النفس القاروني

الشيخ إبراهيم بن سعد العامر

2023-09-19 - 1445/03/04
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

ويزداد قُبحا في حقّ علماء الشريعة، وفقهاء الإسلام، فهم المبلغون لشريعة الله والأقرب لفهم مراد الله، وربّ عالم قد غشى الكبر قلبه، وعامي جاش بالتواضع فؤاده.

مُتعتُه في التّباهي، فلا يخرج إلا بكامل أُبّهَتِه، تتمايَل بالغَطْرَسَة مَواكِبُه، وتُدوّي بالعَجْرَفَة زِينتُه، يَرْمُق أعين النّاظِرين فَيَمْتَلئ زَهْوا، ويُصْغِي لعبارات الإعجاب فيزداد تَيْها، حتى ثَقُل على الأرض بَطَرُه!

 

تَدّخل عقلاء القوم فنصحوه، فقطَع موعظتهم: (إنما أوتيته على علم عندي) جُملة واحدة هَوَت به إلى سخط الله! فَخُسِفَ بِجَامِع الدّنْيا وما جَمَع، وهو في أبْهى حُلّة وأكمل زِينة!

 

ويْكَأَنّ الله لم يكن له رازقا، وللأسباب خالقا، وللظروف مُهَيّئا!

 

ويكأنّ الله لم يخلق قبلَه من كان أغنى وأقوى!

 

ويكأنّ سُنّة الله لم تجرِ بعقوبة من تكبر واستعلى!

 

ابْتلاه الله بالخير، فتردّى، ولم يَعْبُر إلى شاطئ الفلاح.

 

ما خالط الكِبر شيئا إلا أفسده، والأفعال المباحة إن لوّثها كبر انْقلَبت بَغْيا، حتى وإن كانت مشية أو لباسا أو تَمْشِيط شعر.

 

قال صلى الله عليه وسلم: "بينما رجلٌ يمشي في حُلَّةٍ تُعجِبُه نفسُه، مُرجِّلٌ رأسه، يختال في مشيته، إذ خسَفَ الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة"(متفق عليه).

 

الإعراض بالوجه وإمالته تكبرا، والتبختر في المشية، محرم وهي مجرد حركات جسدية، فكيف بما هو أعظم! (وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَال فَخُور)[لقمان:١٨].

 

ربما يعصف النّفَس القاروني بالقلب من خلال مركوب فارِه، ولباس لافِت، ومنزل مُنيف!

 

النفس القاروني ليس مُختصا بطبقة أو لَون أو عِرق، فكم من أمير مُتواضع، وحقير مُتَعاظِم، وكم من غنيٍ خافضٍ لجناحِه وفقير نافِشٍ لريشِه. قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم، شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر"[مسلم: 107].

 

لمّا ضعُف الدّافع عَظُمت العقوبة، إذ لا يوجد عند الفقير المُستكبِر دافع للكبر إلا فساد قلبِه وسوء طويته! لهذا كان الكبر لِمثلِه أشْنَع، والعقوبة أشد.

 

إن التّعاظُم على الخلق بأي طريقة كانت هو في ميزان الشريعة قبيح مُحرم.

 

ويزداد قُبحا في حقّ علماء الشريعة، وفقهاء الإسلام، فهم المبلغون لشريعة الله والأقرب لفهم مراد الله، وربّ عالم قد غشى الكبر قلبه، وعامي جاش بالتواضع فؤاده.

 

نَفَس شيطاني يُفسِد عبادة العابدين، ويحبط وَرَع النّاسِكين، ويُذهب زُهد الزاهدين!

 

كم في دَوَاخلنا من هذا النّفَس القاروني! يُغالِبُنا ونُغالِبه. فمُستقِلّ ومستكثر! يحكمُه ما وَقَر في القلب، ومن غفل أوشك أن يُنْشِب فيه بَراثِنه.

 

روى أهل السير عند فتح بيت المقدس، وتَسَلُّم عمر لمفاتيحها، أنه قُدِّمِت له دابة من مَرْكوب الأكابر، فما كادت تنطلق حتى سارع بالنزول عن ظهرها، وطلب دابته التي جاء بها من المدينة.

 

كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كثير المُراقبة لقلبه، والمُحاسبة لنفسه، فشتّان بين الفاروق عُمَر وبين التَيَّاه قارون!  

 

يحق للإنسان أن يسْعَد بما حَباه الله من النّعم في النّسب والحَسب، والغِنى والقوة، والجمال والذكاء والذوق، وكلّ ما يحق للإنسان أن يفرح به الفرح المشروع مالم يُخالِطْه غرور وتجبُّر. ومالم يكن دافعه التعالي على خلق الله، واحتقارهم.

 

أعظم بشريعة الإسلام كَمالا! عدالة بكل تجلّياتها! حتى في المَشاعر!

 

تكامُل بين الفرد والمجتمع، قد علم كل حدودَه وحقوقه فلا يَبْغِيان.

 

 تَجَمُّل من غير تَرَفُّع، وإظهار للنعمة من غير تكبّر!

 

في الفقر حثّ على تراحُم، وفي الغنى نهي عن بَطَر!

 

وسط بين التبذير والتَّقْتِير، وتذْكير بالدّارين، فمتعة في الدّنيا وعِمارة للآخرة.

 

الفَرد لا يظلم الناس فيَحْقِرَهُم ويُحَقِّرَهُم، وليس له في الكِبر نصيب لأنه مُعْطَى قبل أن يكون مُعطِيا، ومَوهوب قبل أن يكون واهبا، ومُتَفَضَّل عليه قبل أن يكون مُتَفَضِّلا، ويعلم أن ما أوتيه ليس استحقاقا بل هو هِبة من هبات الله وإحسان ومنّة، والموّفَق إنْ تحدّث فقلبُه ينبض لله شكرا، ولسانه يلْهَج عِرفانا وحمْدا.

 

قال الله: (إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ * وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓۚ أَوَ لَمۡ يَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةً وَأَكۡثَرُ جَمۡعاۚ وَلَا يُسۡ‍َٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ فِي زِينَتِهِۦۖ قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا يَٰلَيۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيم * وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَيۡلَكُمۡ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيۡر لِّمَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحاۚ وَلَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلصَّٰبِرُونَ * فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَة يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ * وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ يَقُولُونَ وَيۡكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُۖ لَوۡلَآ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَيۡكَأَنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ)[القصص: ٨٢].

                                 

                                     كتبه إبراهيم بن سعد العامر 26 شوال 1444للهجرة  

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات