجعلنا من طال عمره، وحسن عمله، ولا تجعلنا من طال عمره، وساء عمله.

 

 

 

المرفقات

1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات